رغمَ محاولة القادة اليمنيِّين التقليل من حجم ما يحدث على أرض اليمن، وتحديدًا المواجهة مع القاعدة في الجنوب، إلا أن الواقع مختلف تمامًا؛
فهناك شبه حرب -إن لم تكن حربًا حقيقيَّة- مع القاعدة يقع فيها ضحايا من الجيش اليمني وأعضاء القاعدة، فضلًا عن المواطنين اليمنيين الأبرياء، ورغم كلّ ما يحدث حاول الرئيس اليمني علي عبد الله صالح التقليل من حجمِه بقوله: "إن الإرهاب موجود في أمريكا وأوروبا، ولكن وسائل الإعلام في بلدان العالم الثالث تضخِّم الأمور، فما يحدث في اليمن حالات نادرة، ومن قبل عناصر إرهابيَّة محدودة والأجهزة الأمنيَّة تتبعُهم، وتَمَّ القبض على عددٍ منهم، وتتمُّ ملاحقة الفارِّين منهم مثلما هو الحال في العديد من بلدان العالم".
ولم تختلفْ كثيرًا تصريحات رئيس الوزراء اليمني الدكتور علي محمد مجور عن تصريحات رئيسِه مؤكدةً على ما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية عن مجريات المواجهة مع القاعدة بأنه صورة مشوَّشة وغير واضحة؛ فالإرهاب ظاهرة كونيَّة، وهناك معركة دوليَّة واسعة النطاق ضد الإرهاب، واليمن جزءٌ منها، مشدِّدًا على أن الدولة تمتلك القدرة والإمكانيَّات اللازمة لمحاصرة الأنشطة الإرهابيَّة واستئصالِها.
وفي المقابل هناك واقعٌ على الأرض يؤكِّد صعوبة الأمور بالفعل؛ فالقتال الدائر بين الحكومة اليمنيَّة والقاعدة بدعمٍ من عناصر جنوبيَّة بمنطقة مودية بمحافظة أبين، ومن قبلها منطقه لودر والحوطة بشبوة، يعكس مدى ضراوَة المواجهات، حيث هناك نمطٌ جديد من القتال لم يكن مألوفًا لدى القاعدة في اليمن، وهو نمط يستبدل أسلوب حرب العصابات بالهجمات التفجيريَّة الانتحاريَّة التي اقترنت بالقاعدة، وتتجلَّى الطريقة الجديدة في قتال القاعدة بكل معالمِها في المعارك الجارية في مودية وقبلها في الحوطة ولودر، فضلًا عن الهجمات الخاطفة ضدّ قوات الجيش وضباط الاستخبارات والأهداف العسكريَّة الأخرى في مناطق الجنوب منذ يونيو الماضي.
وتؤكِّد الأحداث الأخيرة على أن المواجهة لن تنتهيَ بمجرد إعلان السلطات سيطرتَها على الأوضاع بمديريَّة لودر، خاصةً أن التنظيم أحرجَ السلطات بمقاومة داميَة استمرَّت أيامًا سقط فيها العشرات بين قتيلٍ وجريح معظمُهم من الجنود، ولا تزال المواجهات تندلع بين وقتٍ وآخر في لودر نفسها وفي مناطق خارجها.
وما بين التطمينات التي يصدرُها قادة اليمن وأرض الواقع الملتهبة تدورُ الآن أحاديث حول تدويل الأزمة اليمنيَّة، خاصَّةً أن القاعدة تنظيم دولي ومحاولة تكرار ما حدث مع أفغانستان وباكستان والصومال والسودان في اليمن، وتأتي هذه الأحاديث تارةً لأسباب اقتصاديَّة، نظرًا لتكلفة المواجهات الكبيرة والتي تتكبدُها الحكومة اليمنيَّة، وتارةً لأسباب أمنيَّة عسكريَّة تتعلَّق بعدم قدرة الحكومة اليمنيَّة في اجتثاث القاعدة، خاصَّة وأن هناك احتضانًا لها بالجنوب وفي ظلّ وجود جبهة بالشمال مع الحوتين مرشحة للانفجار في أي وقتٍ، ولعلَّ عقد العديد من المؤتمرات الدوليَّة بشأن اليمن هذا العام مؤشر لذلك؛ حيث عقدتْ خمسة مؤتمرات بدأت في يناير الماضي بلندن وتحديدًا يوم 27 منه، ثم مؤتمر الرياض في 27 فبراير ومرورًا باجتماع "أصدقاء اليمن" الأول في أبو ظبي في مارس الماضي واجتماع برلين في يونيو الماضي وانتهاءً باجتماع أصدقاء اليمن في 24 سبتمبر الماضي.
وجاءت نغمة التدويل لتعكسَ مخاوف كبيرة من تدخُّل مباشر في شئون اليمن، كما حدث في أفغانستان وباكستان والصومال والسودان بحجَّة مواجهة القاعدة وبالتالي يفقد اليمن استقلالَه، وهو ما حذَّرت منه الأمانة العامَّة للمؤتمر القومي العربي في اجتماعِها الأخير مؤكِّدةً على أن الحلّ الوحيد الناجح لأزمات اليمن يجب أن يتم في الإطار الوطني اليمني ومن خلال الحلّ اليمني الداخلي، وطالبت الأمانة العامَّة للمؤتمر القومي العربي بجميع القوى السياسيَّة اليمنيَّة أن ترفض كل أشكال الأقلمَة والتدويل للنزاع الدائر وضرورة عقْد مؤتمر وطني يضمُّ جميع فُرقاء النزاع بمن فيهم القيادات الموجودة خارج البلاد من أجل الاتّفاق على تصوُّر شكل لحلّ الأزمة.
وهو ما يذهب إليه الكاتب المعروف عبد الإله بلقريز بقوله: "ما كان التدويل يومًا وفي أية أزمة من أزمات العالم إلا الإعلان الرسمي عن فقدان البلد الذي تدار أزمته من الخارج لسيادته واستقلال قرارِه الوطني, هكذا كان الحال في أفغانستان والعراق والصومال والسودان ورواندا وبوروندي وصربيا (كوسوفو) والدولة التي تقبل بتدخُّل دولي لحل أزماتِها الداخليَّة إنما تسلِّم بأنها دولة قاصر، وتمنح بذلك سيادتها لقوَّة خارجيَّة, أما حين تكون هذه القوَّة الخارجيَّة هي أمريكا وبريطانيا وما شاكلهما من قوى ذات استراتيجيَّات كونيَّة فللمرْء أن يتخيَّل مقدار ما ستتعرَّض له بقايا السيادة تلك من استباحة فاجرة.
ويضرب بلقريز مثالًا بما حدث بباكستان، مشيرًا إلى أن اليمن ليس بحجْم باكستان لا بشريًّا ولا اقتصاديًّا، حيث يبلغ سكان باكستان نصف سكان الوطن العربي تقريبًا والاقتصاد الباكستاني يتجاوز الاقتصاد اليمني عشرين مرَّة وتصلُ قدرتُها العسكريَّة الاستراتيجيَّة إلى امتلاك السلاح النووي، ومع ذلك تقتربُ باكستان من التفكُّك والزوال بعد أن فتح نظام برويز مشرَّف باب الفناء لبلدِه قبل تسع سنوات حين وضع أراضيها وأجواءها وقدراتِها الأمنيَّة تحت تصرُّف الولايات المتحدة وحربها ضد "الإرهاب".
ويضيف بلقريز قائلًا: ها هي الدولة الباكستانيَّة تضمحِلُّ اليوم وتتداعى قدرتُها على الوجود أمام تيَّار التفكك الذي دبَّ فيها منذ باتت ساحة مستباحَة للصراع بين أمريكا من جهةٍ و"القاعدة" وطالبان من جهة ثانيَة، وها هي اليوم لا تملك أن تمنع طائرات أمريكا من أن تسرَح وتمرح في أجوائِها باحثةً عن قواعد "الإرهابيِّين" موقعة أشدّ ألوان القتل والأذى بآلاف الأبرياء من المدنيِّين.
ويحذِّر الكاتب من أن يئول اليمن إلى ما آلت إليه الصومال والسودان بعد أن تعاقبَا على وحدتِه وأمنه واستقراره وقائع التفكُّك مطالبًا اليمن بالاتِّعاظ بدرس باكستان القاسي فيدرك فداحة خيار التعاون الأمني مع أمريكا ومطالبًا القيادة اليمنيَّة بالتعامل مع أزماتِه الداخليَّة المتفجِّرة بحكمة سياسيَّة تجنّب كيانه اختيار التفتيت وأول مقتضيات تلك الحكمة طيّ فكرة تدويل الأزمة اليمنيَّة.
ويذهب الكاتب اليمني محمد الظاهري إلى ما ذهب إليه بلقريز من مخاوف التدويل وآثارة السلبيَّة على سيادة اليمن واستقلالِه مؤكدًا على أن الخرق اتسع على الراقع باليمن، والمحزِن أن الأزمات تكاثرت وأن الحلول لم تعدْ يمنيَّة بل أصبحت إقليميَّة ودوليَّة، والأنكى أنه لم يعد عربيًّا بل أصبح أجنبيًّا غربيًّا أمريكيًّا وبريطانيًّا، في الوقت الذي فشلت فيه القيادة اليمنيَّة في الاستفادة بموقع اليمن الجيواستراتيجي، بل غَدَت الجغرافيا السياسيَّة بمثابة عبءٍ على اليمن واليمنيين، وأدى هذا الفشل إلى فتح شهيَّة الأجانب للتدخُّل في شئونِنا وتنفيذ مخططاتِهم، وما تواجد أساطيلهم على مضايقِنا المهمَّة ومياهِنا الإقليميَّة وتحليق طائراتهم في أجوائنا إلا دليل على ما نقول.
ويطالب الكاتب بضرورة "يَمْنَنَة" المشكلات والأزمات اليمنيَّة بدلًا من أقلمتِها وتدويلِها والسعي لمكاشفة الذات ونقدِها لا جلدِها أو تحقيرها أو خداعِها، مشيرًا إلى الحاجة لرؤيَة استراتيجيَّة للتعامل مع أزمات اليمن من جذورها، بدءًا بتشخيصِها وانتهاءًا بإدارة سياسيَّة جادَّة.