وفي البداية أعلنت الحكومة اليمنية أن من قتلوا كانوا مسلحين من تنظيم القاعدة، وأن طائراتها الحربية التي تعود إلى العصر السوفياتي هي التي نفذت ذلك الهجوم يوم 2 سبتمبر (أيلول) الماضي، إلا أن شيوخ القبائل والمسؤولين اليمنيين كشفوا فيما بعد عن أنها كانت غارة أميركية، وأن الضحايا هم مدنيون كانوا يعيشون في قرية تقع بالقرب من رداع وسط اليمن. وفي الأسبوع الماضي، اعترف المسؤولون الأميركيون لأول مرة بأنها كانت ضربة أميركية.
ويستعيد سلطان أحمد محمد (27 عاما)، الذي كان يجلس على غطاء محرك السيارة ثم طار في الهواء قبل أن ترتطم رأسه بتبة رملية، ذكريات تلك اللحظة فيقول: «لقد كانت جثثهم تحترق. كيف أمكن أن يحدث هذا؟ لم يكن أي منا ينتمي إلى تنظيم القاعدة؟».
وبعد مرور ما يزيد على 3 أشهر، تفتح هذه الواقعة نافذة للتعرف منها على الجهود التي تبذلها الحكومة اليمنية من أجل التستر على أخطاء واشنطن، والعواقب غير المقصودة من سقوط ضحايا بين المدنيين في الغارات الجوية الأميركية. وفي هذه الحالة، فإن سقوط الضحايا يعزز من شعبية تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي حاول مرات كثيرة شن هجمات داخل الأراضي الأميركية.
وقد حاول أبناء القبائل الغاضبون حمل الجثث إلى بوابات القصر الرئاسي، مما أجبر الحكومة على اتخاذ موقف نادر الحدوث بسحب ادعائها بأن من قتلوا كانوا مسلحين. ويقول المسؤولون اليمنيون ومشايخ القبائل إنه من الواضح أن المستهدف بذلك كان قائدا كبيرا في تنظيم القاعدة هو عبد الرؤوف الذهب، الذي كان يعتقد أنه يستقل سيارة على الطريق نفسه.
وقد تسببت الغارات الجوية الأميركية في مقتل أعداد غفيرة من المدنيين في أفغانستان وباكستان ومناطق أخرى من العالم، وقامت تلك الحكومات بالتنديد بهذه الهجمات، إلا أن الحكومة الضعيفة في اليمن كثيرا ما تحاول إخفاء وفيات المدنيين عن الشعب، خوفا مما قد يحدثه ذلك من أصداء في بلد يسوده العداء تجاه السياسات الأميركية، وهي ما زالت تصر في التقارير الإعلامية المحلية على أن طائراتها العتيقة هي التي هاجمت الشاحنة. وفي المقابل، فقد التزمت إدارة الرئيس أوباما الصمت على الصعيد الرسمي، إذ لم تؤكد أو تنفِ أي تورط لها في الأمر، وهو سلوك تقليدي يتبع مع معظم الضربات الجوية الأميركية في حربها السرية التي تشنها ضد الإرهاب داخل هذا البلد الشرق أوسطي ذي الأهمية الاستراتيجية.
وردا على الأسئلة التي وجهت إليهم، ذكر مسؤولون أميركيون في واشنطن، طلبوا عدم الإفصاح عن هويتهم بسبب حساسية الموضوع، أن الطائرة التي أطلقت النار على الشاحنة كانت طائرة تابعة لوزارة الدفاع، سواء كانت طائرة من دون طيار أم طائرة حربية عادية. وقد امتنع البنتاغون عن التعليق على هذه الواقعة، تماما كما فعل كبار المسؤولين الأميركيين في اليمن وكبار مسؤولي محاربة الإرهاب في واشنطن.
ومنذ وقوع ذلك الهجوم، اكتسب المسلحون الموجودون في مناطق القبائل المحيطة برداع المزيد من المجندين والمؤيدين في حربهم ضد الحكومة اليمنية وداعمتها الرئيسية الولايات المتحدة، حيث أبدى اثنان من الناجين وأقارب 6 من الضحايا - تم إجراء حوارات معهم كل على حدة، وتحدثوا إلى صحافي غربي لأول مرة عن هذه الواقعة - استعدادهم لدعم «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» أو حتى القتال إلى جانبه. ويوضح محمد: «قريتنا بالكامل غاضبة من الحكومة والأميركيين. إذا كان الأميركيون هم المسؤولين، فلن يكون أمامي أي خيار سوى أن أتعاطف مع تنظيم القاعدة، لأن تنظيم القاعدة يقاتل أميركا».
كما بدأ الغضب الشعبي يتنامى في ظل استمرار الأصوات المطالبة بالحساب والشفافية والتعويض في التعالي دون مجيب، وسط مزاعم من جانب ناشطين حقوقيين ونواب برلمانيين بأن الحكومة تحاول التستر على ذلك الهجوم من أجل حماية علاقتها مع واشنطن، وحتى كبار المسؤولين اليمنيين يقولون إنهم يخشون من أن تؤدي ردة الفعل الغاضبة هذه إلى إضعاف سلطتهم.
ويقول ناصر مبخوت محمد السابولي (45 عاما)، وهو قائد الشاحنة الذي أصيب بحروق وكدمات: «إذا تم تجاهلنا وإهمالنا، فسوف أحاول أن أثأر لنفسي. من الممكن حتى أن أختطف سيارة من سيارات الجيش وأعود بها إلى قريتي وأحتجز الجنود كرهائن. سوف أقاتل إلى جانب تنظيم القاعدة ضد كل من يقف وراء هذا الهجوم».
* غارة جوية واحدة ضمن العشرات
* وبعد التخلص من أسامة بن لادن العام الماضي، برز اليمن كميدان معركة رئيسي في الحرب التي تشنها إدارة الرئيس أوباما ضد المسلحين الإسلاميين، كما أن أعضاء «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» هم من بين المدرجين على «قائمة تصفية» سرية وضعتها الإدارة لمطاردة المشتبه فيهم بالإرهاب، وهي حملة دموية تقوم بمعظمها طائرات من دون طيار، إلا أنها تشمل أيضا طائرات حربية تقليدية وصواريخ «كروز» يتم إطلاقها من البحر.
وهذا العام تم توجيه 38 ضربة جوية أميركية على الأقل في اليمن، وذلك بحسب ما ذكره موقع «لونغ وور جورنال»، وهو موقع إلكتروني غير هادف إلى الربح يتولى متابعة هجمات الطائرات الأميركية من دون طيار، وهذا الرقم أعلى بكثير من عدد الهجمات التي شهدها أي عام آخر منذ عام 2009 الذي يعتقد أنه هو العام الذي أمر فيه الرئيس أوباما بشن أول ضربة للطائرات من دون طيار.
وقد كان هجوم رداع واحدا من أكثر الهجمات دموية منذ أن تسببت ضربة أميركية بصواريخ «كروز» وقعت في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2009 في مقتل عشرات المدنيين، كان من بينهم نساء وأطفال، في منطقة المجلة الجبلية (جنوب اليمن). وبعد ذلك الهجوم، تحول الكثير من أبناء القبائل في تلك المنطقة إلى متشددين وانضموا إلى «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب». وقد صرح وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي قائلا: «الناس ضد الاستعمال غير المميز للطائرات من دون طيار. إنهم يريدون إدارة أفضل للطائرات من دون طيار، والأهم من ذلك أنهم يريدون بعض الشفافية على قدر ما يجري - من الجميع».
وقد تصاعدت وتيرة القلق من وفيات المدنيين منذ الربيع الماضي، حينما قام البيت الأبيض بتوسيع نطاق تعريف المسلحين الذين يمكن استهدافهم في اليمن، ليشمل أولئك الذين قد لا يكونون معروفين. ويقول مسؤول في إدارة الرئيس أوباما، طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الحديث عن الهجمات الجوية الأميركية هنا: «نحن لا نهاجم في مناطق مأهولة. نحن لا نتعقب أشخاصا في مناطق سكنية لا نعرف كل من فيها. نحن نعمل جاهدين على تقليل الأضرار الجانبية. وبعد كل ما قلته، فمثل أي برنامج يديره ويشغله بشر، فإن الأخطاء تحدث. نحن لسنا كاملين».
ويأتي تزايد الهجمات الأميركية مع استيلاء «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» وغيره من المتطرفين على بقاع كبيرة من جنوب اليمن العام الماضي، مستغلين حالة الفوضى السياسية المصاحبة للثورة الشعبية التي اندلعت في البلاد ضمن موجة ثورات الربيع العربي، وقبل ذلك قام «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بالتخطيط لمحاولة فاشلة من أجل إرسال طرود مفخخة على متن طائرات شحن بضائع متجهة إلى شيكاغو عام 2010، بالإضافة إلى محاولة فاشلة أخرى لزرع قنبلة في طائرة أميركية كانت رابضة في «مطار ديترويت» العام الماضي.
وفي شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، تمكن مسلحون تابعون لـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» من السيطرة لفترة قصيرة على رداع، مما وضعهم على مسافة 100 ميل فقط جنوب العاصمة صنعاء، إلا أنهم رحلوا بعد أن وافقت الحكومة على مطالبهم وأطلقت سراح الكثير من المتطرفين من السجن. وبحلول فصل الصيف الماضي، كان قد تم إخراج المتشددين أيضا من المدن الواقعة جنوب اليمن، بعد هجوم عسكري مدعوم أميركيا أطلقه الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي تولى الرئاسة مطلع العام الجاري عقب تنحي الرئيس الديكتاتوري للبلاد علي عبد الله صالح بعد 33 عاما قضاها في السلطة.
ولكن اليوم ما زال المتطرفون التابعون لـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» موجودين في رداع وما حولها، بالإضافة إلى مناطق أخرى من اليمن، حيث يشنون هجمات على المسؤولين الحكوميين والعسكريين. وفي الأشهر الأخيرة، ذكر أهالي قرية سبول - التي تقع على بعد نحو 10 أميال من رداع - أنهم يسمعون الطائرات الأميركية من دون طيار وهي تحلق فوق المنطقة بمعدل مرتفع يصل إلى 3 أو 4 مرات يوميا، وقد وصفها البعض بأنها «طائرات بيضاء صغيرة».
ويقول المزارع علي علي أحمد مقبل (40 عاما): «يحترق دمي في كل مرة أرى أو أسمع فيها هذه الطائرات. كل ما حققوه هو نشر التدمير والخوف بين الناس». وفي ذلك الصباح من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، استقل شقيقه مسعود الشاحنة ال«تويوتا» في سابول، وكانت تعج بأبناء القرية المتوجهين إلى رداع لبيع القات - وهو نبات مخدر يمضغه معظم الذكور اليمنيين - وبعد أن باعوا غلتهم تحركوا عائدين إلى قريتهم بعد الظهيرة.
وكان ناصر أحمد عبد ربه ربيح - وهو زارع قات يبلغ من العمر 26 عاما - يعمل في الوادي عندما سمع أصوات الانفجارات، فهرع إلى الموقع وبدأ مع الآخرين في إلقاء الرمال على السيارة المشتعلة من أجل إخماد النيران. وأثناء فحصه للجثث المتفحمة الملقاة على الطريق، ميز بينها جثة شقيقه عبد الله من خلال ملابسه، ويقول ربيح عن هذا الموقف: «لقد طار عقلي». كما راح مسعود شقيق مقبل في الهجوم.
* محاولة قتل القضية
* وقال بعض الشهود إنهم رأوا ثلاثة طائرات تحلق في السماء، إحداها بيضاء اللون والأخريان باللون الأسود، وإن الطائرتين السوداوين كانتا يمنيتين، ولكن الصاروخين قد أطلقا على المركبة المتحركة بشكل مباشر، مشيرين إلى أن المناطق المحيطة بالمركبة لم تكن محترقة، وهو ما يؤكد أن الهجوم قد تم بطائرة أميركية متقدمة الصنع.
وقال عبد الكريم الإرياني، وهو رئيس وزراء يمني سابق ومستشار بارز لهادي: «لو قلت إنها ليست طائرة أميركية، فلن يصدقك أحد. هل يمكن لطيار يمني أن يستهدف مركبة وهي تتحرك؟ مستحيل».
وقد اعتذرت الحكومة اليمنية علنا عن هذا الهجوم وأرسلت 101 بندقية إلى شيوخ القبائل كبادرة رمزية، وهو ما يعد اعترافا بالذنب في الثقافة اليمنية. ومع ذلك، قال نشطاء حقوقيون وبرلمانيون إن التحقيق الحكومي في هذا الهجوم قد توقف على ما يبدو.
وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، طالب برلمانيون بأن يعلن مسؤولون حكوميون بارزون عن المسؤول عن هذا الهجوم، ولكن دون جدوى. ولم نتلق أي رد من وزيري الدفاع والداخلية في اليمن أو مكتب الرئيس اليمني أو مكتب النائب العام للتعليق على ذلك.
وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دورا حاسما في الإطاحة بعلي عبد الله صالح من سدة الحكم وتنصيب هادي، وهو وزير دفاع سابق، كما تقدم الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات إلى القوات العسكرية والأمنية في اليمن لمكافحة الإرهاب. ويرى مسؤولون أميركيون أن هادي يعد حليفا أقوى من صالح فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب.
وقال عبد الرحمن برمان، وهو المدير التنفيذي للمنظمة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات، وهي جماعة محلية لحقوق الإنسان: «تحاول الحكومة أن تقتل القضية، وتسعى لحماية علاقاتها مع الولايات المتحدة».
وعقب هجوم المعجلة عام 2009، أعلنت الحكومة مسؤوليتها عن هذا الحادث، وقال الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح لقائد القوات المركزية الأميركية آنذاك ديفيد باتريوس، وفق بريد إلكتروني تابع للسفارة الأميركية تم تسريبه من قبل موقع «ويكيليكس»: «سنستمر في القول بأن هذه قنابلنا وليست قنابلكم».
وبعد ثلاثة أسابيع من هجوم رداع، قام هادي بزيارة واشنطن وأشاد بدقة الهجمات التي تشنها الطائرات الأميركية من دون طيار، خلال مقابلة شخصية مع محرري وصحافي «واشنطن بوست»، وعلى الملأ أيضا، حيث قال لمستمعيه في مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين: «إنهم يحددون الهدف ولا يوجد أي هامش للخطأ على الإطلاق، وإذا كنت تعرف هدفك فستصل إليه، ولهذا السبب فنحن نقاتل».
وفي اليوم التالي للهجوم، قام رجال قبائل تابعون لتنظيم القاعدة بغلق الطرق المحيطة بمدينة رداع واقتحموا المباني الحكومية، وأقاموا خيمة كبيرة وعقدوا مؤتمرا للتنديد بالحكومة اليمنية وبالولايات المتحدة. وتم توزيع منشورات في جميع أنحاء المدينة تقول: «انظروا إلى ما قامت به الحكومة؟ هذا هو السبب في أننا نقاتل... إنهم عملاء أميركا وأعداء الإسلام... إنهم يقاتلون أي شخص يقول (الله ربي)، وفقا لتعليمات أميركا».
وقال الناشط الحقوقي محمد الأحمدي الذي حضر الجنازة إن بعض المشيعين كانوا يقولون: «أميركا هي القاتل».
وفي مؤتمر جماهيري بعد أيام قليلة من الهجوم، حث أقارب الضحايا المسؤولين اليمنيين على أن يتوخوا الحذر فيما يتعلق بالمعلومات الاستخباراتية التي يقدمونها للولايات المتحدة. وقال محمد مقبل السابولي، وهو شيخ إحدى القرى، في كلمة تم تصويرها بالفيديو: «لا تندفعوا نحو قتل الأبرياء. لو استمرت تلك الهجمات، فسوف نفقد الثقة تماما في وجود الدولة».
وعلى المواقع الإلكترونية وصفحات «فيس بوك» المتطرفة، تنتشر الصور المروعة للهجوم التي تظهر الجثث وهي ملقاة على جانبي الطريق مثل الدمى، إلى جانب الإدانات للحكومة اليمنية والولايات المتحدة. وفي سابول ورداع، تعهد الشباب بالانضمام لتنظيم القاعدة للقتال ضد الولايات المتحدة. وقال برمان: «لقد فشلت الحرب بالطائرات من دون طيار. لو قام الأميركيون بقتل 10 أشخاص، فسوف تقوم (القاعدة) بتجنيد 100».
وقد أرسل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مبعوثين إلى قرية سابول لتقديم تعويضات لأقارب الضحايا، في محاولة لملء الفراغ الذي خلفته الحكومة التي لم تقدم أي تعويضات للناجين وأسر الضحايا. وقال حمود محمد العماري، وهو رئيس أمن رداع، إن بعض أقارب الضحايا قد انضموا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب عقب الهجوم، ويفكر آخرون في الانضمام أيضا.
وقال ربيح: «إذا لم يكن هناك تعويض من الحكومة، فسوف نقبل التعويض من (القاعدة). لو تأكدت من أن الأميركيين هم من قتلوا شقيقي، فسوف أنضم لتنظيم القاعدة وأقاتل الولايات المتحدة».
* خدمة «واشنطن بوست» خاص ب«الشرق الأوسط»