لا يمكن ان تنطلي عملية اطلاق المخطوفين السوريين والمخطوفين التركيين في لبنان على احد، بل على ايّ احد. فجأة اطلق المخطوفون بعد تحقق الهدف المطلوب. الهدف المطلوب عزل لبنان عن محيطه العربي والحاقه بالمحور الإيراني- السوري المقبل على الانهيار، اقلّه في شقّه السوري.
ومثل هذا الهدف لا يمكن ان يتحقق الاّ عن طريق افقار لبنان واللبنانيين بكل الوسائل المتاحة. على رأس هذه الوسائل منع العرب من المجيء إلى لبنان والاستثمار فيه من جهة وضرب كلّ المؤسسات اللبنانية والقطاع الاقتصادي، بما في ذلك القطاع المصرفي من جهة اخرى.
ما نشهده اليوم في لبنان، هو حالة فريدة من نوعها في تاريخ الوطن الصغير. للمرة الاولى منذ قيام الدولة اللبنانية وتشكيل الكيان اللبناني وربّما قبل ذلك، عندما كانت الدولة العثمانية لا تزال قائمة، هناك قرار بمنع العرب من المجيء إلى لبنان. يحصل ذلك في ظلّ حكومة شكّلها "حزب الله" ووضع على رأسها شخصية سنّية من طرابلس هي الرئيس نجيب ميقاتي الذي يغطي حاليا عملية ايجاد هوة عميقة بين لبنان والعرب بدل ان يتخذ بالفم الملآن موقفا وطنيا صريحا يسمّي الاشياء باسمائها. تصبّ هذه الهوة في محاولة لافقار الوطن الصغير وتيئيس اللبنانيين وتهجير من بقي منهم متمسّكا بارضه، وذلك في غياب القدرة على السيطرة عليهم وتدجينهم على غرار تدجين "حزب الله" لبعض ابناء الطائفة الشيعية الكريمة.
صار كلّ عربي يخشى على حياته وحريته في لبنان. اليوم هناك الجناح العسكري لآل المقداد الذي على استعداد لخطف اي سعودي أو قطري أو خليجي أو تركي يدوس الاراضي اللبنانية. غدا، بعد استنفاد الغرض من الاعلان عن هذا الجناح، الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بعائلة كريمة معروفة ومحترمة تستنكر الاكثرية الساحقة من ابنائها اي تجاوز للقانون، سيظهر جناح آخر من عائلة اخرى. سيستخدم هذا الجناح في عملية جديدة لا هدف منها سوى نشر البؤس والفوضى في لبنان واستخدام الوطن الصغير "ساحة". انه لا يزال "ساحة" بالنسبة إلى المحور الإيراني- السوري الذي يعتقد ان في الامكان انقاذ النظام في دمشق عن طريق تصدير ازماته إلى خارج.
اللعبة مكشوفة. الجديد فيها ان ممارسات النظام السوري لم تعد تجد من يغطيها بما فيه الكفاية كما كانت الحال في الماضي. لم يعد ميشال سماحة يسمح لنفسه باعطاء شهادات في الوطنية لاحد. انكشف الدور الذي يؤديه احد رجال النظام السوري في لبنان. وهو دور مصنوع خصيصا على قياس بعض السياسيين اللبنانيين الذين يمكن ان يكون اسمهم اي اسم آخر...
حتى حكومة "حزب الله" لم تعد قادرة على تغطية ممارسات النظام السوري. عليها الاكتفاء بالاعتراف بانها عاجزة عن اعادة لبنان إلى العرب والعرب إلى لبنان. تستطيع هذه الحكومة اختلاق تمثيلية تنتهي بتحرير المخطوفين السوريين، وهم عمال مساكين جاؤوا وراء لقمة العيش، والمواطنيين التركييين اللذين جاء احدهما إلى لبنان ضيفا على عائلة شيعية محترمة.
ولكن ما لا تستطيعه هذه الحكومة، التي شكّلت اصلا من اجل اذلال اهل السنّة والمسيحيين، هو اعادة اللحمة بين لبنان والعرب. هذه هي المشكلة التي ستواجه لبنان في السنوات القليلة المقبلة، ما دام السلاح الذي يمتلكه "حزب الله" بامرة النظام الإيراني. هل نسينا ما يكرره السيد حسن نصرالله الامين العام لـ"حزب الله" عن مفهومه لولاية الفقيه؟ هل يمكن تجاهل ما يصدر عن اداة الادوات، اي النائب المسيحي ميشال عون؟
رأى الاستاذ عون اخيرا ان هناك ما يبرر استخدام سلاح "حزب الله" دفاعا عن إيران ولو كان ذلك على حساب لبنان واللبنانيين؟ نعم، هناك لبناني، كان في الماضي قائدا للجيش، لا يخجل من التضحية بوطنه ومواطنيه من اجل نظام إيراني يعتبر ان المتاجرة بالآخرين شطارة وموهبة ودهاء؟
لن تعود اللحمة بين لبنان والعرب ما دام النظام الإيراني مضطرا لعرض عضلاته في لبنان بغية افهام كلّ من يعنيه الامر، بما في ذلك "الشيطان الاكبر" الاميركي و"الشيطان الاصغر" الاسرائيلي ان عودة سوريا إلى الحضن العربي بعد سقوط النظام الحالي لا تعني ان لبنان سيخرج عن السيطرة الإيرانية. ستظل بيروت مدينة إيرانية على المتوسط وستستمر المتاجرة بالجنوب واهل الجنوب إلى ما لا نهاية... اي إلى حين عقد صفقة ما بين واشنطن وطهران.
من هذا المنطلق، و إلى ان يسقط النظام السوري بالضربة القاضية، وهو سقط عمليا بالنقاط بعد خسارته الحرب التي يشنها على شعبه، سيظل لبنان "ساحة". سنشهد فصولا اخرى من مسرحية يظهر فيها "ابو الميش" (سماحة أو عون، لا فارق) احيانا أو شخص مثل اللواء جميل السيّد الذي يحاول تقليد ضباط المكتب الثاني في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب في احيان اخرى.
كلّ هذه المشاهد ليست مهمة على الرغم من انّها غير مملة، بما في ذلك مشهد تحرير العمّال السوريين المغلوب على امرهم والمواطنين التركيين اللذين ظنّا انهما يزور بلدا آمنا. المهمّ ان مشاكل لبنان ستستمرّ إلى حين ما دام هناك سلاح إيراني في البلد وما دامت هناك حكومة وجدت لتغطية هذا السلاح. هذا كلّ ما في الامر.
يبقى ان ما ينساه الذين يغطون السلاح الإيراني، ان لبنان انتصر على النظام السوري وان شعبه اخرج القوات السورية من الاراضي اللبنانية. من كان يصدّق حتى الامس القريب ان شخصا مثل رئيس الجمهورية الحالي سيتجرّأ على قول ما يقوله بعد انكشاف ميشال سماحة؟