يستطيع كل متابع حصيف، إدراك العلاقة بين صدور تلك القرارات والتفاعل الإعلامي الصاخب الذي سبق صدورها، فيما سمى بأزمة مجموعة ألوية الصواريخ الإستراتيجية، التي كانت تحت سيطرة العميد أحمد علي عبدالله صالح، النجل الأكبر للرئيس السابق؛ وكذا التهيئة السياسية الإقليمية والدولية، ممثلة بتصريحات وخطابات المبعوث الأممي المضطلع بهذا الشأن، السيد جمال بن عمر، وكيف أن ذلك الصخب أفضى إلى حلول توافقية، كان من ضمنها، سفر نجل الرئيس السابق إلى خارج اليمن، قبل أيام قليلة من صدور هذه القرارات.
ما يؤكده مطلعون بهذا الجانب، أن اتفاقا وتفاهما مسبقا خرجت به جميع الأطراف، تحت ضغط شعبي وإقليمي ودولي، إزاء بطء تحقق مفردات العملية الانتقالية للسلطة التي حددتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية الموقعة في الرياض في الثالث والعشرين من نوفمبر عام 2011م، وأن هذه التفاهمات مهّدت للوصول إلى هذا المحرج، الذي تضمنته القرارات الأخيرة، بحيث يتيح غياب نجل الرئيس السابق، الحفاظ على ماء الوجه، وهو يواجه لائميه ممن يعلنون نصرته ومؤازرته في مواجهة أي قرارات عليا قد تقلص من نفوذه، وتحد من سيطرته العسكرية، وهو اختيار المضطر، دون شك؛ حيث أن هذه القرارات لم تطل جزءا يسيرا من الوحدات العسكرية التي يسيطر عليها، وهي: القوات الخاصة، ووحدات مكافحة الإرهاب، ومجموعة ألوية الصواريخ، واللواء العاشر/صاعقة، واللواء الأول مشاة/جبلي؛ بل إنها ستستهدف منصب أركان حرب الأمن المركزي، الذي يقوم عليه ابن عمه، العميد يحي محمد صالح، وهي خطوة تجعل من هذا الأخير في موقف أضعف مما كان يتوقعه، ما يدفعه للتسليم دون أدنى رد فعل.
وبالعودة إلى مضامين تلك القرارات؛ فإنها لا تخلو من ضرورة وطنية هامة، كما أنها جُعلت تأتي بطريقة ترضي القائمين على الوحدات العسكرية محل الخلاف، وترضي مُصْدِر تلك القرارات، وهو الرئيس عبدربه منصور هادي، وتَبرز ضرورتها الوطنية، من حيث كونها ستعمل على استيعاب الكتلتين العسكريتين الكبريين في البلاد، اللتين تشكلان قلقا شعبيا ورسميا، وهما: الفرقة الأولى المدرعة، والحرس الجمهوري، أما مصدر الرضا لطرفي التنافس- وهو رضا نسبي- أنه يمثل مخرجا سلسا لكل منهما، مع احتفاظهما ببعض الامتيازات والأشخاص المقربين منهما، في قيادة الوحدات المكونة لها، أو المجتزأة منها، أما الرضا الذي حازه مُصْدر القرار، هو أنه استطاع بهذه الخطوة ضم واستحداث قوة نوعية ضاربة تقترب، كما ونوعا، من القوة التي كانت بيد الرئيس السابق، وتتمثل هذه القوة، بألوية الحماية الرئاسية، ومجموعة ألوية الصواريخ، وكذا العمليات الخاصة الحديثة النشوء، بمكوناتها القوية المتعددة، القابلة للتوسع، وفقا لمنطوق المادة الثانية من القرار الجمهوري رقم(104) لعام 2012م، وذلك خلال الخمس السنوات القادمة، في إطار تطور التنظيم الهيكلي للقوات المسلحة الذي شمله هذا القرار.
قد يتساءل البعض: لماذا-حتى هذه اللحظة- لم تطَل قرارات الرئيس هادي الفرقة الأولى المدرعة، بذات القدر الذي طال الحرس الجمهوري، في جانب الضم والإلحاق لوحداته في صنوف القوات المسلحة المختلفة؟ ومدعى هذا السؤال، أن أغلب هذه القرارات غير متكافئة في الظاهر، والتي كان آخرها الضم والإلحاق بألوية ووحدات مستقلة كانت تحت سيطرة نجل الرئيس السابق، ومنها ما جاء به القرار الأخير، وهو ضم: اللواء العاشر/صاعقة، واللواء الأول مشاة/جبلي، والقوات الخاصة، ووحدات مكافحة الإرهاب، ومجموعة ألوية الصواريخ، إلى ما استحدث في هذا القرار، باسم: العمليات الخاصة، التي ألحقت جميعها بالاحتياطي الإستراتيجي القائد الأعلى للقوات المسلحة.
والإجابة على ذلك، أن القوة التي كان يتحكم بها الرئيس السابق، كانت تفوق، عددا وعتادا، ما لدى الفرقة الأولى المدرعة، علاوة على تحكم إخوته وأنجاله وأنجال إخوته بالكثير من هذه الوحدات العسكرية والأمنية، بل إن الأمر وصل بأن يسند أكثر من وحدة عسكرية لابنه أحمد، وتمركز تلك الوحدات داخل العاصمة وعلى جبالها، وفي المنافذ المؤدية إليها، بخلاف ما كان لدى الفرقة من وحدات عسكرية لا تشكل قلقا أو مطمعا للمجموعة الحاكمة اليوم والتي تطمح
باستمرار حكمها مستقبلا؛ سواء بالرئيس هادي أو بسواه، وسيكون السؤال غير مبرر إذا عُرف أن مصير الوحدات المتبقية من الفرقة الأولى المدرعة، ومن الحرس الجمهوري، هو الانصهار داخل الصنوف العسكرية الرئيسة المحددة بالقرار الجمهوري السابق.
إن أقرب الصنوف التي يمكنها استيعاب ألوية الفرقة وألوية الحرس، هي: القوات البرية، وقوات حرس الحدود، في المناطق والمحاور التي تتواجد فيها، وقد يعزَّز بالبعض منها جانب القوات البحرية، التي تعاني من نقص شديد في ملاكها البشري، وذلك في جانب وحدات المشاة البحرية، والوحدات العاملة في السواحل، وفي الجزر التي تتعاظم أطماع قوى دولية وإقليمية للاستيلاء عليها، وكذا تنامي أخطار القاعدة التي يتسلل عناصرها عبر الحدود البحرية المفتوحة، وأخطار الهجرة غير الشرعية، ومناشط أعمال التهريب، وتجارة المخدرات؛ إلا أنه يظل أمر تماهي هذه الوحدات في هذه الصنوف؛ مرهون بمدى جدية الخطوات القادمة، في تحقيق هذه الرؤية، واستصدار القرارات المكملة والمؤكدة لذلك، فضلا عن القدرة على تجاوز العوائق التي قد تُحشد بدهاء من قبل مختلف الأطراف، متى ما أحست بالخطر، وإن أبدت في هذه الأيام وجوه الرضا.
وأخيرا؛ وحتى لا تأخذنا لحظات الحبور اليوم، إلى مآخذ الندم غدا؛ فإنه يجب أن يُحبط أي خطر قادم يُخشى منه تحول البلاد إلى ساحة اصطراع، على موروثات مختلفة ومتخلفة، وذلك بأن تتحول هذه القوة التي تستجمعها مجموعة الحكم الراهنة إلى أداة قسر في أيديها، وقد ظفرت بالكثير من أدوات الهيمنة العسكرية من جهة، والهيمنة السياسية التي هي في الطريق إليها، من جهة أخرى، ما يجعل هذه الحلول المرتضاة اليوم، بمثابة التهيئة لأزمات سياسية وعسكرية قادمة، هي أشد ضراوة مما مرت به اليمن، لأنها قيامها سيكون على عبء تاريخي مثخن بالجراح، خلفته الصراعات الدموية التي احتدمت بين أجنحة السلطة التي حكمت اليمن خلال خمسة عقود، سواء في حالة حكمها اليمن مشطّرا أو موحدا، والتي كانت تطل على إيقاعات متتالية حسابية يراوح مداها بين الثمان إلى العشر سنوات، وهو أمر دقيق التوقع، انطلاقا من الوجوه المتنافرة التي أفرزتها الأحداث الحالية، أو تلك التي تقاطرت إلى الداخل، وتلك التي تتأهب متى تهيأت اللحظة.
*باحث في شئون النزاعات المسلحة