للرئيس علي عبدالله صالح موقف مبدأي من التدخل الأجنبي في القضايا والشئون العربية والإسلامية، وقد عبر عنه في أكثر من محفل ومناسبة، وبأكثر من صيغة وموقف1.
وهذا الموقف لصالح من التدخل الأجنبي نابع بالأساس من الطبيعة القبلية التي تتسم بها شخصية الرئيس، وطبيعة الثقافة التي كانت سائدة في فترة نشوئه وتمكنه السياسيين، وهي ثقافة طغى عليها الخطاب القومي والإسلامي، ومثلت مرجعية لغالب الحركات السياسية في مرحلة سابقة لتوليه للسلطة وعقبها أيضا؛ وهو موقف يأتي في إطار إدراكه بالحالة التي كانت سائدة في تلك الحقبة من واقع الأمة، فقد وصل صالح إلى الحكم عقب حقبة استعمارية وفي ظل تنافس المعسكرين الشرقي والغربي على المنطقة وفي ظرف كانت تعاني فيه اليمن من التدخل في شئونها من قبل قوى إقليمية ودولية.
لقد أدرك علي عبدالله صالح منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 1978م بأن المنطقة تعيش حالة من التجاذبات الدولية التي باتت تتمثل في صراعات مسلحة وتدخل أجنبي، فكانت رؤيته في ذلك الحين ترتكز على ضرورة إبعاد المنطقة من الصراعات الدولية، و"أن يتم ذلك بتعاون دول المنطقة العربية كلها، من خلال لقاء قمة يضم قادتها، لبحث إمكانية الاتفاق على إستراتيجية عمل تكفل الدفاع عن عروبة المنطقة واستقلالها"..
على أن يتم إقرار تلك الإستراتيجية في "مرحلة لاحقة في مؤتمر قمة عربي شامل، يشترك فيه كل العرب للنهوض بمسئولياتهم لحماية هذه المنطقة الحساسة من الوطن العربي، التي يُراد تحويلها إلى ميدان للصراع الدولي الساخن على حساب مصالح شعوبها وكل أمتنا العربية"، داعيا إلى أن يبحث القادة العرب "الوسائل الكفيلة بحماية المنطقة من شرور وأخطار الصراع الدولي"، و"يتفقوا على ما يرونه مناسباً وضروريا".2
وفي هذا الإطار سعى صالح إلى بقاء اليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية) بعيدة عن سياسة المحاور التي كانت طاغية في تلك الحقبة، وذلك من خلال ربط علاقات متوازنة مع كافة الدول الكبرى والتكتلات العالمية والإقليمية؛ بما في ذلك الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الشيوعية الشرقية، والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الحليفة لها، وبقية دول العالم. ومن بين الأمور التي اهتمت بها قيادة صالح تنويع مصادر السلاح ومجالات التعاون العسكري مع جميع الدول الكبرى، ما أتاح لليمن أن تكون عامل توازن لا جزءا من صراع دولي.
لذا فقد ربط اليمن الشمالي بالاتحاد السوفيتي "علاقات صداقة وتعاون تاريخية"،.. "قائمة على أسس من التعاون، والتعامل المتكافئ، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية"3؛ وكذلك الشأن مع الولايات المتحدة الأمريكية4؛ ومع الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن.. كفرنسا، حتى مع وجود "تعاون تجاري وثقافي وأمني"5؛ بحسب تصريحات رئيس الجمهورية.
وإذا كنا في صدد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد وصفها الرئيس صالح بأنها.. جيدة، وتنمو باستمرار بالاتجاه الذي يلبي المصالح المشتركة، ويوسع من المنافع المتبادلة بين البلدين، وأنها "ترتكز على قاعدة الاحترام المتبادل، واحترام السيادة والاستقلال، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون الإيجابي المثمر"6؛ أقله هذا ما يراه الرئيس صالح من جهته.
غير أن المراقبين والمتابعين لهذه العلاقة يرون أنها شهدت حالات مدٍّ وجزر وفقا لرؤية الإدارة الأمريكية لمصالحها ومدى تحقيق القيادة السياسية اليمنية لهذه المصالح؛ مع نزوع إلى عدم الثقة بنظام صالح لاعتبارات عدة –ليس المجال هنا محل بسطها.
وإذا كانت اليمن تلتزم بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، فذلك مرده في نظر البعض إلى عدم مقدرة النظام اليمني ونخبته السياسية على لعب دور من هذا القبيل، لا إقليميا ولا دوليا، غير أن وجهة الرئيس تختلف تماما، فهو يقول: "نحن أولا نتعامل ضمن الأهداف المحددة، وكما قلت في إجاباتي السابقة عندما تتضح الرؤية وتتحدد الأهداف يسهل على الإنسان التعامل مع الآخرين. فنحن ضمن أهدافنا التي حددتها الثورة نلتزم بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز. نحن نمارس هذا المبدأ فعلا لأننا نقع في جنوب الجزيرة وفي مكان حساس ومهم. ونحن غير متأثرين بالأيدلوجيات الخارجية، نأخذ كل ما هو مفيد وما هو غير مفيد نتركه، سواء من الغرب أو من الشرق.
ونحن لا نستهين بدور الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى ومجموعة وارسو، ولا يمكن أن نستهين بدور الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة أوروبا الغربية، كلها دول كبيرة ومتطورة وحديثة، فمن الصعب أن نعادي هذه البلدان، ولكننا نقيم علاقات معها متكافئة وفي حدود المصالح المشتركة بما يخدم المصالح العليا لبلادنا، مع عدم السماح بالتدخل في شئوننا الداخلية، فمن المستحسن أن نتعامل مع الناس في الحدود المتفق عليها، وإلا فلماذا نرفع شعار حركة عدم الانحياز؟! نحن نعتز أن بلادنا من الأعضاء الملتزمين والفعالين في حركة عدم الانحياز".7
غير أن هذا الموقف لليمن منذ قيام الجمهورية لم يعفها من تدخل الدول الأخرى في شئونها الداخلية، منذ وقت مبكر؛ يقول صالح في معرض حديثه عن قبوله بتولي السلطة في الشمال: "قبلتها لأني رأيت أنه إذا لم يتحمل أي شخص المسئولية في ذلك الوقت فسيكون مصير البلد هو التقسيم والتمزق والشتات، وأن البلد ستكون معرضة للتدخل الخارجي، وتمزيق الوحدة الوطنية، فعلى هذا الأساس قبلت أن أتحمل المسئولية وأبذل جهدي. ولا يعني هذا أنني كنت مراهنا على أنني قادر أن أصلح البلد مائة في المائة، لكن سأبذل جهدي بقدر ما أستطيع، أحاول تجنيب البلد المشكلة، ولا يعني ذلك أنني سآخذ عصا سحرية بمجرد ما استلم السلطة وأطوع البلد، وتكون كلها على ما يرام، لكن كما قلت سأبذل جهدي مع كل المخلصين من أبناء شعبنا من أجل معالجة الأوضاع في البلد، وتجنيب البلد التدخل الخارجي وتمزيق الوحدة الوطنية بقدر ما أستطيع".8
وفي حوار آخر يشير صالح إلى الظروف الداخلية التي ساهمت بالتدخل الأجنبي، فيقول: "شعبنا اليمني قبل فترة من الزمان (قبل 25 عام) مر بظروف صعبة، ظروف التشطير، والمشاكل التي كانت في الشمال بين الشماليين أنفسهم، والمشاكل التي كانت في الجنوب نفسه, والصراع الذي كان بين الشمال والجنوب، والتدخلات التي كانت في شؤون اليمن بشكل عام، فكان هنا مدد لهذه القوى وهناك مدد لقوى سياسية أخرى, ومدد لقوى قبلية, وكانت الصراعات حادة في اليمن، مقتل الرئيس الحمدي ومقتل الرئيس الغشمي في الشمال، ومقتل الرئيس سالم ربيع علي في الجنوب، فكانت البلاد مضطربة، فتخيلت من يأتي إلى السلطة في ذلك الوقت كأنه يجلس على رؤوس الثعابين أو يرقص على رؤوس الثعابين".9
والتدخل في الشأن اليمني منذ وقت مبكر جاء بدافع الأطماع الأجنبية في المنطقة من ناحية، ولأجل إضعاف مواقف اليمن السياسية التي كانت تعلنها حكومة اليمن في القضايا العربية والإسلامية في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، وبالأخص في الشأن الفلسطيني من ناحية أخرى. يقول الرئيس صالح: "نحن موقفنا واضح بالنسبة لقضية المبعدين الفلسطينيين، والمعايير الآن تكال للأمور بمكيالين وليست بمكيال واحد.. المبعدين من فلسطين والمسلمين في البوسنة والهرسك.. هناك انتقائية في القرارات وفي قرارات النظام الدولي الجديد.. وأي قرار في صالح الشعب العربي الفلسطيني لا ينفذ، لكن القرارات التي تساعد الكيان الصهيوني تنفذ فوراً. خذ البوسنة والهرسك، خذ ما حصل في جنوب لبنان، خذ القرارات ضد العراق.. كل هذه القرارات فيها انتقائية. فلا زالت قرارات الشرعية الدولية تفسر بالتفسيرات التي يريد أن يفسرها النظام الدولي الجديد فهذه هي الانتقائية. ونحن نقول للنظام الدولي الجديد يجب أن يكيل بمكيال واحد لا بمكيالين، ويجب أن يكون هناك معيار واحد للتعامل لا معيارين، الآن نحن نتعامل بعدة معايير.. هذا هو النظام الدولي الجديد مع الأسف".10
ولم يكن موقف الحكومة اليمنية الرافض للوجود الأجنبي في أزمة الخليج الثانية استثناءا من هذه المواقف القومية. وقد كلف هذا الموقف اليمن الكثير جدا، على صعيد السياسة أو الاقتصاد أو النواحي الأمنية والقطيعة الاجتماعية التي فرضت على شعبه11. يقول الرئيس صالح: "والقوات الأجنبية تركت آثارا سلبية على الوطن العربي وكل قطر عربي يئن من مخلفات حرب الخليج".12
وقد استمرت هذه الآثار لوقت طويل، يقول صالح مخاطبا القيادات العربية بعد قرابة عشر سنوات من الأزمة: "ولعله- أيها الأخوة- وبعدما يقارب التسع سنوات من حرب الخليج الثانية في عام 1990م، وما خلفته من قطيعة مؤلمة بين بعض الأشقاء في الوطن العربي، وما أفرزته من تداعيات سلبية على صعيد العلاقات العربية –العربية، فإنه بات من الملح والضروري القيام بمراجعة موضوعية ومسئولة من قبل الجميع في وطننا العربي للخروج من الوضع الراهن إلى ما يؤسس للعلاقات بين الأشقاء قاعدة انطلاق جديدة وراسخة، على أساس الوضوح والمكاشفة والسمو فوق الخلافات وتجاوز الأخطاء والعمل معاً من أجل استعادة روح التضامن والتعاون والتكامل، على أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والاعتراف بحق كل دولة في ممارسة سيادتها على أراضيها، والحفاظ على مصالحها مع الآخرين وتنميتها بالصورة التي تراها مناسبة لها وغير الضارة بالمصالح القومية، وعدم جواز اللجوء إلى استخدام القوة والتلويح بها لحل الخلافات بين الأشقاء أو من قبل الآخرين، ومعالجة القضايا والمشكلات بالحوار والطرق الدبلوماسية وعبر مؤسسات الشرعية العربية والدولية".13
وهذا الحديث جاء نتاج ما تلقته اليمن من مواقف مثلت تدخلا لقوى إقليمية ودولية في شئونه خلال فترة أزمة عام 1993م وما تلاها من حرب -1994م، ونشاط معارض، وحرب اقتصادية غير معلنة، وحصار سياسي..
وقد جاء على لسان الرئيس صالح قوله: "نحن لم نوجه التهمة للمملكة العربية السعودية، ولكن نحن نقول أن هناك معلومات تفيد أن المملكة العربية السعودية كانت قد جمعت مبالغ مالية في فترة من الفترات قبل تحقيق الوحدة، هي عبارة عن تبرعات من الجالية اليمنية ومن رجال الأعمال ومن بعض الشخصيات في السعودية، لمساعدة منكوبي السيول بمحافظة حضرموت، فجمعت مبلغاً كبيراً من المال بلغ عدة ملايين، وجاءت هذه المعلومات تفيد بأنهم دفعوها للحزب الاشتراكي في هذا الظرف، أي ظرف الأزمة السياسية الراهنة، والمفروض أن تسلم هذه لدولة الوحدة وليس لحزب، فاعتبرنا ذلك نوعاً من التدخل في الشؤون الداخلية اليمنية، لأن هذه المبالغ مجمدة منذ عام 1988م ولم تدفع إلا في ظل هذا الظرف، أي في ظل الأزمة، مما أثار التساؤل والشك، كونه يمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية لليمن".14
وهذا الذي تحدث عنه صالح صراحة غيض من فيض، وهناك إشارات أخرى كثيرة توجه أصابع الاتهام إلى دول الجوار الإقليمي –وبالأخص الخليجي منه، لدورها في أزمة عام 1993م وما تلاها من حرب وتبعات.
ولأن صالح كان يدرك أن هذه المواقف تأتي على خلفية موقف اليمن الرافض للتدخل الأجنبي في الخليج في تلك الفترة، فقد صرح في حوار معه بأن: "من حق الكويت أن تستعين حتى بالشيطان للدفاع عن نفسها.. لكن رغبتنا كانت أن يكون الحل عربياً- عربياً بما يجنب الأمة العربية الدمار، ويجنب القوة العربية والثروة العربية المزيد من الخسائر، لأن القوى الأجنبية هي عادة مع مصالحها ووجودها في المنطقة له محاذيره ومخاطره".15
غير أن هذا التدخل لم يكن ليحدث من قبل دول الجوار لولا قبول الأطراف اليمنية بالاستقواء بالخارج في سبيل حل قضاياها الداخلية، وهو الموقف ذاته الذي عملت به قوى الثورة في محاولتها للانقلاب على الواقع السياسي الذي كان طاغيا في حقبة الستينيات من القرن الماضي، مع فارق أن قوى الثورة استندت إلى عون عربي، في حين استندت قوى الانفصال إلى قوى عربية وأجنبية معا. يقول الرئيس صالح في شأن قبول طرف الأزمة الآخر بالتدخل الإقليمي في شئون اليمن: "الاشتراكي تعوَّد منذ أن أنشئ أن يكون في حضن الآخرين، وفي أحضان المخابرات الأجنبية، لا يمتلك القرار الوطني على الإطلاق.. هذا هو الحزب الاشتراكي صاحب المشروع الحضاري للتحديث، صاحب مشروع دولة النظام والقانون".16
وفي تلك الفترة الحرجة لم تقبل اليمن بأي تدخل أجنبي، مع قبولها بالوساطات العربية التي تمت؛ وكان موقف الرئيس صالح هو عدم الحاجة إلى تدخل إقليمي أو دولي وحل الخلاف محليا.
ومع كل هذه المواقف الرافضة وتغلب الدولة على مشروع الانفصال، إلا أن الأبواب المشرعة في ظل النظام الديمقراطي الذي تبناه صالح –مع شركاءه في الوحدة- أتاحت للقوى الأجنبية التدخل بأشكال مختلفة، بعضها في صيغ مشاريع سياسية، وأخرى في صيغ اقتصادية، واجتماعية.
يقول الرئيس صالح -حول مدى تدخل صندوق النقد والبنك الدولي في الشئون والأوضاع الداخلية لليمن: "طبعا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لهم سياساتهم، ولكن نحن نتفاوض مع البنك الدولي ومع هذه المؤسسات الدولية في إطار ما ينسجم مع سياستنا الوطنية الداخلية، ما هو منسجم ونستطيع أن نعمله.. نحن نقبل به؛ وأي شروط تتنافى مع سياساتنا ومع أوضاعنا ومع اقتصادنا ومع دستورنا تكون مرفوضة. فنحن نجري حوارا معهم ونصل إلى أشياء مشتركة.. يعني نحن لا نعتقد أنه فرض علينا شيء نحن غير راضين عنه من قبل البنك الدولي".17
وحول ما إذا كانت مبادرة الديمقراطية في الشرق الأوسط التي تقدمت بها الولايات المتحدة تمثل تدخلا سياسيا في شؤون البلاد الأخرى، يقول الرئيس: "نعم.. هذا يعتبر تدخلا، لكن إذا أصلحت الشعوب والأنظمة نفسها فذلك يمنع التدخل الأجنبي, وإذا ظلت الشعوب والأنظمة جامدة تكون عرضة للضغوط ومثل هذا التدخل".18
وبالرغم من ذلك عمل الرئيس صالح بمبدأه الذي أعلن عنه: "نحلق رؤوسنا قبل أن يحلق لنا الآخرون"، نظرا لطبيعة التهديدات التي شعر بها النظام اليمني –وأنظمة أخرى- حسبما صرح هو شخصيا: "إن هناك عصا غليظة مرفوعة فوق رؤوس العرب بعدة وجوه، تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم حقوق الإنسان، لهذا تحدثت في إحدى خطاباتي أمام المؤتمر الشعبي العام.. بأن علينا انتهاج السلوك والنهج الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، وأن نحلق رؤوسنا قبل أن يحلق لنا الآخرون".19
لذلك مضى الرئيس صالح "في الإصلاحات السياسية" بإرادته ظنا منه أن ذلك سيدفع عنه فرضها أجنبيا! "كما هو قائم في الوقت الحاضر".. لأن "الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية تنادي العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث إلى إصلاحات سياسية"، لذا عمل على استباقها ومضى في الإصلاحات السياسية قبل أن تأتى من الخارج.20
لقد وقع الرئيس صالح في حالة تناقض صعبة، ففي حين يؤمن بخطورة التدخل الأجنبي في صيغ سياسية واقتصادية وثقافية، معلنا رفضه "أن تفرض علينا ثقافة معينة في الديمقراطية أو في الإصلاحات"، إلا أنه تبناها خوفا ممَّا هو أبعد منها: "لهذا نحن تبنينا الإصلاحات منذ وقت مبكر، وتبنينا الديمقراطية منذ وقت مبكر"، نحن "تبنينا بإرادتنا الوطنية الإصلاحات السياسية والديمقراطية دون أن نستلم تعليمات أو مرسوم من واشنطن"21، وإن حاول إنكار تعرض اليمن لأي ضغوط من قبل الولايات المتحدة سواء لمصالح عسكرية أو من أجل مصلحة اقتصادية، "نحن دولة مستقلة ذات سيادة، ولا نقبل أي ضغوط دولية، أو فرض ثقافة معينة من أي دولة كانت".22
إن التدخل الأجنبي في المنطقة -واليمن تحديدا- كما جاء عن الرئيس: "يأتي نتيجة غياب التضامن العربي، وإذا كان التضامن العربي فعالاً بصراحة لا تستطيع أي دولة -سواء إيران أو غيرها- أن تتدخل في الشأن العربي، لكن طالما الأبواب مفتوحة فإن ذلك يشجع الغير على التدخل في الشؤون العربية".23
إن الأنظمة العربية -التي يشير إليها صالح في خطابه- والتي عملت على إدخال واستضافة وقبول التدخلات الأجنبية في المنطقة أضعفت من قدرة النظام اليمني على المقاومة؛ غير أن هذا ليس السبب الوحيد في الأمر، فالقيادة السياسية بعد عام 1997م ونتيجة تخليها عن شركائها وحلفائها وأعوانها بدت وحيدة في ساحة الصراع الداخلي والمواجهة الخارجية، مكشوفة الظهر، عاجزة عن تحقيق أي مكاسب أو انتصارات جديدة أو تطلعات كبرى للشعب.. وهذا بدوره فتح عليها أبواب التآمر داخليا وخارجيا، ليجد كل طرف في الآخر وسيلة له لتمرير مشاريعه السياسية. وهذا ما يفسر الأزمات المتتالية التي تعيشها اليمن منذ عام 2003م، متمثلة في تمرد الحوثي، وحراك جنوبي يدعو للانفصال، ومعارضة خارجية تدعو لتدخل دولي!
واليوم يتهدد اليمن تدخل أجنبي بقيادة الولايات المتحدة، تحت مسمى التعاون في إطار القبول الرسمي من الدولة، أو بطلب من توجهات في المعارضة وحركات التمرد، أو بذرائع يوفرها تنظيم القاعدة، أو بإرادة أجنبية بحتة تحت أي مبرر!
وإذا كانت القيادة السياسية والحكومة اليمنية قد أعلنت موقفها الرافض لأي تدخل أجنبي في الشأن اليمني، تحت أي مبرر، وتكرر ذلك في تصريحات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزراء وقيادات مؤتمرية، وهو ما ينسجم مع الموقف الشعبي عموما، إلا أن بقاء النوافذ والأبواب مشرعة أمام هذا التدخل، وسماح الدولة بوجود قدر من الوجود والتدخل سعيا في استرضاء الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما ذات سوابق في العدوان على الشعوب والدول.. سوف يجلب على اليمن مخاطر عظيمة لن تتوقف عجلتها إلا بإدخال البلاد في جحيم من الصراعات والحروب الدامية.
يقول الرئيس صالح –في إحدى حواراته- وهو يؤكد: أنه "لابد من الخوف من القوى التي تستهدف الأمن القومي العربي"، ويتمنى: "أن نتعظ من الماضي، والماضي مملوء بالدروس والعبر": "حقيقة هذه هي نتيجة الشكوك وانعدام الثقة بين الأقطار العربية، وهذا من مكايد القوى الأجنبية، فالقوى الأجنبية توحي لكل طرف من الأطراف العربية بأن الخطر ليس إسرائيليا ولا أجنبيا ولكن الخطر يأتي من القطر الذي بجواره، فيظل الهاجس لدى كل القيادات العربية أن كل واحد متربص للطرف الآخر، وكل واحد يحشد للطرف الآخر، وكل واحد يتابع معلوماته عن الطرف الآخر، لا يهمه التسليح الإسرائيلي أو التسليح الأجنبي أو الغواصات في البحر الأحمر أو البحر العربي أو في الخليج العربي، لا تهمه أي معلومة عن البحرية التي تجول في البحار العربية،...
هذا هو الهاجس الذي تزرعه الاستخبارات الأجنبية التي توحي بأن كل خطر على السودان يأتي من مصر، ومصر عليها خطر من ليبيا، واليمن من السعودية، والسعودية من اليمن، هذه كلها إيحاءات من القوى المعادية للأمة العربية".. ويضيف: "للأسف أنها تجري مناورات وثقة موجودة بين جيوش عربية وقوى أجنبية، وما في أية مشكلة، ولكن لا توجد أية مناورة عسكرية بين الجيوش العربية، وهذا يقع في إطار انعدام الثقة"..24؛ وما ينطبق على الشأن العربي ينطبق على الشأن المحلي..!
إن عودة الأطراف المحلية للحوار وبناء الثقة ومد الجسور والتخلي عن عقليات التآمر والمكاسب الشخصية والفئوية لتغليب مصلحة الشعب اليمني دينا وثقافة وعيشا، هي الخطوة الأولى لغلق الأبواب إزاء أي نوايا أجنبية وخارجية للتدخل، وفي حال ظلت قوى المعارضة السياسية أو الحركات الطائفية وغيرها تعمل من أجل مكاسبها الضيقة فإن الجميع سوف يجني ثمار التدخل الأجنبي المرة بدون استثناء كما وقع في العراق!
إن المسئولية الأولى في هذا الشأن تقع على القيادة السياسية، ممثلة بالرئيس صالح، في حال أقامت العدل والنظام والأمن، وحققت مصالح المجتمع ورخاءه، وتراجعت عن استبدادها الذي جرَّ عليها وعلى البلاد هذه الحالة المأساوية. لقد أجاب الرئيس صالح عام 1992م -حول سؤال عمَّا يتم طرحه من دعوات لعقد مؤتمر وطني يشارك فيه الحزبان الحاكمان [المؤتمر والاشتراكي] وبقية الأحزاب، وما إذا كان ثمة مخاوف على تجربة الوحدة، بأن فكرة "المؤتمر الوطني" قديمة، وأنها كانت تجري في ظل انقسام في الصف الوطني، وأنه لا يوجد "ما يوجب عقد مؤتمر وطني، خاصة ونحن نحتكم إلى الشرعية الدستورية، مجلس الرئاسة، ومجلس النواب، وهناك دستور للبلاد، وليس هناك ما يوجب عقد مؤتمر وطني لأنه من حق المعارضة أن تعارض وتدعو السلطة الحاكمة لتحمل مسؤولياتها؛ كما أنه من حق السلطة أن ترجع للمؤسسات الدستورية، فإذا كان مجلس الرئاسة لا يستطيع يواصل المشوار يقدم استقالته للبرلمان"25، وبالرغم من ذلك ونتيجة لتصلب الأطراف خاضت البلاد حربا شرسة بدعم إقليمي ودولي، ولولا فضل الله تع إلى ثمَّ بقية من وعي لكان اليمن اليوم يعيش فترة التشطير ونزاعات المناطق الوسطى بكل مآسيها!!
إن على القيادة السياسية -ممثلة في الرئيس صالح- أن تتمسك بمبادئها التي ظلت آخذة بها في القضايا العربية، حتى في تعاملها مع كافة المخالفين لها من قوى مسلحة أو معارضة سياسية. وهنا يستحضر المرء قول الرئيس في مقابلة مع صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية، في 26/11/1990م، حول سؤال عن رأيه في بقاء القوات الأمريكية للدفاع عن السعودية: "ليس هناك ما يستوجب بقاء القوات الأجنبية في الأراضي العربية"!
ومن أجل ذلك يجب تغليب لغة الحوار ومنطق العقل الرشيد في التعامل مع الجميع، بشرط وجود مرجعية عليا لهذا الحوار، مرجعية تمثل هوية وقيم ومصالح المجتمع اليمني المسلم أولاً.. ولكي تنجح القيادة والنخب والقوى السياسية في إدارة خلافاتها المأزومة هي بحاجة إلى ثلاثة شروط يمانية: الحكمة والفقه والإيمان..!
* رئيس مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث
المراجع:
1) انظر: العدد الثاني من التقرير الإستراتيجي (نون) الصادر عن مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث.
2) في مقابلة مع صحيفة (الرأي العام) الكويتية، في 2/3/1979م.
3) في مقابلة مع مجلة (أضواء اليمن)، في 13/7/1990م.
4) في مقابلة مع صحيفة (العرب)، في 19/11/2006م.
5) في مقابلة مع قناة (تي في سانك) الفرنسية، في 12/3/2005م.
6) في مقابلة مع صحيفة (المستقبل) اللبنانية، في 4/10/1999م.
7) في مقابلة مع مجلة (التضامن) اللندنية، في 28/2/1987م.
8) في مقابلة مع صحيفة (المستقبل) اللبنانية، في 4/10/1999م.
9) في مقابلة مع مجلة (الحوادث) اللبنانية، في 20/8/2003م.
10) في مقابلة مع إذاعة (مونت كار لو )، في 19/2/1993م.
11) رُحِّل معظم اليمنيين المقيمين في دول الخليج على إثر الموقف الرسمي للحكومة اليمنية، وبلغ عدد المرحلين في بعض التقديرات أكثر من مليون ونصف شخص.
12) في مقابلة مع صحيفة (الراية) القطرية، في 4/6/1997م. وعن هذه الآثار يقول الرئيس صالح: "بالنسبة لما تتعرض له الأمة العربية من أحداث جسيمة، خاصة بعد دخول العراق إلى الكويت في التسعينيات وما تلاها من أحداث، جاءت في غياب التضامن العربي الذي يرغمنا أن نسلم أنفسنا إلى الأجنبي، هذه هي المشكلة، وكل قطر منا وكل زعامة منا تحاول أن تتقرب من الأجنبي لتعالج وضعها الشخصي.. كشخص أو كزعامة كأفراد أو كأقطار، وهذا هو الشيء المؤسف". في مقابلة مع قناة الجزيرة، في: 16/7/2003م.
13) في خطابه بمناسبة عيد الفطر، في 17/1/1999م.
14) في مقابلة مع صحيفة (اللوموند) الفرنسية، في 2/2/1994م.
15) في مقابلة مع صحيفة (السياسة) الكويتية، في 17/6/1993م.
16) في كلمته بجامع الشهداء بمناسبة عيد الأضحى، في 21/5/1994م.
17) في مقابلة مع تلفزيون (M. B. C.)، في 29/9/1996م.
18) في مقابلة مع شبكة التلفزيون اليابانية، في 8/11/2005م.
19) في مقابلة مع صحيفتي "البيان" و"الإمارات اليوم" الإماراتيتين، في 16/1/2007م.
20) في مقابلة مع إذاعة (B.B.C.)، في: 27/8/2004م.
21) في مقابلة مع شبكة التلفزيون اليابانية، في 8/11/2005م.
22) المرجع السابق نفسه.
23) في مقابلة مع صحيفة (الحياة) اللندنية، في 28/3/2009م.
24) في مقابلة مع صحيفة (الراية) القطرية، في 4/6/1997م.
25) في مؤتمر صحفي مع وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية، في 24/5/1992م.