arpo28

المرشدي.. فنان الأصالة والمُعاصرة في اليمن

الفنان الراحل محمد مرشد ناجي نجم متألق في سماء الأغنية اليمنية خصوصًا والعربية عمومًا، ظهر من خلال رحلة فنية خصبة امتدت لأكثر من ستة عقود زمنية علمًا فنيًّا متميِّزًا ومُتفرِّدًا أسهم بدور ريادي في إثراء وتطوير الأغنية اليمنية بأسلوب تجديديٍّ عصريٍّ مكنها من تجاوز القُطرية المحلية إلى الإقليمية، حتى أصبح لها –من دون سابق عهد- حضورها اللافت في معظم أقطار الجزيرة والخليج، فضلاً عن أن ثقافته وسعة أفقه ساعداه على التفرُّد في التوثيق للأغنية اليمنية التراثية والمعاصرة من خلال عدة مؤلفات قيِّمة أهمها مؤلفي: (الغناء اليمني ومشاهيره) و(أغنيات وحكايات).

ومن المُفيد التنويه إلى أن ثقافة المرشدي وسعة اطلاعه قد جعلاه يشارك في تحمُّل الهمِّ السياسي الوطني، فقد فاز بعضوية مجلس الشعب طوال ثمانينيات ‏القرن الماضي، ورئاسة اتحاد الفنانين اليمنيين في ما كان يُعرف بجنوب الوطن، وبعد ‏قيام الوحدة اليمنية عام 1990 أصبح مستشارًا لوزير ‏الثقافة، وفاز في الانتخابات البرلمانية عام 1997. ‏

والراحل يُعدُّ –إلى جانب كونه مُطربًا متميِّزًا، ومؤرخًا وناقدًا موسيقيًّا متمكنًا، وسياسيًّا بارعًا- موسيقارًا مبدعًا أبدع في تلحين كثير من النصوص الشعرية الغنائية التي شدت بها حناجر العديد من المطربين اليمنيين والخليجيين، من تلك النصوص –على سبيل المثال- نصُّ(ضناني الشوق) الذي كتب كلماته الشاعر الغنائي"مهدي حمدون"، وصدح به عندليب الجزيرة الفنان العربي الكبير"محمد عبده"، وربما تكون شدة تأثُّر المرشدي بهذا النص الغنائي المُفعم بالعاطفة المتأججة قد حملته على إعادة تلحينه وأدائه غناءً لا يقلُّ روعة وجمالاً عن أداء محمد عبده.

تفرُّده في التعاطي مع التراث
إذا كان الفنان المرشدي قد حقَّق ريادة نسبية في التعاطي مع الأغنية اليمنية والعربية المعاصرة، فإنه قد حقَّق التفرُّد التام في التعاطي مع التراث الشعري العربي بشكل عام، وأبدع فيه تلحينًا وأداءً بكل ما يعنيه ذلك من الجمع بين الأصالة والمُعاصرة، ومن أهم تلك النصوص العربية التراثية التي تعاطى معها بكلِّ تجرُّد محقِّقًا ما أشرنا إليه من تفرُّد قصيدة(أراك طروبًا) التي أطلق عليها النقاد والمؤرخون العرب اسم(اليتيمة) قبل أن يُلهمهم حدسهم أنها ل(يزيد بن معاوية) ثاني خُلفاء بني أميَّة، ومن أرقِّ ما ترنَّم به الراحل المرشدي من أبياتها البالغة العذوبة:

أغار عليها من أبيها وأمها
ومن دورة المسواك إن دار في الفمِ

أغار على أعطافها من ثيابها
إذا ألبستها فوق جسم منعمِ

وأحسد أقداحا تقبلُ ثغرها
إذا أوضعتها موضع المزج ِفي الفمِ

خذوا بدمي منها فإني قتيلها
فلا مقصدي إلاَّ تفُوز بأنعُمِي

ولا تقتلوها إن ظفرتم بقتلها
ولكن سلوها كيف حل لها دمي

وقولوا لها يا منية النفس إنني
قتيل الهوى والعشق لو كنتِ تعلمي

ومن أفحش ما جاء فيها وكان سببًا في اعتبارها خروجًا على قيم عصرها ما يلي:
فوالله لولا الله والخوف والرجا
لعانقتها بين الحطيمِ وزمزمِ

وقبلتها تسعا وتسعين قبلة
مفرقة في الكفِّ والخدِ والفمِ

ووسدتها زندي وقبلت ثغرها
وكانت حلالاً لي ولست بمحرمِ

وهي قصيدة ما كان لها –بالرُّغم من انتمائها إلى زمن غابر- أن تُطربنا بذلك الشكل المؤثِّر لولا ذلكم اللحن الشَّجي الذي أبدعته أنامل المرشدي وعذوبة صوته الذهبي.

ومن أروع النصوص الشعرية التراثية التي تهامس –بروعة تعاطيه معها- مع الأرواح وداعب بها أوتار القلوب قصيدة(أنا من ناظري عليك أغارُ) التي أبدع كلماتها الشاعر اليمني الرسولي القاسم بن علي بن هتيمل الخزاعي شاعر المخلاف السليماني، التي عكست بعذوبة ألفاظها ورقَّة معانيها عذوبة ورقة بيئة العصر الرسولي التي استطاع الفنان الراحل –برهافة إحساسه وملكاته الفنيَّة الفريدة أن يُبرزها ويجعل المستمع –لشدَّة تأثُّره بعذوبة صوته وروعة أدائه- يحسُّ بجمال تلك البيئة ويتفيأ ظلال ذلك العصر الذهبي، ومن أجمل ما أتحفنا به الراحل المرشدي من أبيات تلك الرائعة الغائية التراثية ما يلي:

انأ من ناظري عليك أغارُ
وار عني مازال عنه الخمارُ

يا قضيبًا من فضة يُقطف النر
جسُ من وجنتيهِ والجلُّنارُ

قمر طوق الهلال ومن شمْ
سِ الدياجي في ساعديهِ سوارُ

صُنْ محياك بالنقاب وإلاَّ
نهبته العقولُ والأبصارُ

فمن الغبن أن يُماط لثامٌ
عن محياك أو أن يُحلَّ إزارُ

عجبًا منك، تحت برقعك النا
رُ وفيه الجناتُ والأزهارُ!

رصيد المرشدي الوطني والقومي
إذا كان رصيد الفنان المرشدي الغنائي العاطفي –نظرًا لنجاحه في التعاطي مع المعاصر والتراثي ومع الفصيح والعامي- ذا أهميَّة بالغة، فإن رصيده الإنشادي لا يقل عن سابقة أهميَّة، فمثلما كان –يرحمه الله- عملاقًا في الأغنية العاطفية كان بالقدر ذاته عملاقًا في الأنشودة الحماسيَّة، ومن أهمِّ أناشيده الوطنية الحماسيَّة أنشودة(أنا الشعب) التي أبدع كلماتها الشاعر(علي عبدالعزيز نصر)، ومن أشدِّ أبياتها حماسًا:
أنا الشعب زلزلة عاتية
ستخمد نيرانهم قبضتي

ستخرس أصواتهم صيحتي
أنا الشعب عاصفتًا طامية

أنا الشعب قضاء الله في أرضي

على قبضة إصراري
سيفنى كل جباري

ولن يقهر تياري
أنا النصر لأحراري

غداة الحشر في أرضي

أما رصيده القومي فقد اقتصر –على حدِّ علمي- على رائعة الشاعر الراحل لطفي جعفر أمان(يا بلادي)، وهي قصيدة عُرُوبية بامتياز، وقد تجلَّت عروبيتها(قوميتها) في الجزء الأخير منها الذي كان محطَّ اهتمام المرشدي والذي عَلِقَ لأهميَّته –بعد أن جلجل بهِ صوته- في أذهان جمهور المستمعين، وقد أصَّل هذا النَّصُّ لواحديَّة الأمة العربية تأصيلاً رائعًا وذلك ما أبقى صيته ذائعًا، إذ تتمثل أهميَّة النص بأكمله في:
يا بلادي كلما أبصرت شمسان الأبي
شاهقًا في كبرياء حرة لم تغلبِ

صحت يا للمجد في اسمي معاني الرتبِ
يا لصنعاء انتفاضات صدى في يثربِ

يا لبغداد التي تهفو لنجوى حلبِ
يا لأوراس لظى في ليبيا والمغربِ

يا لأرض القدس يحمي قدسها ألفُ نبي
يا لنهر النيل يروي كل قلب عربي

فأملاي كأسك من فيض دمائي واشربي
يا بلادي يا بلادي يا بلاد العربِ

وقد مكنه تميُّزه وإجادته مختلف ألوان الغناء من نيل العديد من الجوائز والأوسمة منها: وسام الفنون من ‏الدرجة الأولى عام ‏‏1982، وسام 30نوفمبر عام 1997، و‏كُرِّم في مملكة البحرين كواحد من رواد الأغنية ‏العربية عام 2001، و‏كُرِّم من وزارة التراث والثقافة، و‏كُرِّم في سلطنة عُمان عام 2001، وفاز بجائزة الأغنية المتكاملة في مهرجان ‏‏"أبها" في المملكة العربية السعودية عام 2002، و‏كُرِّم من ‏المعهد العربي في باريس عام2003،و‏كُرِّم من وزارة الثقافة بتذكار صنعاء عاصمة ‏الثقافة العربية 2004 تقديرًا لدوره الريادي المتميّز في ‏الحفاظ على الموروث الغنائي الأصيل، وفاز بجائزة عمر الجاوي للإبداع ‏عام 2004، و‏مُنح –في العام ذاته- درع اتحاد ‏الأدباء والكُتاب اليمنيين، و‏كُرِّم عام2006 من منتدى يحيى ‏عمر لاضطلاعه بدور فاعل في الحفاظ على أصالة الأغنية اليمنية، وبخاصة اللون"اليافعي"، و‏كُرِّم في مهرجان ‏وملتقى الرواد والمبدعين العرب في دورته الثالثة بدمشق في ديسمبر 2008 ‏تقديرًا لدوره الرائد في تطوير الأغنية اليمنية ‏والعربية عامة.‏

زر الذهاب إلى الأعلى