صدر للباحث فرج الله صالح ديب كتاب "اليمن وأنبياء التوراة" (عن رياض الريس للكتب والنشر 215 صفحة). تتناول دراساته مسرح أنبياء التوراة في اليمن، حيث مدينة جرون التي دفن فيها ابراهيم والتي تقع شمال عدن، وحصن اريحا (بالعبرية بريخو) ما زال شمال صنعاء باسم يراخ، حصن اليهودية ما زال جنوب بريم، وجرار حيث تغرب ابراهيم جنوب غرب صنعاء، إضافة إلى مئات الأسماء التوراتية.
ويتناول افلاس علم الآثار في فلسطين في تصديق كتابات التوراة، وان النبي هود (أصل اليهود) كان الاحناف شمال عدن وان الانصار في يثرب كانوا يهوداً. كما يتناول المسرح الجغرافي للنبي ابراهيم ويوسف وموسى وسليمان والحلال والحرام بين اليهود والإسلام.
ننقل الفصل الثاني من الكتاب الحلال والحرام بين اليهودية والإسلام.
[ الحلال والحرام
بين اليهودية والإسلام
برغم ملامح الانتشار والنشوء العربي لليهودية وللمسيحية في جزيرة العرب قبل الإسلام، فقد حاول بعض فقهاء المسلمين طمسهما، بأن وسعوا عبادة الوثنية قبل الإسلام ووسموا العرب جميعاً بها، تماماً مثلما وسم معظم المستشرقين شعوب العرب لأي معتقد انتموا، بأنهم كانوا يئدون البنات، وكأنما مواليد العرب حينئذٍ كانت من بطون الصخور، لكن الآيات القرآنية قد سفّهت كل الجُهّال والذين تجاهلوا وجهّلوا المؤمنين بحقائق مجتمعات العرب وأديانها، فمئات عدة من الآيات تناولت اليهودية، وأخرى تناولت المسيحية، لأن هذه الآيات كانت تخاطب كل العرب حيثما تدينوا بدعوة للانضمام تحت مظلة التوحيد الإلهي، فاليهودية كانت أُميّة دونما كتاب وكانت منتشرة في اليمن والجزيرة وبلاد الشام، والمسيحية العربية المستقلة عن كهنوت وسلطة الرومان، كانت منتشرة في اليمن والحجاز وبلاد الشام. وقد هزّت المسيحية بانتشارها ملوك اليمن من اليهود، الذين استيقظوا على دين مسيحي يقوّض ناموسهم، فلجأوا إلى الإبادة حيثما استطاعوا، ومسألة الأخدود، حيث أحرق المؤمنون المسيحيون، الواردة في القرآن أبسط دليل على ذلك، وقد استدعى ذلك تدخل الحبشة المسيحية عبر حملة أبرهة نحو الحجاز واليمن لمحاربة اليهودية، إذ إضافة إلى المعروف تاريخياً عن انتشار اليهودية، فإن الملامح المشتركة للحلال والحرام بين اليهودية والإسلام تقدم دلالات هامة على المنابع المشتركة، تصحُّ تماماً عبارة فردريك إنجلز، "أن الإسلام دعوة إلى التوحيد البسيط أمام يهودية ومسيحية مفسدتين في جزيرة العرب، وإيقاظ للشعور القومي العربي أمام غزو الفرس لليمن ولبلاد الشام".
[ ومن هذه الملامح المشتركة:
الضب والجراد والخنزير
الضب حيوان زاحف يشبه التمساح يعيش في جزيرة العرب (لا وجود له في فلسطين)، حيث تتفاوت المناطق التي تحرّم أكله أو تتقوّت به، فالجوهري في قاموس الصحاح (1) يورد "أن الضب دويبة. وفي المثل: لا أفعله حتى يرد الضبْ. أي لا أفعل هذا الشيء حتى يشرب الضب من الماء". وبما أنه لا يشرب أبداً، فإن هذا الفعل مستحيل. وفي سفر اللاويين، الإصحاح 11/29: "هذا هو النجس لكم من الدبيب الذي يدب على الأرض، ابن عرس والفأر والضب على أجناسه". وفي الأحاديث النبوية، لم يحرّم النبيّ أكل الضب وإن لم يأكل منه (2).
أما الجراد فإنه حشرة طائرة تقتات من النبات حتى الإفناء، ولها علاقة جدلية مع الصحراء، حيث يتكاثر تناسلها في الصحراء والحرّ، وهي تحيل الأرض بدورها إلى صحراء. وقبل الإسلام وبعده كانت تباع كميات الجراد بمكاييل مثل الصاع والمد (20 كلغ)، وحتى خمسينات القرن الماضي ظل الجراد يؤكل باتساع في الجزيرة العربية، وهو محلل في التوراة أيضاً، لأن عدداً من أنبياء التوراة قد راد صحراء سينا شمال عدن وتيه أبين (ودخل موسى في التيه، حيث اعتبر أنه تاه!)، ففي سفر اللاويين، الإصحاح، 11/21: "أن ما له كرعان فوق رجليه يثب بهما على الارض منه تأكلون. الجراد على أجناسه والدبا على أجناسه والحرجوان على أجناسه والجندب على أجناسه".
أما الخنزير الذي ينسج حوله من يحرّم أكله أساطير عن عدم نقاوة لحمه، وأنه مليء بالجراثيم، فإن الحيوانات الأخرى التي يأكلها الإنسان مثل لحم البقر والغنم مليئة بالجراثيم أيضاً، وتحتاج إلى درجة حرارة عالية في الطهو لتسلم منها، لكن تحريم لحم الخنزير نصادفه أيضاً في النقوش المصرية حيث كان المجتمع ينبذ من يربّيه، وكان محرّماً أكله عند الفئة العليا من الملوك الآلهة، فيما قنوات وسواقي النيل صالحة لتربيته، لحظة كان ثور البقر رمزاً للطاقة الجنسية. وفي التوراة حُرِّم أكل الخنزير "لأنه يشقّ ظلفاً ويقسمه ظلفين، لكنه لا يجتر، فهو نجس لكم. من لحمها لا تأكلوا وجثتها لا تلمسوا إنها نجسة لكم (3).
وفي الآيات القرآنية جاء تحريم أكل لحم الخنزير في سورة البقرة، الآية 173 (إنما حَرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم)، وكذلك في سورة المائدة، الآية 5، تقول: (اليوم أُحِل لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلٌ لكم وطعامكم حِلٌ لهم)، لكن السبب الرئيس لتحريم أكل لحم الخنزير، رغم أن دهنه كان يستخدم في طلاء خشب الزوارق البحرية، فهو يعود ليس إلى نوعية لحمه، بل إلى سلوكه، إذ من المعلوم أنه في المجتمعات الرعوية، ولأن ممارسة الجنس مكشوفة بين الماشية، فإن الرعاة كثيراً ما يحاولون ممارسة الجنس مع مواشيهم، وهذا مصدر أمراض تناسلية عدّة. ويعتبر الخنزير من الحيوانات المطواعة في ذلك. بل يشار إلى أن الخنزيرة تلف ذنبها على عضو الناكح، وعلى هذه الخلفية نجد في الثقافة الشعبية عبارة "فلان خنزير"، (الديوث) وهي تطلق على الرجل الذي يسهّل لزوجته الدعارة عن طواعية.
[ تحريم شرب الخمر
وبرغم أن ديونيسيوس (الإله أنيس) مولود في نيسا اليمنية على شواطئ البحر الأحمر، وكان إله الخمر عند اليونانيين والرومان، وبرغم أن اليمن كانت تنتج نحو 70 نوعاً من أنواع العنب، فإن الزجليات التوراتية تلعن الخمر. فقد ورد في سفر عاموس، الإصحاح 6/4 قذفٌ للمنحرفين المخالفين للشرائع: "المضطجعون على أسرة من العاج، والمتمددون على فرشهم، الآكلون خرافاً من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة. الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على إسحاق". أما عند الفقهاء المسلمين الذين يفسرون الجنابة على أنه أقوى من التحريم، وبرغم أن الخمر موعودة للمؤمن في الجنّة، فإن الآيات تدرجت في مسألة ذكر الخمر كما يلي: سورة النساء، الآية 43: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون).
سورة البقرة، الآية 219: (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
سورة المائدة، الآية 90: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون).
[الوضوء والصلاة..والطلاق
في خلفية المشهد عبادة للشمس ثم عبادة للإله سين الثلاثي: الشمس والقمر والزُهّرة. وسجود للملوك، فعبادة الشمس حسب مواقيتها: صبحاً، ظهراً عصراً غروباً. ولغة بدأت كلمة صلاة مع عبادة النار التي كانت في جهنّم في وادي هنوم شمال مدينة حجّة اليمنية، ففي صحاح الجوهري، الجزء السادس، وتحت جذر صلا، يرد: (صليتُ العصا بالنار إذا قومتها. صليت الرجل بالنار إذا ألقيته فيها وصلّيته، وفي القرآن يرد (بيع وصلوات)، قال ابن عباس: هي كنائس اليهود أي مواضع الصلوات).
وفي صلاة اليهود في الكنيس (المحوّر عن القليس اليمنية) وراء الحاخام (الحكّام) أورد البلخي صاحب كتاب البدء والتاريخ بعض طقوس اليهود العرب ومنها (4).
الوضوء: "وأما وضؤوهم واغتسالهم فمثل طهارة المسلمين سواء. غير أنه ليس فيه مسحٌ للرأس. ويبدأون بالرجل اليسرى، واختلفوا في شيء منه. ولا يتوضأون بماء قد تغير لونه أو طعمه أو ريحه. ولا يجيزون الطهارة من غدير ما لم يكن عشرة أذرع في عشرة. والنوم قاعداً لا ينقض الوضوء ما لم يضع جنبه".
الصلاة: "ولا يجوز للرجل الصلاة في أقل من ثلاثة أثواب. قميص وسراويل وملاءة يتردى بها. ولا تجوز الصلاة للمرأة في أقل من أربعة أثواب. والصلاة فرض عليهم في اليوم والليلة. ثلاث صلوات إحداهن عند الصبح والثانية بعد الزوال إلى غروب الشمس، والثالثة إلى وقت العتمة إلى أن يمضي من الليل ثلثه"، فيما الصلوات إسلامياً في خمسة مواقيت: الفجر، الظهر، العصر، المغرب، العشاء.
السجود: "ويسجدون في دبر كل صلاة سجدة طويلة، ويزيدون يوم السبت وأيام الأعياد خمس صلوات سوى ما كانوا يصلونها". وإسلامياً يُعمد إلى السجود في صلاة الصبح مرتين، والظهر أربع مرات، والعصر أربع مرات، والمغرب ثلاث مرات، والعشاء أربع مرات.
الحج: "وكان واجباً عليهم الحج في كل سنة ثلاث مرات حين كان الهيكل عامراً والمذبح قائماً".
الصوم: "وأما الصوم فيجب عليهم.. وهو صوم متقطع منه صيام عاشوراء وصيام استير، إلخ. ويغسلون الموتى ولا يصلون عليهم"، أما صيام المسلمين ففي شهر رمضان من كل عام ويغسلون الموتى ويصلّون عليهم".
الزكاة: "وأما الزكاة فالواجب عليهم أن يخرج العُشر من أموالهم كائناً ما كان من السوائم والناض"، فيما الزكاة إسلامياً تحددت بالخُمس من الأموال.
الزواج والطلاق: "ونكاحهم لا يصح إلا بوليّ وخطبة وثلاثة شهود ومهر. وإذا زفّت وكّل أبو المرأة رجلاً وامرأة بباب البيت الذي يفتضها فيه الزوج وفرشوا لها ثياباً بيضاً. فإذا نظر الزوج إلى الثياب، وشهدا بما رأيا إفتضها، فإن لم يجدها بكراً رجمت. ولا يجوز لهم التمتع بالإماء إلا أن يعتقوهن وينكحوهن. وأما طلاقهم وخلعهم فإنه لا يجوز لهم ذلك، إلا أن يقفوا منهم على زنى أو سحر أو رفض دين. ومن أراد أن يطلق يحضر الشهود وكتاب الطلاق ويقول لها أنت طالق مني مئة مرة ومختلعة مني وفي سعة أن تتزوجي من شئت. ولا يقع الطلاق على الحامل".
الحدود: "والحدود عندهم على خمسة أوجه: الحرق على من زنى بأم امرأته أو بربيبته أو بامرأة ابنه. والقتل على من قتل، والرجم على المحصن إذا زنى أو لاط، وعلى المرأة إذا مكنت البهيمة من نفسها، والتعزير على من قذف، والتغريم على من سرق، والبيّنة على المدعي واليمين على من أنكر".
وبعد هذا ما لخّصه البلخي في كتابه، الذي لا يحتاج منا إلى مقارنة أو تعليق قياساً للطقوس والحدود في الشريعة الإسلامية، والذي نخاله (غير مجهول) من الفقهاء.
[فرض الصوم يهودياً
الصوم درءاً لنفاذ الزاد في الترحال، وتعبّداً بعد نجاح، وقصاصاً بعد هويمة، أو صياماً لذكرى. وهكذا قننت التوراة وبعدها كتاب التلمود فروض ومواعيد الصيام على عشائر اليهود وقبلها على المؤمنين بالناموس كشريعة لموسى، فقد جاء في سفر زكريا، الإصحاح 8 19: "هكذا قال رب الجنود، إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة". وفي الإصحاح 7 5: "قلْ لجميع شعب الأرض وللكهنة قائلاً: لم صمتم ونحتم في الشهر الخامس والشهر السابع، وكذلك هذه السبعين سنة. فهل صمت يوماً لي أنا". وفي سفر يونان، الإصحاح 3 5: "فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً"، وهكذا فالصيام وارد في التوراة ومقنن في التلمود، ومنه: صيام الرابع من شهر تشري (تشرين الأول/اكتوبر) الذي تبدأ فيه السنة العبرية، وصوم جداليا التي قتلت على يد الملك البابلي، وصوم الغفران (كيبور الكفارة) في العاشر من تشري ولمدة 72 ساعة، وصوم العاشر من تموز/يوليو، والتاسع من آب/أغسطس. ويرد هذا الصيام في التلمود تحت باب (تحينوث)، وهي الكلمة العربية عينها تحنّف.
ويورد جواد علي نقلاً عن البلاذري: إن عبد المطلب جد النبي الذي لم يسلم "كان أول من تحنث في غار حراء. وكان إذا أهلّ هلال رمضان دخل بحراء، فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، فيطعم المساكين ويكثر الطواف بالبيت" (5).
ويورد الجوهري في الصحاح (6) أن "تحنّث أي تعبّد واعتزل الأصنام، مثل تحنّف، وفي الحديث أنه كان يأتي غار حراء يتحنث فيه".
كما يورد الطبري في تاريخ الأمم والملوك، أن النبي حين "قدم المدينة رأى يهوداً يصومون عاشوراء، فسألهم فأخبروه أنه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجّى موسى ومن معه منهم. فقال: نحن أحق بموسى منهم. فصام. فأمر الناس بصومه. ولما فرض صوم شهر رمضان لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء ولم ينههم عنه (7). هذا وقنن الصيام وحددوه في سورة البقرة الآية 183: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وكذلك في الآيات 184 185 من السورة نفسها. والذين كانوا قبلاً اليهود والمسيحيون.
[التقويم القمري والنسيء
بعض العرب تخطّى استخدام الأشهر القمرية إلى أشهر الدورة الشمسية في 365 يوماً وربع اليوم، والتي كانت واضحة عند البابليين ثم السريان. وهؤلاء السريان من عشائر سبأ اليمنية ولسانهم لسان ملوك حمير اليمنيين، كما كانوا حفظة الناموس الموسوي. كما اعتقد أن بربر الجزائر هم من عشائر السريان (وهي مسألة تحتاج إلى من يبحثها)، لحظة كانت السريانية والعبرية والعربية منتشرة بتفاوت، فالمسعودي مثلاً يشير إلى أن اسماعيل ابن ابراهيم تكلم مثل عشيرة جرهم. وكان سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكّة (8) فيما الطبري يؤكد سريانية آدم وشيت ونوح وإدريس (9).
إذاً، كان لسان اسماعيل سريانياً على لهجة سبأ وعشائرها ذوي الأبجدية الواحدة مع العبرية والعربية (أبجد هوّز). لكن الأشهر السنوية الشمسية كانت الأشهر المستخدمة اليوم في بلاد الشام ولدى اليمنيين (المؤرخ الهمداني) وهي كانون ثان/يناير شباط/فبراير.. إلخ. وكانت هي الأشهر نفسها عند عشائر اليهود فيما عدا أربعة أشهر فقط هي: تشري، حشوان، كلو، طبيت ثم شباط آذار.. إلخ وفق التقويم القمري.
وكان التقويم القمري الذي ارتبط بعبادة الأم الأولى وعبادة القمر المنسجم غياباً وحضوراً مع الدورة الشهرية للطمث عند المرأة، التقويم السائد عند العرب يهوداً وغير يهود في الجزيرة.
وبما أن الأشهر القمرية تظل بمجموعها أقل من 365 يوماً، ولكي تبقى هذه الأشهر في مواعيدها، كان العرب يلجأون إلى النسيء، أي إلى إضافة ثلاثة عشر يوماً على الشهر الأخير، ليعاودوا احتساب الأشهر مع دورة القمر حيث يظل الحج في مواقيته وكذلك رحلات التجارة والمواسم، لكن هذا النسيء يحتاج إلى سلطة محددة لإعلانه خاصة أن الأشهر القمرية تتراوح بين 29 و30 يوماً. لذلك يقول المسعودي: "النساءة في بني مالك ابن كفافة وآخرهم كان أبا ثمامة. وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج (أي الكعبة قبل الإسلام) اجتمعت إليه. فيقوم فيهم فيقول: اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين. الصفر الأول، وأنسأت الآخر أي أخّرت إلى العام المقبل (10).
وكان اليهود العرب يتبعون هذا النسيء، قد ظلوا عليه خاصة بعدما جاءت سورة التوبة في القرآن لتعيد الأشهر القمرية إلى عدم ثباتها، وفيها: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم...)، وفي الآية 37: (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرّم الله...) هذا وما زال التقويم القمري سائداً في الدولة الصهيونية حتى الآن.
[الختان
في مجتمعات تسودها الحرب الأهلية دونما سلطة، كان الوشم (الوسم) وأحياناً كان الجرح في الوجه أيضاً (السودان مثلاً) دلالة انتماء إلى هذه العشيرة أو تلك. تماماً كوسم الماشية للدلالة على مالكها. وعند عشائر اليهود كان الختان دلالة انتماء، لأن أي علامة أخرى كانت محرّمة. ففي سفر اللاويين، الإصحاح 27، جاء: "لا تقصروا رؤوسكم مستديراً، ولا تفسد عارضيك، ولا تجرحوا أجسادكم لميت، وكتابة رسم لا تجعلوا فيكم". إذاً، الوشم محرّم على عكس العشائر العربية الأخرى التي كانت تسم ظاهر الكف أو الذقن برسوم محددة لكل عشيرة.
والختان يتكرر ذكره في سورة التوراة، فقد خاطب الله ابراهيم في سفر التكوين، الإصحاح 17/فقرة 11 14 "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها أنه نكث عهدي".
وهكذا في سفر يشوع ومجمل الأسفار، وبناء عليه، فإن الختان انتقل إلى العشائر غير اليهودية والتي كانت تدين بشريعة الناموس (ناموس موسى)، وإلى عشائر اليهود سواء تحت حكم امبراطوريات اليمن "اليهودية" أو خارجها، كما نجد عادة الختان عند الفينيقيين اليمنيين الذين قدموا إلى شواطئ الشام وكانوا يمارسون الختان(11). كما كانت عادة عند آلهة بلاد القبط (مصر اليوم) ترجع إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، خاصة ختان الكهان بعد عمادتهم بالماء (12).
وهذا الختان كان سائداً في مكّة وبين يهود يثرب من الأنصار، وتحوّل إلى سُنّة شائعة لدى المسلمين، لذلك قال الطبري: "قد ابتُلي ابراهيم بعشرة أشياء هي في الإسلام سنُّة: المضمضة الاستنشاق وقص الشارب والسواك ونتف الإبط وتقليم الأظافر وغسل البراجم والختان (13). والختان اليوم فرضٌ شرعيٌ في الدولة الصهيونية، أثار تطبيقه سخط اليهود الفلاشا الذين استُقدموا من الحبشة، والذين كان عليهم أن (يطهروا يختنوا) ليحوزوا شروط الانتماء إلى المواطنة الإسرائيلية، فيما اسم الفلاشا هو نفسه اسم فلشتيم بالعبرية أي الفلسطينيين. وفلاشا الحبشة من جنوب اليمن من عشائر بن فليس التي ما زالت.
[ الرجم
استعمل الحجر في المجتمع الرعوي للمقلاع وللتراشق عراكاً بالترافق مع العصي. وكذلك كان الرجم عند عشائر التوراة المتنقلة. وقد ورد ذكره في التوراة في سفر اللاويين، الإصحاح 20/27 عندما عوقب الذي شتم بالرجم، وفي سفر العدد، الإصحاح 14 10، وكذلك رجم الذي لم يسبت نهار السبت، كما يتكرر في سفر التثنية ويشوع وصموئيل الثاني ويطال جريمة الزنى بالتساوي مع الخارج عن الشريعة. إضافة إلى الجلد أربعين جلدة عقاباً لذنب يقرّه القضاة. وكان الرجم سائداً في جزيرة العرب، ومورس مرة واحدة أيام النبي على امرأة تُسمّى المعمرية بجريمة الزنى، حيث كان الموقف الحناني للنبي الذي قال بعد أن أخبر بكيفية رجمها "يا ليتكم خليتموها". ومن بعدها حددت بشروط دقيقة وشهادة شهود مسألة الاتهام بالزنى، فلقد نصّت "سورة النور" على الجلد مئة جلدة للزاني والزانية، في حين أن الرجم ظل سُنّة متبعة عند البعض من العرب. أما المسيح في الأناجيل فقد أطلق صيحته: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" وكان بذلك يناقض التوراة.
الهوامش
1 الجوهري، قاموس الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط3،ج 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979، ص 167.
2 الصليبي، كمال، التوراة جاء من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985، هامش ص 67.
3 الكتاب المقدس، التوراة، سفر اللاويين، الإصحاح 11، فقرة 7 8.
4 البلخي، البدء والتاريخ المنسوب للمقدسي، ج 4، طبعة كليمات لوار، باريس، 1907، ص 36 39.
5 جواد، علي، تاريخ العرب في الإسلام، 1981، ص129.
6 الجوهري، ج 1، ص 280.
7 الطبري، تاريخ الأمم والملوك، قسم أول، ج 3، طبعة خياط، ببيروت، 1968، ص 1281.
8 المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مجلد أول، ج 2، دار الأندلس، بيروت، 1978، ص 45.
9 الطبري، المصدر نفسه، قسم أول، ص 174.
10 المسعودي، ج 2، ص 30.
11 سوسة أحمد، العرب واليهود في التاريخ، دمشق 1972، ص 218.
12 سونيرون، سيرج، كهان مصر القديمة، ترجمة زينب الكردي، الهيئة المصرية، 1975، ص 42.
13 الطبري، المصدر نفسه، قسم أول، ج 1، ص 212. في الخطبة والمهر والزواج والطلاق، يمكن أيضاً مراجعة: محمد بيومي مهران، دراسات في حضارات الشرق الأدنى القديم، ج 2، إسرائيل، مكتبة التوني. القاهرة، 1983، ص 245 278.