يجمع اليمنيون بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية والثقافية، على أن مؤتمر الحوار يمثل طوق النجاة لليمن الذي تتجاذبه أزمات عدة في غاية الخطورة، غير أن انعقاد المؤتمر بحد ذاته، لا يعني أنه سينجح في معالجة الأوضاع الملتهبة في البلاد، وهي المخاوف التي تجهر بها النخب السياسية والاجتماعية اليمنية، التي تخشى أيضاً أن تتحول الرعاية الدولية لمبادرة التسوية السياسية، إلى وصاية تفرض على اليمنيين ما يحقق المصالح الغربية، وإن كان لا يتناسب مع واقع اليمن وظروفه.
وتعتقد هذه النخب أن فشل مؤتمر الحوار، الذي يعد آخر الفرص لإنقاذ اليمن، سيضع البلاد على عتبة الحرب الأهلية، والغرق في مستنقع المواجهة المسلحة، لأن جميع الأطراف ستتجه مباشرة إلى هذا الخيار، في محاولة لفرض ما يحقق لكل فريق مصالحه بالقوة، خصوصاً في حال تمسك كل طرف بما يحمله من رؤى وتوجهات، تجاه القضايا الشائكة التي سيبحثها المؤتمر، والتي يتطلب حلها مرونة في الطرح، وتقديم تنازلات متبادلة من جميع المتحاورين، حتى يتم التوصل إلى قواسم مشتركة تحفظ حقوق مختلف الأطراف.
والشق الثاني من المخاوف التي تتحدث عنها النخب السياسية والاجتماعية اليمنية، تتعلق بالدور الخارجي الذي بات يفرض رؤيته الخاصة، لمعالجة الملفات المعروضة على مؤتمر الحوار الوطني، وهي الرؤية التي لا تدرك جيداً أبعاد المشاكل وخلفياتها وملابساتها التي سيجرى بحثها، وبالتالي ستزداد الأمور تعقيداً، لأن الحلول «المعلبة» المقبلة من خارج الحدود اليمنية، في نظر هذه النخب، لا تراعي طبيعة الأوضاع والخصوصية اليمنية، ولا التداخلات القبلية والسياسية، التي يفترض عمل حسابها عند تحديد المعالجات المطلوبة.
وعبّر صحافيون ومثقفون يمنيون، عن مخاوفهم من أن يتحول مؤتمر الحوار الوطني الشامل، إلى مظلة لقرارات ليس لليمنيين فيها أي دور، بخاصة أن الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية، والتي تراقب عن كثب كل الخطوات التنفيذية لبنود التسوية السياسية، ترفع عصا الشرعية الدولية ومجلس الأمن في وجوه كل الأطراف، وتهددها بالعقوبات الدولية، التي ستتخذ بحق أي طرف يعوق مسار التسوية السياسية، واستكمال جميع بنودها خلال الزمن المحدد للفترة الانتقالية الثانية التي ستنتهي بانتخابات رئاسية وبرلمانية في شباط (فبراير) 2014.
سيادة منتهكة
ويقول عدد من الصحافيين والمثقفين ل «الحياة»، إن اليمن أصبح منتهك السيادة ويُدار من داخل سفارات بعض الدول الغربية، وإن دور المؤسسات اليمنية يقتصر على تنفيذ ما يصل إليها من تعليمات، ويستند في هذه المخاوف، إلى ما حدث من توزيع لمهمات بعض الدول الغربية الراعية للمبادرة الخليجية، حيث تشرف فرنسا على صوغ الدستور الجديد لليمن، وتتولى روسيا مهمة الإشراف على إقامة مؤتمر الحوار الوطني، بينما تشرف أميركا على إعادة هيكلة الجيش اليمني وإنهاء الانقسام الحاصل في صفوفه.
ويؤكد هذا العدد من المثقفين أن الاستفادة من خبرات هذه الدول، ودعمها ورعايتها للتسوية السياسية لنقل السلطة سلمياً، أمر مطلوب ومهم للغاية في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ اليمن، غير أن ما يعتمل على أرض الواقع، وفق هؤلاء السياسيين والمثقفين، يتعدى الدعم وتقديم الخبرات، ويصل إلى فرض الرؤى والتوجهات التي تحملها هذه الدول، وبما يحقق أهدافها ومصالحها في اليمن والمنطقة عموماً، لأن هذه الدول في نظرهم، لن تقدم احتياجات اليمن ومصلحته، على مصالحها وما تهدف إلى تحقيقه.
ويرى الصحافيون والمثقفون اليمنيون، أن أميركا لن تكون أكثر حرصاً من اليمنيين أنفسهم، على مسألة توحيد الجيش والأمن وإعادة هيكلتهما، على أسس ومعايير فنية ومهنية ووطنية، وليس مهماً بالنسبة لها أن يمتلك اليمن جيشاً محترفاً وقوياً، بمقدار اهتمامها بالحرب على الإرهاب، والقضاء على مسلحي تنظيم «القاعدة»، الذي بات في نظر واشنطن مصدر الخطر الأكبر، بين فروع التنظيم على مستوى العالم، ويهدد مصالحها وحلفاءها في المنطقة، خصوصاً بعد ما حققه «القاعدة» من مكاسب خلال عامي 2011 و2012، مستغلاً حال الانفلات الأمني الذي صاحب الثورة الشبابية ضد نظام حكم الرئيس السابق علي صالح.
ويتخوف اليمنيون أيضاً من الدور الذي ستلعبه فرنسا، في إعداد الدستور اليمني الجديد، على رغم تأكيد السفير الفرنسي في صنعاء فرانك جيله، خلال لقاء جمعه أخيراً برئيس الحكومة اليمنية محمد سالم باسندوة، أن الدستور الجديد «سيكون صوغه يمنياً خالصاً»، وأن الدور الفرنسي سيقتصر على تقديم الدعم في «الجوانب الفنية»، وهو الأمر الذي أكده أيضاً وزير الشؤون القانونية الدكتور محمد المخلافي في حديث صحافي.
مهمة رئيسية
وقال المخلافي إن آلية تنفيذ العملية الانتقالية، حددت من يضع الدستور، وأن المهمة الرئيسة تقع على مؤتمر الحوار الوطني في جانبين، الأول بتحديد شروط تشكيل اللجنة الدستورية، الثاني وضع مؤتمر الحوار تصوره للمستقبل بما في ذلك هيكلة الدولة وشكل نظام الحكم السياسي، غير أنه أوضح في الوقت ذاته أهمية الدعم الخارجي، مشيراً إلى أن العملية الانتقالية برمتها مدعومة من المجتمع الدولي ولا يستطيع اليمنيون أن يحققوها من دون الدعم الدولي، بما في ذلك الدعم في تغيير الدستور.
ومع ذلك تتصاعد المخاوف اليمنية، من سعي فرنسا والدول الغربية، لفرض نصوص دستورية تمس جوهر الهوية اليمنية، وتؤسس لفرقة المجتمع وانقسامه، وتستند هذه المخاوف إلى ما ورد من محاور في مشروع مصفوفة المواضيع المطروحة على مؤتمر الحوار، وبدرجة رئيسة المحور الخاص ب «هوية الدولة وشكل الدولة»، ويثير هذا العنوان الكثير من التساؤلات، حول هوية اليمن القومية والإسلامية ووحدة أراضيه، حيث تنص المادة الأولى من الدستور النافذ على أن «الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، وهي وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها، والشعب اليمني جزء من الأمة العربية والإسلامية».
في حين تنص المادة الثانية من الدستور النافذ على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية»، وحددت المادة الثالثة «الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات»، ويخشى المتخوفون من أن تمس هذه النصوص بالتعديل أو الإلغاء، بما يفتح الباب لإقامة نظام حكم علماني أو شبه علماني في اليمن، أو اعتماد الشكل الفيديرالي للدولة اليمنية، كمقدمة لانفصال جنوب اليمن عن شماله، بخاصة في حال تم فرض النظام الفيديرالي بين الشطرين، الذي تطالب به بعض فصائل «الحراك الجنوبي»، وليس كما تطرح بعض القوى السياسية اليمنية، التي ترى إعادة تقسيم اليمن إلى عدد من المخاليف، يراعى فيها التداخل الجغرافي والتوزيع السكاني والموارد المالية الطبيعية.
وينتقد الكثير من السياسيين اليمنيين، محور «الشراكة الوطنية طويلة الأمد»، الذي ورد أيضاً في مشروع مصفوفة المواضيع المطروحة على مؤتمر الحوار، ويخشون أن ينص عليه مشروع الدستور الجديد، ويرون أن هذا العنوان غامض، وقد يكون المقصود به المحاصصة السياسية وغير السياسية بين شمال اليمن وجنوبه، وهو التفسير الأقرب في ظل ما يطرح حول «القضية الجنوبية»، وما يرافق هذا الطرح من شكاوى لأبناء المحافظات الجنوبية، تتركز حول إزاحتهم من الحكم، على رغم أنهم يمثلون دولة مستقلة قبل قيام الوحدة في 22 أيار (مايو) 1990.
ولا يستبعد هؤلاء السياسيين الذين تحدثوا ل «الحياة»، أن تستنسخ فرنسا من خلال مفهوم الشراكة، نظام الترويكا اللبنانية لتطبيقه في اليمن، مع الفارق بين البلدين، باعتبار أن هذا النظام يطبق في لبنان على أساس طائفي، بينما سينفذ في اليمن على أسس جغرافية (شمال وجنوب)، وبحيث يكون رئيس الدولة من أحد الشطرين، ورئيس الحكومة من الشطر الآخر، وكذلك الحال بالنسبة لمجلس النواب، وجهاز القضاء والجيش وغير ذلك من القطاعات، وفي حال صح مثل هذا الطرح، فإنه سيفتح الباب لقوى أخرى يصعب إغفالها، عند الحديث عن الشراكة والمحاصصة، مثل الحوثيين في محافظة صعدة (شمال اليمن) والقوى القبلية التقليدية.
ويؤكدون أن مفهوم الشراكة الوطنية طويلة الأمد، يتناقض مع المفاهيم الديموقراطية وقواعدها، القائمة على التنافس بين الأحزاب السياسية، التي تتسابق للوصول إلى الحكم، من خلال البرامج التي تطرحها للناخبين للحصول على أصواتهم، في حال أقر النظام البرلماني، أو وصول رئيس الدولة والحكومة إلى الحكم، من خلال شكل الحكم المختلط الذي يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، ويرون أيضاً أن مفهوم الشراكة، يتناقض كذلك مع مبدأ تكافؤ الفرص، الذي ستنعكس عليه سلباً المؤثرات السياسية المرتبطة بالمحاصصة.
مخاوف منطقية
بالطبع المخاوف السالفة الذكر منطقية ومشروعة، خصوصاً إذا ما علمنا أن جميع الأطراف، التي يفترض مشاركتها في الحوار الوطني المرتقب، لم تعلن بعد عن رؤاها، تجاه القضايا التي ستعرض على مؤتمر الحوار،
كما لم تقدم أية تصورات للحلول والمعالجات التي تراها مناسبة لكل قضية من القضايا، وفي مقدمها «القضية الجنوبية» وقضية الحوثيين في محافظة صعدة، وموضوع إعادة هيكلة الجيش، وكذلك الرؤية المتعلقة بالدستور اليمني الجديد، وما يمكن أن يبقى من نصوص الدستور الحالي، والنصوص التي يفترض أن تحذف أو تعدل، وكأنهم ينتظرون ما سيقدم إليهم، من قبل الرعاة الدوليين للمبادرة لمناقشته والتوافق عليه.
وحتى لو قدم كل طرف من المشاركين في الحوار، رؤاه تجاه كل تلك القضايا، فإنها في أحسن الأحوال، رؤى فوقية نخبوية تعكس قناعات ورؤى القيادات السياسية، للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمكونات الاجتماعية والقبلية الأخرى، وليس لها علاقة بالقاعدة الشعبية للأحزاب والمكونات المماثلة، الأمر الذي يفقد مخرجات الحوار التوافق الوطني، وقد تواجه بالرفض الشعبي، وبخاصة الدستور الجديد الذي سيعرض على الشعب اليمني، للموافقة عليه في استفتاء عام.
وكان المفروض على الأحزاب السياسية اليمنية بالذات، الرجوع إلى قواعدها الشعبية، لأخذ رأيها تجاه مختلف بنود مؤتمر الحوار ومحاوره، قبل أن تذهب للتحاور مع الآخرين حولها، وكان حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يرأسه صالح هو السباق في هذا الجانب، وإن كانت اللقاءات التشاورية التي تجريها قياداته العليا، مع القيادات الوسطية ومكونات فروع الحزب في المحافظات، اقتصرت فقط على «القضية الجنوبية»، والتشاور حول طريقة حلها وأسلوبه.
وفي كل الأحوال، لا يزال المشهد اليمني الراهن مرتبكاً، ووفق التصريحات الصحافية الأخيرة لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر، فقد «تقدمت العملية السياسية فعلاً، وهناك تطبيق لاتفاق نقل السلطة، لكن في الوقت نفسه، ما زال الوضع هشاً، ويتطلب من المجتمع الدولي ابداء اهتمام متزايد بهذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها اليمن»، وأكد بن عمر أن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة، «فإما ستنجح العملية الانتقالية، أو نعود إلى نقطة الصفر».