لم تعد قضية التدخل الإيراني في الشؤون اليمنية حديثا هامسا بين السياسيين أو أولئك الرافضين لكشف هويتهم للإعلاميين، بل تعدته إلى العلن والمجاهرة به، لتصبح قضية توتر العلاقات بين البلدين، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة اليمنية ضبطها لعدد من شبكات التجسس الإيرانية التي تنشط في الأراضي اليمنية، خلال الشهور الماضية، وما تلاها من تصريحات للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي اتهم فيها إيران صراحة بالتدخل في شؤون بلاده بمختلف الطرق، بل لحد إثارة الأمر خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذا قيام إيران في المقابل باستدعاء السفير اليمني في طهران للاحتجاج على تصريحات واتهامات الرئيس هادي.
وملامح التوتر تتجدد باستمرار، وقبل يومين أعلنت السلطات عن ضبط معدات تتبع عددا من المستثمرين الإيرانيين تقدموا بطلب لإقامة مصنع أدوية، في اليمن، وعندما وصلت المعدات إلى ميناء عدن في إحدى السفن اشتبهت السلطات في محتويات السفينة وقامت بفحصها، لتكتشف أن المعدات يمكن أن تستخدم أيضا في تصنيع أسلحة ومتفجرات. هذا عوضا عن المعلومات المتواصلة عن ضبط سفن إيرانية وهي تحمل أسلحة إلى اليمن في أكثر من مرفأ يمني، مما يجعل اليمن «السعيد» في موقع لا يحسده عليه أحد.
وتتعدد مجالات التدخلات الإيرانية في اليمن وتأخذ أشكالا متنوعة، حسب مراقبين للأوضاع. ومن أبرز علامات هذه التدخلات دعمها الكبير لجماعة الحوثيين في الشمال، منذ عام 2004، والذي يعتبره المراقبون «دعما» واضحا لا يمكن إنكاره.
وخاضت السلطات اليمنية حربا داخلية عسكرية وسياسية مع هذه الجماعة التي أسسها حسين بدر الدين الحوثي، وهو نجل أحد أبرز مراجع المذهب الزيدي في اليمن، الذي قتل على يد السلطات الحكومية بعد اندلاع المواجهات، غير أن جماعته استمرت، حيث خلفه شقيقه عبد الملك في قيادة الجماعة التي بدأت كحركة طلابية شبابية كانت تطلق على نفسها «الشباب المؤمن». اليوم بات الحوثيون يطلقون على أنفسهم تسمية «أنصار الله»، وقد خاضت الجماعة مواجهات عسكرية طاحنة ضد النظام في صنعاء لنحو 7 حروب، كما اعتدت على الحدود السعودية مع اليمن، وخاضت مواجهات مماثلة مع القوات المسلحة السعودية. ولم تقتصر مواجهات الحوثيين مع الحكومة اليمنية أو الاعتداء على جيرانها السعوديين، بل امتدت إلى مواجهات عسكرية مع رجال القبائل الموالية للحكومة في العديد من المناطق التي أخضعوها بالقوة لسيطرتهم، كما خاضوا مواجهات مع الجماعة السلفية في منطقة دماج بمحافظة صعدة على خلفية مذهبية ومن أجل السيطرة العسكرية على جغرافيا المنطقة، وهم ينظرون إلى أنفسهم كأصحاب حق في تلك المناطق من دون منازع.
ومع اندلاع الاحتجاجات التي طالبت برحيل الرئيس السابق علي عبد الله صالح، تمكن الحوثيون، بدعم إيراني كما يقول المراقبون، من السيطرة الكاملة على محافظة صعدة وأجزاء من محافظتي حجة والجوف. وفي الوقت الراهن يدور حديث في الساحة اليمنية عن تحالفات تجمعهم أو تربطهم بعدو الأمس، الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي تقول بعض التقارير الصحافية إنه يقوم، حاليا، بدعم الحوثيين بالمال والسلاح كنوع من الانتقام من خصومه السياسيين في المعارضة السابقة (اللقاء المشترك) بسبب تحالفهم ضده وإقصائه من السلطة، رغم وجود ما يؤكد هذا المنحى. لكن اللافت هو تمكن الإيرانيين من وضع موطئ قدم في ساحة جديدة باليمن وهي الجنوب، عبر التحالف مع بعض الفصائل في «الحراك الجنوبي».
وحول إمكانية قيام إيران بإنتاج أو تصنيع أسلحة في اليمن في ضوء المعلومات الرسمية عن ضبط معدات قابلة للتصنيع، يقول المحلل العسكري اليمني، العميد متقاعد محسن خصروف، إن ذلك ممكن «ومن الناحية النظرية البحتة فإن العديد من ورش الصناعة يمكن أن تحقق أكثر من غرض، فمثلا مصانع المعكرونة يمكن أن تتحول إلى مصانع ذخيرة، ومصانع لعب الأطفال يمكن أن تتحول إلى مصانع معدات متفجرة».
وعن التغلغل الإيراني في اليمن يقول العميد خصروف لـ«الشرق الأوسط» إنه «وفي إطار الصراع الأميركي - الإيراني يمكن القول إن إيران وسعت خطوط دفاعها في مضيق هرمز والمياه الإقليمية لها إلى البحرين العربي والأحمر، وجاءت إلى اليمن من خلال بعض القوى السياسية اليمنية المناصرة لها لكي تبعد المعركة المفترضة عن أراضيها من أجل ألا تهاجمها سفن أميركا ودول الخليج بشكل مباشر، ولذلك فهي تحاول إلهاء الأميركان بمعارك جانبية».
وبشأن جزئية تصنيع الأسلحة في اليمن، فإن العميد خصروف يرى أن ذلك ممكن في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وغير ممكن في المناطق الجنوبية التي تتحالف إيران مع بعض القوى السياسية فيها، لكن هذه القوى لا تسيطر بنفس طريقة الحوثيين.
ثم يأتي الحديث عن ضعف الدولة اليمنية وقوة الأطراف المتعاملة مع إيران، وهنا يرى الخبير اليمني أن المسألة إذا أخذت بصورة مباشرة فإن «الحوثيين يتحاورون حاليا مع خصومهم في حزب الإصلاح (الإسلامي) وقوى سياسية أخرى، ولا أعتقد أنهم بلغوا من القوة بحيث إنهم يضعفون قوة الدولة، فالمسألة نسبية هنا، وربما يكونون في بعض المناطق أكثر قوة، وفي أخرى أقل قوة، وفي المناطق التي تحت سيطرتهم يستطيعون تصنيع أسلحة». وباتت مسألة التدخلات الإيرانية في الشؤون اليمنية الداخلية وزرع العملاء حديثا مهما في الشارع اليمني، فعلاقات البلدين ليست مستقرة على الإطلاق منذ قيام الثورة الإسلامية ووقوف الشطر الشمالي من اليمن (سابقا) إلى جانب العراق في حربه ضد إيران في ثمانينات القرن الماضي. ويرى خبراء سياسيون أن أمر التدخلات لم يعد يثير الدهشة بأي شكل من الأشكال، ويقول الدكتور عبد الله الفقيه، أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء، إنه «لا ينبغي أن تثير إشارات المسؤولين اليمنيين المتكررة إلى وجود أياد إيرانية تعبث في اليمن، أو إعلاناتهم المتزايدة عن إلقاء القبض على أشخاص يقومون بأعمال مشبوهة لصالح إيران على الأراضي اليمنية أي قدر من الدهشة لدى المتابع، فلم تعد المحاولات الإيرانية الحثيثة للتغلغل في اليمن سياسيا وإعلاميا وأمنيا خفية، أو تحتاج إلى الكثير من المهارة لرؤية ملامحها».
ويردف الفقيه قائلا إنه من «الواضح أن إيران تستغل الضعف الكبير الذي تعانيه الدولة اليمنية خلال هذه المرحلة خصوصا حالة انقسام قوات الجيش والأمن اليمنية والأوضاع الاقتصادية السيئة لأبناء الشعب اليمني من فقر وبطالة، بالإضافة إلى الخلافات الداخلية بين فرقاء الحياة السياسية في اليمن وفي مقدمتها التمرد الحوثي في الشمال والحراك الانفصالي في الجنوب وأنشطة جماعات (القاعدة)». ويضيف «إيران تسعى لخلق منطقة نفوذ في هذا الجزء المهم من العالم بأي ثمن حتى وإن تطلب الأمر مد جسور التواصل مع (القاعدة) التي يمكن أن تمثل حليفا مرحليا مهما يشاركها الأجندة ذاتها وإن اختلفت الأهداف».
وتتعدد التحليلات بشأن أهداف إيران من التدخل في اليمن ووضع قوة مناصرة لها. ويقول الدكتور الفقيه لـ«الشرق الأوسط»: «إيران تسعى من خلال أنشطتها التوسعية داخل اليمن إلى تحقيق عدة أهداف، فهي أولا تريد زيادة قوتها الإقليمية واستباق أي خسائر يمكن أن تلحق بها نتيجة لثورات الربيع العربي. وإذا كانت تدافع باستماتة عن النظام السوري ودعمه بكل الطرق الممكنة حتى لا تخسر حليفا استراتيجيا، فإن ما تقوم به في اليمن يمثل انعكاسا لليقين المتزايد بين السياسيين الإيرانيين بأن سقوط نظام الأسد هو مسألة وقت، وأن على إيران أن تبحث عن مناطق نفوذ جديدة في العالم العربي تعوض بها الخسائر الكبيرة المحتملة التي ستلحق بها من جراء سقوط النظام السوري سواء في سوريا ذاتها أو بين الجماعات المرتبطة بالنظام السوري في لبنان والعديد من الدول العربية الأخرى».
وضمن ما يطرحه الأستاذ الجامعي من أهداف هو سعي إيران إلى تحسين قدرتها الاستراتيجية على الرد في أي مواجهة عسكرية محتملة مع دول الإقليم أو مع الغرب، فاليمن بمشاكله العديدة وتركيبته السكانية وموقعه الجغرافي المتميز على طرق الملاحة الدولية يوفر لإيران قاعدة مناسبة ليس لخوض حرب مفتوحة مع الغرب ولكن ربما لشن حرب غير نظامية وغير مكلفة على المصالح الغربية في المنطقة وعلى طرق الملاحة الدولية في البحر العربي ومضيق باب المندب وأجزاء من البحر الأحمر بما يمكن إيران، على أقل تقدير، من تعطيل جزء مهم من خطوط الملاحة الدولية.
ويعتقد الدكتور الفقيه أن اليمن «يوفر بخصائص موقعه قاعدة مثالية يمكن لإيران أن تستخدمها لجمع المعلومات عن التحركات الأميركية في المنطقة بما في ذلك اليمن التي تشهد حضورا متزايدا للأميركيين، من جهة، وتناميا ملحوظا لجماعات (القاعدة) من جهة أخرى. وقد لوحظ أن إيران تعمل بشكل متزايد على إيجاد معارضة قوية في الشارع اليمني للحرب الذي تشنها الولايات المتحدة بالشراكة مع الحكومة اليمنية ضد جماعات (القاعدة) هناك».
وبين أشكال التدخلات الإيرانية في اليمن، كما بات متعارفا عليه كمصطلح، دعمها الإعلامي للجماعات المناصرة لها، فالأمر لم يعد كما في السنوات الماضية التي شهدت وقوفا إعلاميا من قنوات إيرانية مع جماعة الحوثي أثناء آخر جولتي حرب مع الحكومة اليمنية، وهو الأمر الذي استفز حينها السلطات اليمنية، وتوترت علاقات البلدين، بل أصبحت إيران تمول وسائط إعلامية متلفزة وغيرها من الوسائط لجماعة الحوثي ولأحد فصائل «الحراك الجنوبي». ليس ذلك فحسب، فالتقارير الصحافية اليمنية تشير إلى تدريب العشرات من الكوادر الصحافية اليمنية في العاصمة اللبنانية بيروت في المجال الإعلامي والدعاية الإعلامية وبإشراف من حزب الله اللبناني، بعد أن كان الحديث يدور عن تدريب كوادر الحزب لكوادر حوثية في إيران نفسها إلى جانب لبنان السنوات الماضية.
وفي الساحة اليمنية تعد جماعة الحوثي هي المرتبطة بشكل كبير وقوي بإيران، وهذه الجماعة كانت على خلاف مع الحكومة اليمنية وهي اليوم على خلاف، أيضا، مع القوى السياسية في الساحة اليمنية حتى إنها استعدت الرئيس عبد ربه منصور هادي عندما هاجمه الحوثيون، في بيان لهم، ووصفوا تصريحاته التي أطلقها، مؤخرا، من واشنطن حول موافقته الشخصية على الضربات الأميركية ضد عناصر «القاعدة» بأنها «وقحة». وعند طرح ما يثار عن تدخلات إيرانية وهدف الحوثيين من ذلك، رد العلامة محمد مفتاح، القيادي في حزب الأمة، الذراع السياسية لجماعة الحوثي، بالمطالبة بكشف حقيقة تفجير جامع دار الرئاسة اليمنية في يونيو (حزيران) العام الماضي، والذي أصيب فيه الرئيس السابق علي عبد الله صالح وكبار معاونيه، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «أولا نريد أن تكون الأطروحات بعيدة عن المكايدة، وأنا أطالب بكشف الحقائق. نطالب الرئيس هادي والجهاز الإداري والأمني بأن يكشف لنا حقيقة حادث تفجير جامع دار الرئاسة، باعتبارها حقيقة خطيرة جدا وقضية كبيرة جدا، وكذلك الأمر بشأن التفجيرات الأخرى التي وقعت في ميدان السبعين، وغيرها من التفجيرات التي راح ضحيتها العشرات، وأيضا قضية الطيران الأميركي الذي يقصف المواطنين اليمنيين». وطالب مفتاح، أيضا، بما سماه «التحقيق الدقيق في ما يطرح بشأن الخلايا التجسسية الإيرانية في اليمن، وما أثير عن مصنع إيراني للصواريخ صدر إلى عدن عبر حاوية.. نريد كشف الحقائق وبدقة وبعيدا عن المكايدات واتخاذ إجراءات مقنعة للشعب اليمني».
وتضع مطالبة العلامة مفتاح الخاصة بكشف حقائق تفجير جامع الرئاسة علامات استفهام كثيرة، خاصة مع ربطها بما يطرح، حاليا، عن دعم من قبل الرئيس السابق لهذه الجماعة بعد أن كان في واجهة أعدائها في اليمن، لكن مفتاح يعتقد أن «القضية ليست هنا، لأن تفجير دار الرئاسة مسألة واقعية ومشهودة وغير اعتيادية، وليست لهذه المطالبة علاقة بالتحالف بين فلان أو علان من الناس، مع أنه حتى التحالف بين الحوثيين وعلي عبد الله صالح مسألة فيها نظر، هل فعلا يوجد تحالف حقيقي ومتى بدأ التحالف وهل أصدروا بيانات مشتركة أم أنها مجرد مكايدات سياسية؟». وردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول حقيقة التدخلات الإيرانية سواء مباشرة أو عبر الحوثيين، قال العلامة محمد مفتاح «لست مخولا للنفي أو الإثبات، أنا أبحث مثلك عن الإجابة، أريد إثباتا لوجود تدخل إيراني باعتبار ذلك قضية مقلقة للأمن اليمني إذا وجد تدخل إيراني يخل بالأمن في اليمن، ونريد إبعاد الأمر عن التوظيف السياسي، وتوضيح ما هي الأدلة الثابتة على التدخل الإيراني بعيدا عن البحث عن ضحايا من المواطنين البسطاء».
ويلحظ حاليا في شوارع العاصمة صنعاء وجود شعارات إيرانية عدائية للولايات المتحدة وإسرائيل، وقد بدأت تغزو شوارع العاصمة بيافطات كبيرة وعملاقة في كثير من المناطق، وبالأخص خلال الشهر الحالي. وفي هذا يقول مفتاح إن هذه الشعارات الإيرانية وكلمة الله أكبر تعني المسلمين جميعا، و«كون الشعار تبناه تنظيم أنصار الله فهذا لا يعني أنه شعار إيراني». ويضيف «إذا وجدت شعارات الإيرانيين وعلمهم.. مثلا، أطالب شخصيا بإزالتها».
ومن دعم الحوثيين إلى التدخلات ودعم أطراف أخرى وإرسال الأسلحة ومصانع يمكن أن تستخدم لإنتاج الأسلحة، إلى الدعم المالي والإعلامي وغيرهما من أوجه وأشكال الدعم، وربما ليس انتهاء بالشعارات، تظل هناك أطروحات وقصص يومية يمنية.. وفصول أولى للأحداث ربما تشكل مستقبل العلاقات اليمنية - الإيرانية، من جهة، ومستقبل إيران وخصومها، من جهة أخرى.