لا يعني الإعلان في صنعاء عن اكتشاف شبكة تجسس إيرانية معمرة والذي جرى قبل عدة أسابيع، ويقودها أحد الضباط الكبار في الحرس الثوري الإيراني، والتي كانت تعمل بواجهات تجارية، أن إيران اكتفت بهذه الشبكة من أجل ضمان تدفق مستمر للمعلومات التفصيلية عن الخطط السياسية التي تعتمدها الحكومة اليمنية لمواجهة الأخطار الداخلية، وخاصة تلك التي نتجت عن حركة الحوثيين المتمردة، والتي تسعى لربط اليمن الزيدي الشافعي، بعجلة ولاية الفقيه والتي تعد آخر صرعة من صرعات حركات الزندقة التي تخرج على الإسلام من بلاد فارس، وإيران تفعل ذلك بعد أن تغدق في تقديم الإغراءات المادية وتقديم الزمالات الدراسية المجانية في إيران ومع مرتبات مجزية، وطرح المفاهيم المسطحة من أجل نشر أفكار الزعامة الطائفية في إيران، والتي ترى في نهجها الديني والمذهبي، الخيار الصحيح الوحيد في العالم، وبالتالي فهي تكفّر كل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، في نظرة متعالية وغبية في آن واحد، تتماهى مع نظرية شعب الله المختار التي تطرحها الحركة الصهيونية عن بني إسرائيل، وتسعى لحذف أتباع الديانات والعقائد الأخرى وإلغائهم من الوجود بهدر دم أتباع الديانات والعقائد الأخرى، إن استعصى حذفهم من خارطة التأثير السياسي والديني.
إن وجود شبكة التجسس في اليمن لهذه المدة الطويلة نسبيا من دون أن يتم اكتشافها من جانب الأجهزة الأمنية، يسجل نقطة سلبية على أداء هذه الأجهزة من جهة، ويطرح سؤالا ملحا عما إذا كانت هي الوحيدة الناشطة في الساحة اليمنية، وهل يعني ذلك عدم وجود شبكات أكبر عمرا وتأثيرا، في معظم دول الجزيرة والخليج العربي، من الشبكة التي تم اكتشافها في اليمن، فمن المعروف أن طول تركيز إيران لنظرها على منطقة الجزيرة العربية، أصابها بحَوَلٍ سياسي لا يرجى الشفاء منه، وجعلها تنسى سائر البقاع الأخرى، مع التأكيد بأن ذلك يرتبط بالمنطقة التي ظلت إيران تنظر إليها على مر العصور، بأنها منطقة المجال الحيوي لها، متجاهلة حقائق التاريخ، أن هذه المنطقة هي وحدها التي أزالت الامبراطورية الفارسية من الوجود، وربما إلى الأبد، وقطعا فإن الصدفة وحدها هي التي أدت إلى اكتشاف هذه الشبكة، وإذا ما تم اعتماد الصدفة في التعاطي مع مثل هذا الملف الخطير، فمعنى ذلك أن البصرة، سيصيبها الخراب كما يقول المثل العراقي، قبل أن توضع الخطط الكفيلة بدرء الأخطار الإيرانية التي تهدد المنطقة، وربما يتعلق الأمر بتفعيل أعلى مستويات التنسيق بين الأجهزة الأمنية، إلا أن ذلك وحده ليس كافيا، فالمطلوب تحصين المواطن العربي فكريا وثقافيا وماديا لمنع إيران من توظيف شعاراتها الطائفية البالية، والتي تجد مادتها الخصبة في المجتمعات الفقيرة والجاهلة، حيث تنتعش الخرافات والأفكار الفاسدة، والتي تجد فيها الحركات الدينية والسياسية الفاشلة، أفضل ساحة لكسب المريدين والأتباع المغمضي العيون.
لعبة الكبار
مع أن بلاد فارس أخذت فرصتها في أن تكون قوة إقليمية ودولية كبيرة قبل الإسلام، وبعبارة أقرب إلى الواقع، امبراطورية تتحكم في طرق المواصلات البرية والبحرية، إلا أن نهايتها الحزينة على يد جيوش الفتح العربي الإسلامي، وكنس اليمن وسائر أراضي الجزيرة العربية من وجودها الطارئ والقصير الأمد، ترك على ما يبدو غصة في حلق الزعامات الإيرانية المتعاقبة، لم تنفع معها كل عمليات الترقيع أو التجميل التي أخضعت بلاد فارس نفسها لها، ويدلنا التاريخ العربي أن لإيران وجودا عسكريا في اليمن قبل الإسلام، ولكنه سرعان ما تلاشى مع رياح التغيير الأولى التي انطلقت من أم القرى، ولكن الزعامات التي تعاقبت على حكم بلاد فارس، لم تستطع التحرر من عقدة الهزيمة المرة التي مني جيشها الذي كان أكبر جيوش العالم في ذلك الوقت، على يد رجال حملوا من الإيمان ما كان كافيا لحذف بلاد فارس من خارطة التأثير، فأرادت تعويضها بعقلية الهيمنة والتوسع، حتى عندما كانت بلدا يعاني من الانقسامات والتشرذم، أو في أضعف الأحوال التي تعيشها الدول، فعقدة الامبراطورية تعشعش داخل الرؤوس، ويجدها المراقب متناثرة في الأدب الفارسي وخاصة الشعر، وبعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس، تم توظيفه توظيفا سياسيا بعيدا عن مراميه الحقيقية، وخاصة في الإساءة إلى مادة الإسلام الحقيقية، أي العرب، فالمعممون السود منهم والبيض على حد سواء، حينما يذكرون العرب، فإنهم يصفونهم بالأعراب، والقصد من هذا واضح تماما، فهم يربطون هذا الوصف بالآية الكريمة التي تقول، (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله)، فمن هم الأجدر بمعرفة حدود ما أنزل الله على عبده، هل هم العرب الذين نزل الكتاب بلسانهم؟ أم هم الفرس الذين لن يستطيعوا فهم أحكامه ما لم يتعلموا لغة القرآن؟ ومع ذلك فأن لحنهم بالقول سرعان ما يدل عليهم.
لم يكتف معممو إيران بهذا التفسير الضال والمغرض لآيات الله، وإنما ذهبوا بعيدا، فقد قال بعضهم في نشوة الانتصارات المؤقتة التي حققتها القوات الإيرانية في الحرب العراقية الإيرانية في عقد الثمانينات من القرن الماضي، إن هذا وعد إلهي قاطع للفرس بتسليمهم الراية من العرب، وذهبوا بعيدا في تأويل آيات القرآن الكريم، فقد فسروا قوله سبحانه، (إلاّ تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم)، على أنه دليل على أن الفرس هم الذين اختارهم الله بدلا من العرب في حمل الأمانة، وهنا وضعوا أنفسهم في موضع العرب الذين اختارهم الله لرسالته الخاتمة للرسالات السماوية، وذهبوا بعيدا في تفسير ما جاء في الآية 54 من سورة المائدة، والذي تقول، (يا أيها الذين أمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين...)، على أنها تخص الفرس من دون سائر الأقوام الأخرى، وقد شاعت هذه الموجة من الثقافة الدينية المسيسة والبناء الفكري، بعيد تسلم الخميني للحكم في إيران، وأخذت مدى بعيدا أثناء حرب الثماني سنوات، في محاولة لرفع معنويات الجنود والحرس الذاهبين إلى طاحونة الموت، ونشطت في تلك الحقبة عمليات وضع الأحاديث التي كانت تنسب بإصرار إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولعل أكثرها إثارة لدهشة المتابعين، ما نسب للرسول الكريم من حديث يبشر فيه بخروج رجل من قم ليجدد الإسلام بعد طول ضياع، وهذه اشارة مباشرة للخميني من واضعي الحديث بأنه سيحمل راية الدين ويجدده بعد قرون طويلة من الضياع، ومثل هذا الكذب حصل الكثير لإخافة العراقيين بالدرجة الأولى من عاقبة الحرب والتي ستكون نهايتها لصالح إيران.
مجزرة عدن وحرب الرفاق الأعداء
في عام 1986 كان مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية الحالي على خامنئي، رئيسا للجمهورية، وكان مخططا في بداية ذلك العام أن يقوم بزيارة رسمية إلى جمهورية اليمن الجنوبي، ذات التوجه الماركسي، ولكن مذبحة اللجنة المركزية للحزب الحاكم في عدن في كانون الثاني/ يناير من ذلك العام، والتي راح ضحيتها عبد الفتاح إسماعيل الأمين العام للحزب، وعدد من قيادات الحزب الحاكم من بينهم علي عنتر وزير الدفاع، ودخول اليمن الجنوبي بداية النفق المظلم، وأدى إلى جر السوفييت إلى دائرة الدخول في التفاصيل لفض المنازعات المستحكمة بين الرفاق المتشاكين، وكان من بين نتائج تلك المجزرة، تأجيل زيارة خامنئي لليمن الجنوبي، والتي لم تتحقق بعد ذلك أبدا، وكان من آثار الأزمة المستعصية التي عاشتها اليمن الجنوبية، أن وجدت خلاصها بالوحدة مع اليمن الشمالي، وبهذه الخطوة أحست الزعامة الإيرانية، أنها خسرت حليفا قويا من داخل الأسرة العربية، في مواجهة العراق، ليضاف إلى سوريا وليبيا في خرق ميثاق الجامعة العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، ومنذ اليوم الأول للوحدة بدأت إيران تحركا مزدوجا تجاه اليمن، ففي الجنوب حيث لا تنفع الشعارات الطائفية، تبنت الزعامة الإيرانية شعار مقاومة النفوذ الأمريكي في المنطقة وملاحقة وجود الأساطيل الأمريكية في البحر العربي وما يمكن أن تمثله من تهديد لليمن، حيث تتناغم أصداء هذا الشعارات مع المخبوء من المشاعر الجنوبية ذات التوجه الماركسي، وتلخص الهدف الإيراني بتحريض الجنوبيين على الانفصال، حتى لو تم التذكير بالتهميش الطائفي من جانب نظام الحكم الزيدي لسنة الجنوب، فإيران ترى في وحدة اليمن، حاجزا يحول دون تغلغلها هناك.
أما في الشمال فقد وجدت إيران في الخطاب الطائفي مدخلا كبير الأهمية لمد نفوذها وخاصة في منطقة كانت تعاني من حالة عدم استقرار سياسي وأمني، وتهميش اقتصادي، وهي منطقة صعدة، فتحركت الآلة السياسية والأمنية المستندة على الفتوى الدينية من الولي الفقيه وحوزة قم، والمدعومة ماديا وبشريا من الحرس الثوري، لكسب المؤيدين في المنطقة من الحوثيين، والذين تحولوا عن المذهب الزيدي إلى المذهب الجعفري الاثني عشري، مع تسليم سياسي بنظرية ولاية الفقيه، وهذا أقصى ما كانت إيران تخطط له في خطوتها الأولى، وبدأت صفحة العبث بأوضاع شمال اليمن، لتتضافر مع تحريك لقوى الانفصال الجنوبي، في سياق يهدف إلى زعزعة الأوضاع السياسية والأمنية في اليمن، مع تحريك جناح تنظيم القاعدة المرتبط بإيران لوجستيا، وتقيم بعض قياداته في إيران نفسها، وهكذا لعبت طهران في الشأن الداخلي للجزيرة العربية، على نحو يجعل من كل الملفات مؤجلة الحل وجاهزة للفتح عند الضرورة.
تركيز الجهد على جبهة واحدة
استغلت إيران انشغال الوطن العربي بمعارك أكثر جذبا لانتباه أجهزة الإعلام الإقليمية والدولية، لاستكمال حلقات تدخلها في اليمن، ونتيجة لنشاط تنظيم القاعدة في الجنوب خاصة، فقد حشرت الزعامة اليمانية في زاوية حرجة، بشأن أسبقية الخيارات العسكرية وأي العدوين يجب مواجهته أولا، وعندما كانت معركة صعدة على وشك تحقيق النصر النهائي نتيجة دخول القوات السعودية على خط المعركة، حركت إيران خلايا القاعدة المرتبطة بها لتشديد العمليات العسكرية على الجيش اليمني، من أجل تشتيت جهده على أكثر من جبهة، ولما كانت الولايات المتحدة تبالغ أكثر مما يجب أو تتظاهر، في خطر تنظيم القاعدة على الأمنين الإقليمي والدولي، فقد كان طبيعيا أن تقدم واشنطن نصائحها المغرضة لصنعاء لوقف المعركة في صعدة والتوجه لحرب القاعدة، عندما كانت المعركة على مشارف نصر يمني سعودي لامع، وبقيت نار الفتنة تحت رماد المصالح السياسية المتصادمة للقوى الإقليمية والدولية، ووجد الحوثيون في هذا التحول فرصتهم التاريخية لاسترداد الأنفاس، وإعادة تنظيم صفوفهم وقواتهم، بعد وصول المزيد من الإمدادات الإيرانية، استعدادا لمعركة مؤجلة لا بد أن تكون فاصلة.
خطة إيران في اليمن يمكن تأشيرها على محورين، الأول شطر الجنوب تحت وابل من الغبار والضباب الذي يحيط بساحة المعركة، والهدف الرئيس لهذا الشطر هو إضعاف اليمن في مواجهته لمشروع التغلغل الإيراني في الشمال، وخاصة في توسيع رقعة نشاط الحوثيين، من حيث العدد ومن حيث الرقعة الجغرافية التي يتواجدون فوقها، وهذا الهدف لا يريد التوقف عند هذا الحد، بل يسعى لإحكام الطوق على المملكة العربية السعودية من الجهات الأربع، والبدء بالطرق الخارجي عليها مع تحركات داخلية من خلايا ظلت تتلقى الدعم المتعدد المحاور والأوجه، تهدف في نهايتها إلى السيطرة على الحرمين الشريفين، لما لهما من تأثير وإشعاع فكريين على ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهو الهدف الذي فشلت إيران في تحقيقه عام 1987 عندما تحرك مئات من عناصر حرس الثورة للسيطرة على الحرم المكي، وإعلان البيعة للخميني إماما للمسلمين، وهي الخطة التي أحبطتها أفواج الحجيج بمساعدة أجهزة الأمن السعودية، كانت إيران تريد تحويل الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلى منابر تبشر بولاية الفقيه المطلقة وما تضيفه من انحرافات فكرية تخل بعقيدة التوحيد، وتدخل الإسلام في نفق مظلم من البدع والخرافات والممارسات الضالة.
فهل هناك خطة مضادة للمشروع الإيراني، وهل يستطيع بلد بإمكانات اليمن المادية خوض مثل هذه المعركة منفردا ونيابة عن الدول المستهدفة بالخطة الإيرانية؟
من المهم البحث عن تجميد لإحدى صفحات المواجهة التي يخوضها اليمن، وخاصة المواجهة مع تنظيم القاعدة التي تعد مطلبا أمريكيا بالدرجة الأساس وسحب البساط من تحت أقدام هذا التنظيم، فليست كل الحروب يتم حسمها في ساحات القتال، بل أن معظم الحروب التي عانت شعوب العالم من ويلاتها، انتهت في صالات الاجتماعات المغلقة بعيدا عن دخان المدافع وقصف الطائرات، ويمكن تأشير استثناء واحد في العالم وعلى مر العصور، وهو أن إيران لم تستجب طيلة تاريخها لنداءات وقف إطلاق النار والركون إلى المفاوضات، بل كانت على الدوام ترغم على التراجع في ساحات القتال، على قبول السلام الذي لا يختلف كثيرا عن طعم السم، كما عبر عن ذلك الخميني في رسالة قبوله لقرار مجلس الأمن 598 والذي أنهى القتال بين العراق وإيران وإن لم ينه حتى اليوم حالة الحرب بينهما، لذلك فإن التوجه للخطر الإيراني يجب أن يحتل مرتبة الأولوية في أي جهد عربي يسعى للتحرر من الضغوط الخارجية التي تستخدم أدوات داخلية في كثير من الأحيان.
درس من السودان
مرت سنة واحدة على انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، عبر مخطط ساهمت فيه المشاعر الشخصية من حب وكراهية، تجاه نظام الرئيس عمر البشير، كان للرئيس المصري المعزول حسني مبارك، والزعيم الليبي السابق معمر القذافي، أكبر الأدوار في حصر البشير في زاوية المخايرة بين انفصال الجنوب وتفتت السودان وضياع ملكه، أو القبول بحق تقرير المصير لسكان الجنوب، الذين تلقوا دعما عسكريا واسع النطاق من القذافي، وسياسيا تحريضيا من جانب مبارك ربما يقع في مقدمة أسبابها تعرض مبارك لمحاولة اغتيال في السودان، ولقد عانى الوطن العربي طويلا من انعكاس المزاج الشخصي لحكامها، على قراراتها السياسية ومواقفها الاستراتيجية من دول أخرى يحكمها زعماء لا تتوفر فيهم شروط الارتياح الشخصي، من جانب دول كبيرة وقادرة على التأثير سلبا على أوضاعها السياسية، ولكن اللافت أن نظام الحكم الإسلامي في إيران، كان أول بلد في العالم يقدم دعما مفتوحا لحركة جون قرنق، وكان يطلق عليها وصف الانتفاضة الإسلامية!!!، التي تواجه نظام حكم معاد للثورة الإسلامية في إيران، وظلت قنوات الاتصال بين مكتب حركات التحرر في الحرس الثوري الإيراني، وحركة قرنق حتى عندما كانت الحكومة السودانية برئاسة الصادق المهدي تسرّع خطواتها وتبذل ما في طاقتها من أجل الحصول على شهادة حسن السلوك من الخميني.
المهم أن إيران تبحث لنفسها عن قضايا معطلة وخلايا نائمة على استعداد لبيع نفسها لمن يدفع أكثر، وإيران تفعل ذلك من أجل امتلاك وسائل الضغط على البلدان العربية والإسلامية داخليا، والتأثير على قراراتها السياسية، وربما يتحمل القذافي جانبا مهما من تجزئة السودان، إلا أن إيران وإسرائيل هما الطرفان اللذان تظهر صورتهما على شاشة الأحداث المفصلية، كلما تم البحث في الأعماق البعيدة والملفات الأكثر سرية، من تاريخ الخطط الهادفة إلى إضعاف الأمة.
وبعد سنة من قيام دولة السودان الجنوبية، بدأت الصفحة الثانية من أسوأ ما تعرض له الأمن القومي العربي الجماعي، فقد وقع وفدان من دولة السودان الجنوبية ومن إسرائيل على اتفاقية تقدم فيها الأخيرة الخبرة الهندسية لاستغلال مياه النيل، مما يعرض الحصة القانونية لكل من مصر والسودان إلى خطر داهم، يمكن أن يحرم مصر والسودان من مصدرهما الوحيد من المياه، وقد تذهب إسرائيل في علاقاتها القديمة الجديدة مع حركة الانفصال في جنوب السودان، والتي كانت ترفض بعناد غبي ما كان يطرح عن علاقاتها مع إسرائيل وتستوي في هذا كل حركات التمرد التي عرفها العراق وبلدان عربية أخرى، إلى تحقيق عدة أهداف في وقت واحد منها ممارسة الضغط على الحكومة المصرية الجديدة لتدفعها نحو الالتزام بمعاهدة السلام، ومنها عقد اتفاقيات لاحقة مع كل من أثيوبيا وجنوب السودان لإطلاق كميات ثابتة من المياه، خارج حصة مصر والسودان شريطة تحويلها إلى إسرائيل بواسطة أنابيب تمتد تحت قناة السويس، وبخلافه قد تتعرض حصة مصر للقطع الجزئي مما يهدد مصير البلد الذي ظل المؤرخون يطلقون عليه وصف هبة النيل.
والحرب أولها كلام
تعتمد إيران على ما تبثه عشرات الفضائيات الطائفية لتبث عوامل الفرقة والضغينة، والتي تركز على القضايا الخلافية والتي لم تنجح جهود العلماء لمئات السنين من إيجاد حل لها، لأن إيران وفكرها الذي يجد مناخه الملائم وسط أجواء الفتنة والانقسام، وجد في هذه الفضائيات أقصر الطرق لطرح وجهات نظرها، بصرف النظر عن مدى قبول تلك الأفكار من عدمه، وهنا تطرح قضية في غاية الأهمية عن الجدوى من أي مشروع إعلامي وعما إذا كانت النتائج المتحققة منه متناسبة مع حجم الإنفاق عليه، ولكن إيران لا تنظر إلى هذه الزاوية، بل تظن أن مبدأ التكرار في الكذبة يمكن أن يحولها إلى مسلمة من المسلمات الراسخة في العقول.
واللافت أن العرب يتعاملون مع هذا الموضوع بنظرة قاصرة تماما عن تقدير أخطار الإعلام التقسيمي، صحيح أن القمر الصناعي العربي (عربسات) قد تم تأسيسه بقرار من وزراء الإعلام العرب في عقد السبعينات من القرن الماضي، كمؤسسة تسعى لتحقيق تواصل عربي في مجال الأخبار، وكذلك لتعتمد على نفسها ماديا من خلال قبول اشتراك المحطات الأرضية المرتبطة بالقمر الصناعي، وكان هذا قبل عصر الفضائيات، التي دخلت على الخط فأضافت مصدرا مهما لمداخيل القمر الصناعي، إلا أن مؤسسة العربسات تحولت مع الوقت إلى مؤسسة تجارية تسعى للربح بالدرجة الأولى وربما الأخيرة أيضا، ولا تفهم ولا تهتم لا بالسياسة ولا بالإعلام، ومن حق المراقب أن يسأل عن المحصلة النهائية في ميزان الربح والخسارة للعرب كأمة، حتى في حال حققت مؤسسة عربسات ربحا وفيرا، ولكن ما هو حجم الخسارة في وحدة المجتمع العربي، وما هي الخسارة التي تكبدتها الأمة على المدى البعيد، حينما تركت مؤسسة صغيرة تحمل اسمها ولكنها تعبث بأمنها القومي تحت لافتة الربح المادي؟
طالبت الحكومة البحرينية أكثر من مرة، أن يتخذ مجلس إدارة القمر الصناعي العربي قرارا بوقف وصلات الفضائيات التي تحرض على الفتنة الطائفية في البحرين وفي دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن دعواتها لم تلق الأذن الصاغية، من الجهات المعنية التي تعاملت مع المشروع على أنه مجرد شركة تجارية مساهمة تسعى للربح، مع تجاهل كامل للخسارة السياسية الناجمة عن التخريب الذي تفعله القنوات الضالة، والتي تحتاج من أجل تخطي آثارها، إلى أموال هائلة تفوق بأضعاف مضاعفة مقدار الربح المادي الذي يحققه القمر الصناعي العربي.
فهل يوجد طرف واحد في عالم اليوم، يعمل ضد مصالحه؟ وهل يوجد بلد في العالم يضع الخطط الاستراتيجية للبناء والتطور على كل الصعد، ثم يضع الخطط الأكثر دقة لإفشال استراتيجيته؟ ربما يحصل هذا، ولكنه يحصل في الوطن العربي فقط للأسف الشديد، فأعداؤنا لم يحققوا كل مكاسبهم بسبب تفوق خططهم، وإنما تحقق لهم الكثير نتيجة الأفكار المتصادمة التي تنطوي عليها برامج العرب السياسية والاقتصادية، ولعل تجربة العربسات نموذج مصغر لعدم انسجام الخطط مع بعضها.