لم يكن لقاء وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو مع وزير الصناعة الإسرائيلي (بن اليعيازر) في بروكسل مستغربًا بحال، وما كان على العارفين بالتعقيدات الداخلية للحالة التركية، وبالتشابك في علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة والغرب سوى انتظار مثل هذا التطور بين يوم وآخر.
لم يكن بوسع حكومة أردوغان التي تَسْتَنِد إلى قواعدها الشعبية (الإسلامية منها على وَجْه الخصوص)، في مواجهة استمرار التآمر الداخلي من طرف العسكر وطوائف العلمانيين، لم يكن بوسعها سوى التجاوب مع حجم الغضب الذي أصاب تلك القواعِد جراء الجريمة الصهيونية البشعة في عَرْض المتوسط بحق أسطول الحرية.
نقول ذلك لأن أردوغان لم يَحْسِم بعدُ صراعَه المرير مع العسكر والعلمانيين الذين لا يزالون متجذّرين في مفاصل الدولة يتربصون به وبحزبه الدوائر، وإذا ما انفَضَّت الجماهير من حوله ولو بنسبة محدودة، فسيؤدي ذلك إلى إضعافه أمام الرياح الداخلية، فيما لن يُسْعِفه رضا القوى الخارجية التي يصعب عليها التدخل في الشأن الديمقراطي الداخلي بدعم طرف وإبعاد آخر. هذا بفرض ارتياحها لأردوغان أكثر من سواه، الأمر الذي لا يبدو متوقعًا؛ لأن الأخير مهما فعل لن يكون أقرب إليها من القوى العلمانية.
من هنا كان على أردوغان أن يتبنَّى خطابًا واضحًا وحاسمًا في مواجهة الجريمة الإسرائيلية يَحْفَظ له قواعده الشعبية، مع ضرورة الإشارة إلى أن الموقف المذكور هو الأحبّ إليه وإلى فريقه المقرَّب ومن ضمنهم وزير الخارجية ورئيس الدولة.
ربما قدّر أردوغان أن الغرب قد يَتَفَهّم غضبته ومواقفه في ظل بشاعة الجريمة الإسرائيلية، الأمر الذي يبدو صحيحًا بقدر ما؛ لأن مواقفه التي عبّر عنها خلال الأسابيع الماضية لم تكن لتمرّ بسهولة لو كان المشهد عاديًا ولم تكن ثَمّة جريمة في صلب المشهد.
على أنَّ الولايات المتحدة بانحيازها المُفْرِط للهواجس الإسرائيلية، ومعها بعض الأوروبيين وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا، لم تكن لتسكت على تصاعد نَبْرة العداء التركي للكيان الصهيوني، ولا لمسلسل المواقف الذي تجاوز- برأيها- الحدود، لاسيما أنها تدرك أن أي تصعيد يمنح المزيد من القوة لمحور الممانعة والمقاومة في المنطقة سيضرّ بها أيضًا، وهي التي لم تخرج بعدُ من ورطتها في العراق وأفغانستان.
وفي هذا السياق كان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية واضحًا حين قال مُعلِّقًا على لقاء أوغلو- بن اليعيازر: إنّ "العلاقات بين تركيا وإسرائيل لا تخدم مصالح المنطقة فحسب، بل تدعم مصالحنا في المنطقة أيضًا".
لسنا بحاجة إلى كثير من التحليل كي ندرك أية ضغوط مُورِست على حكومة أردوغان كي تبدأ رحلة العودة إلى الخلف في مسلسل مواقفها حيال إسرائيل- يبدو تصعيد حزب العمال الكردستاني والتلويح بقصة مجازر الأرمن جزءًا من تلك الضغوط- وهي رحلة كانت وستبقى حذرة بهذا القدر أو ذاك؛ لأن أردوغان لن يتخلّى عن مجاملة جماهيره، في ذات الوقت الذي لن يدير ظهره لقوى الخارج ذات السَّطْوة، في ظل إدراكه لحجم ما يتربّص به في الداخل، ودائمًا من قوًى لا توافق على تصعيده ضد الكيان الصهيوني حتى لو سكتت عليه لاعتبارات عدم استفزاز الناس. وكان لافتًا في السياق تصريح الرئيس التركي لصحيفة "التايمز" اللندنية الذي أكّد فيه أنّ بلاده "تنتمي إلى أوروبا".
لذلك كلِّه كان على حكومة أردوغان أن تُفسِّر لقاء بروكسل للناس على نحو معقولٍ، أولاً من خلال القول إنّه تَمّ بطلب من الطرف الإسرائيلي، وثانيًا بالقول: إنّ أوغلو كرّر فيه مطالب تركيا بخصوص التحقيق الدولي في الجريمة، وما يتعلّق بتعويض ضحايا أسطول الحرية، وأخيرًا تلويح أوغلو من جديد بقطع العلاقات إذا لم تعتذر تل أبيب عن الجريمة، الأمر الذي يبدو مُسْتَبْعدًا في واقع الحال رغم رفضها الاعتذار، (رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي أكّد أن العلاقات الأمنية بين البلدين لم تتأثر).
في ذات السياق يمكن القول: إنّ مواقف بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، كان أساسيًا في دفع حكومة أردوغان نحو التراجع الذي تابعناه، ليس فقط لأنّها لم تدعم موقفها في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، بل أيضًا لأنّها حرّضت عليها تبعًا لما سبّبته لها من إحراج أمام شعوبها.
لا يعني ذلك أن تركيا أردوغان ستعود إلى ما كانت عليه في علاقتها بالكيان الصهيوني، لكن الموقف سيغادر مربع التصعيد نحو علاقة عادية فيها الكثير من التوجُّس والقليل من الصدام، لاسيما إذا بقي مسار السياسة في الساحة الفلسطينية أقرب إلى لغة عباس- فياض منه إلى برنامج المقاومة الذي يستفزّ ردودًا إسرائيلية عنيفة قد تردّ عليها تركيا بقوة، ومن ثَمّ جرى الالتفاف على رفع الحصار على قطاع غزة بهذه الطريقة أو تلك.