لا تزال الحلول السياسية تفقد طريقها إلى المحافظات الجنوبية. وكل يوم يمر، يقدم المزيد من الدلائل على ان المؤشرات تسير في الاتجاه الخاطئ. الاجراءات الميدانية المتبعة حتى الآن، لا تقدم أي دليل ملموس على حصول بعض التقدم،..
كما تؤشر تلك الاجراءات إلى ان خيار السلاح والفوضى يفوقان الخيارات السياسية والسلمية الاخرى، خاصة في ظل انعدام أي مقاربة قابلة للتحقيق ميدانيا على المدى القريب أو المتوسط، بحيث توازن بين الحلول السياسية التي يطرحها السياسيون ومراكز الابحاث المتخصصة، وبين مطالب الحراك الجنوبي والسلطات الرسمية الحاكمة.
في الاسبوعين الماضيين فقط، قدمت التطورات الميدانية المتفرقة مزيدا من الدلائل على هذا الاتجاه. ودخلت عدن مربع العنف بعد انفجار ثلاث عبوات ناسفة على الاقل، أدى انفجار احداها إلى وفاة العقيد "عبد الله الثريا"، واصابة رجل أمن أخر واثنين من المواطنين.
وفيما تضاربت المعلومات حول محاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع والامن الدكتور رشاد العليمي في منطقة الحبيلين بمحافظة لحج، اعلن عن نجاة نائب رئيس الوزراء لشؤون السلطة المحلية صادق أمين أبو راس من محاولة اغتيال في محافظة شبوة بعد مشاركته في مهرجان بمناسبة ذكرى الوحدة.
كما استمر التصعيد الامني في محافظة الضالع، وقال المرصد اليمني لحقوق الانسان أن المحافظة تشهد يوميا حالات متعددة من اطلاق النار العشوائي الذي يستهدف المناطق السكانية والتجمعات البشرية والاماكن العامة دون أن تعرف مصادره.
معربا عن قلقه الشديد من استمرار الاضطرابات الأمنية وانتهاكات القانون وما وصلت إليه الأوضاع من فوضى مفتعلة وإطلاق نار مجهول الهوية بشكل شبه يومي يهدد حياة وأمن المواطنين ويبشر بمزيد من العنف.
أما آخر الدراسات البحثية المعمقة والتي تناولت "التحدي السياسي للحراك الجنوبي في اليمن"، وحاولت المقاربة بين الحلول السياسية والاجراءات الامنية الاخرى، فقد قدمها مركز كارنيغي للسلام، والذي يعني بعمل مشاريع وأبحاث معمقة للتحديات التي تواجه التنمية والاصلاح السياسي والاقتصادي في دول الشرق الاوسط.
خرجت الدراسة بعدة توصيات واستخلاصات لمقاربة المشكلة الجنوبية، لكن الحلول السياسية التي أفصح عنها التقرير، بدت لدى مقارنتها بما يجري الآن على أرض الواقع، ومع معرفة توجهات طرفي الازمة، أشبه بحلم بعيد المنال.
يقول التقرير الذي قدمه "ستيفن داي" وهو استاذ مساعد في جامعة رولنز الأمريكية ومؤلف كتاب عن الوحدة اليمنية وكتاب آخر سوف يصدر قريبا عن الوحدة اليمنية أيضا أن "التعامل مع الحراك الجنوبي على أنه مجرد تهديد أمني مرتبط بمشكلة الارهاب من دون معالجة المشاكل السياسية الاساسية التي أدت إلى قيامه يمكن ان يصبح نبوءة مخطئة تحقق ذاتها بذاتها".
وأوصى الزعماء العرب لا الزعماء الغربيين أن يمثلوا المجتمع الدولي ويضغطوا على الرئيس علي عبد الله صالح من أجل دفعه لتبني الحلول السياسية لتظلمات الحراك الجنوبي. ومن بين الحلول المطروحة، القضاء على الفساد واحترام حقوق الانسان والسماح للمعارضين السياسيين بأن ينظموا أنفسهم سلميا، والافراج عن السجناء السياسيين، والتراجع عن التجاوزات الاخيرة على حرية الصحافة.
لكن ما يجري على أرض الواقع، يشير إلى حدوث عكس ذلك تماما. أشار التقرير أيضا إلى حاجة الحراك الجنوبي والحكومة إلى بدء محادثات تشمل القادة الجنوبيين في المنفى. غير أن الحوار الذي يتحدث عنه اليمنيون في مثل هذه المواقف عادة ما ينتهي إلى لغة الرصاص والنار مثلما جرى في حرب صيف 94م وفي صعدة، ويكاد حاليا ان يجد طريقه إلى الجنوب.
وفي حين يؤكد بأن الهيكل المستقبلي للدولة اليمنية هو الذي سيحدد ما اذا كانت المصالحة الوطنية ممكنة. يرى أن "الافضل نقل سلطة الحكومة إلى نظام فيدرالي أو كونفدارالي جديد لبناء الاحترام بين الاقاليم والتحفيز على المزيد من التنمية الاقتصادية."
وهنا، ربما تناسى التقرير تأكيد المصادر الرسمية المتكرر بأن طرح هذه الحلول كانت سابقة لقيام الوحدة، وأن الطرف الحاكم الآن، فضل المغامرة والدخول في حرب صيف 94م مع شريكه الآخر بعد أن طرحت مثل هذه الحلول، فكيف سيكون الرد حاليا؟
اوضح التقرير أيضا بأن الحراك الجنوبي يتغذى من التظلمات التي اعقبت الوحدة ومن حرب صيف 94م ومن فشل الحكومة في تطبيق اللامركزية أو توسيع الحكومة المحلية. وأشار إلى ان الحكومة تقاعست عن تطبيق اللامركزية بعد حرب 94م ووصفت الذين ضغطوا من أجل هذا التغيير بأنهم انفصاليون ومتعاونون مع قادة الحزب الاشتراكي في المنفى، وأن الامر استغرق أكثر من خمس سنوات بالنسبة إلى الحكومة لتمرير تشريع السلطة المحلية.
وقال أنه "بمجرد ان بدأت المجالس المحلية المنتخبة اعمالها وسمح لها فقط بالتشاور مع المسؤولين الذين يمسكون بزمام السلطة المحلية الحقيقية والمعينين من قبل الحكومة المركزية، لكنها لم تحصل على موارد كافية للقيام بعملها. لذلك أثبتت التجربة أنها مخيبة جدا للآمال."
مؤكدا انه في منتصف العقد الاول من الالفية الجديدة كان معظم المواطنين في الجنوب قد فقدوا الثقة في صالح وادركوا انه عازم على الابقاء على قبضته المحكمة على الايرادات الوطنية وتخطيط السياسات.
واذا كان هذا قبل خمس سنوات، فان عنصر فقدان الثقة بأي اجراءات سياسية تأتي من السلطة هو اليوم في أسوأ حالاته بعد أن تراكمت الاحتقانات.
تحدث "ستيفن داي" عن اكتساب الحراك زخما متصاعدا بسبب ما قال ان الرئيس صالح استنفد قدرته على تحريض قبيلة ضد قبيلة وفصيل ضد فصيل في الجنوب. لكنه عاد إلى ما يمكن اعتباره البدايات الحقيقية لتشكل الحراك الجنوبي، وذلك بالاشارة إلى التقاء مجموعة من كبار الشخصيات المحسوبة على مناطق المحافظات الجنوبية في ديسمبر 2001م، وكان من بينهم اعضاء في البرلمان وزعماء احزاب سياسية ومنظمات وقبائل ورجال أعمال.
ويضيف "وضعت المجموعة ( الملتقى العام لابناء المحافظات الجنوبية والشرقية) مسودة رسالة شكوى إلى صالح تسرد قائمة المظالم الشعبية في مناطقهم. واستغل رئيسها على القفيش صداقته الطويلة مع الرئيس لتسليم رسالة المجموعة إلى مكتب الاخير، وبالتالي تشجيعه على رد خاص. وبعد مرور شهر من دون أن يتلقى كلمة واحدة كشف رئيس المجموعة تفاصيل ما حدث."
متابعا القول "كان رد فعل صالح حادا، اذ وجه على الفور وسائل الاعلام التي تديرها الحكومة إلى تلفيق الفضائح حول المنتدى العام ورئيسه. وحينها ادركت الشخصيات الجنوبية البارزة، بما في ذلك شيوخ العشائر، انه لا المناشدات الخاصة ولا العلنية من شأنها اقناع النظام بالتغيير الذي لن يأتي الا من خلال المعارضة المنظمة."
ويعتقد الباحث بأن نجاح تمرد الحوثيين في محافظة صعدة " ألهم الجنوبيين الذين شعروا ان الوقت قد حان لبدء معارضة جماهيرية للنظام." موضحا أن الحراك الجنوبي هو أكثر بكثير من مجرد تهديد أمني مرتبط بتنظيم القاعدة. اذ هو اولا وقبل كل شيء، حركة سياسية تسعى إلى التعويض عن فشل عملية التوحيد في التسعينيات والعجز في معالجة المشاكل الكامنة في الجنوب، حسب قوله.
وبالتالي، فان الحيلولة دون تحوله إلى قوة راديكالية لها صلات قوية مع تنظيم القاعدة يتطلب تضميد جراح توحيد اليمن والمشاكل السياسية التي غذت صعود الحراك. ويقول ايضا أن " فكرة اليمن بوصفه دولة واحدة ذات تاريخ مشترك تنطوي على مشاكل: فقد كانت تجارب الجنوبيين قبل التوحيد مختلفة جدا عن تجارب اولئك الذين يعيشون في الشمال، وهي ظلت مختلفة من نواح هامة بعد العام 1990م." ليؤكد ان الحراك يمثل مشكلة على عكس المعارضة المحلية الاخرى في البلاد، وأنه يتطلب حلا سياسيا لا عسكريا أو حلا آخر على طريقة محاربة الارهاب.
كما يطالب الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المعنية، عدم مساندة أي حملة عسكرية موسعة ضد الحراك الجنوبي، والدفع بعملية الاستجابة للتظلمات السياسية ومشكلة التنمية الاقتصادية والمصالحة الوطنية الصعبة.
وفيما يؤكد بأن الخطوات المطلوبة لتحقيق مزيد من الاستقرار في اليمن واضحة. يرى أن الحكومة اليمنية يجب ان تصبح أكثر شفافية وأقل فسادا، وأنه لابد من مراعاة حقوق الانسان والسماح للمعارضة السياسية بتنظم نفسها سلميا، والافراج عن السجناء السياسيين، وانتهاء حملة الحكومة على الصحافة.
وهو الامر الذي يعد في نظر كثير من المراقبين والمحللين السياسيين، مجرد أضغاث أحلام بسبب اللجوء إلى اجراءات شكلية في حلول الازمات، فضلا عن وجود محاولات ومؤشرات كثيرة على بقائها مفتوحة، وافتراق طرفي الازمة في الجنوب وعدم وجود لغة وسط بينهما.