مع أي منعطف أو مرحلة من مراحل تنفيذ المبادرة الخليجية؛ يبشرنا إعلام الرئيس السابق بأنه قرر الاحتجاب وعدم الانشغال بمجريات العمل السياسي والاجتماعي الذي يغتلي على أكثر من موقد، وتتناوشه أطراف تتقلب ملامحها تقلب المشهد الذي تصطرع فيه، على مدار أكثر من عام من تولى الرئيس عبدربه منصور هادي لمقاليد الحكم.
وفي كل مرة يجري معها اتخاذ مثل هذا القرار؛ تساق المبررات الغريبة والمستغربة التي يتفنن في سبكها دُنّاق المنابر الإعلامية التي يرعاها بقايا نظام صالح والذين دأبوا عليها وبرعوا فيها خلال سنوات حكمه، في محاولة لإقناع الجمهور المتلقي الذي لم تعد تنطلي عليه مثل تلك الحيل والإعماءات المصطنعة والتي يقف إزاءها هذا الجمهور منتظرا فجائع ما ستخلفه؛ وقد لمس ذلك بحواسه الخمس في أكثر من ظرف ومنعطف!!
وخلال عام مضى من تركه غير الراضي لكرسي الحكم؛ لم يهنأ الرجل بليلةٍ واحدة من مثل تلك الليالي التي قضاها وهو على ذلك الكرسي لأكثر من ثلاثة عقود، وهو يخطط -اليوم- لإفشال زميله ورفيق دربه-كما يصفه دائما- الرئيس هادي، في محاولة لشد الناس إلى السنوات التي حكم فيها اليمن والتي حفلت بفترات استقرار تجعل المواطن يقارن بينها وبين ما هو عليه اليوم.
إن علينا أن نتذكر -وفي الذكرى نفع واعتبار-أن كل المنعطفات التي مرت بها البلاد خلال أكثر من عام، بدءا بتسليم الرئيس السابق السلطة للرئيس هادي مؤقتا، أو تلك التي تلت تولي الرئيس هادي السلطة بشكل تام، وفق انتخابات شعبية حرة ونزيهة، وبدعم إقليمي ودولي كبيرين؛ كقرارات هيكلة الجيش والأمن وإعادة بناء الدولة التي تقادمت أجهزتها، وخطوات كسب الرأي العام العربي والعالمي تجاه هذه الإنجازات؛ كل ذلك لم يسلم من المعيقات التي كادت أن تقضي عليها، والرئيس السابق يعلن احتجابه ثم يعود للواجهة على نحو فج ومستفز.
خلال عام مضى، قيل إن صالح خلد للراحة نزولا تحت نصائح أطبائه، ومرة أخرى لأسباب شخصية لا يستوجب الإفصاح عنها، وهذه المرة-وهي كما يقال: "ثالثة الأثافي"-كُشف عنها بأنها ستكون مخصصة لكتابة مذكراته لثلاثة عقود، مع أنه كان قد سرب عن مثل هذا العمل قبل سقوطه من رئاسة اليمن بثلاث سنوات؛ وفي كل مرة من هذه المرات تقفز إلى واجهة المشهد اليمني أزمات تلو أزمات، كان أبرزها المواجهات الحكومية المسلحة مع جماعات تنظيم القاعدة في محافظتي أبين والبيضاء، وتعرض وسائل نقل الطاقة الكهربائية والنفطية للعديد من أعمال التخريب التي كلفت خزينة الدولة الكثير من الخسائر المادية والبشرية.
يأتي في هذا المقام-أيضا- وقائع الاغتيالات التي طالت الكثير من رموز القوى السياسية والعسكرية والأمنية والحقوقية، وحدوث الكثير من الوقائع الإرهابية والكارثية المبهمة النتائج، والتي لم يسلم منها-أيضا- الأبرياء من حديثي الالتحاق بصفوف القوات المسلحة وقوات الأمن في المعسكرات والكليات والمعاهد العسكرية والمواطنين على حدٍ سواء.
ومع ظهور أخبار احتجاب الرئيس السابق، هذه المرة، وتفرغه -كما أشيع عنها- لكتابة مذكراته؛ يقف المواطن اليمني في انتظار ما تخبؤه هذه الأخبار، لا سيما أن المرحلة القادمة هي من أدق وأخطر المراحل التي تمر بها البلاد في هذا الظرف، وهي المرحلة التي تضم في بوتقتها الصورة الحقيقة ليمن ما بعد عام 2014م، من خلال مؤتمر الحوار الوطني الذي سيبدأ أعماله الأسبوع القادم.
وإذا أردنا التحليق بعيدا عن تلك الرؤى والوقائع التي رافقت الاحتجابات إياها للرئيس السابق؛ فإن علينا أن نضع قرار احتجابه الأخير-هذا- في سياق ما يعتمل محليا وخارجيا، وأول تلك السياقات: مخرجات مؤتمر وفد مجلس الأمن التي أُفصح عنها في وقت لاحق من انعقاده في صنعاء، وتضمنت بالاسم التشهير بمعرقلي المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وحددت ذلك باسم الرئيس السابق علي عبدالله صالح ونائب رئيس مجلس الرئاسة في الفترة: 1990-1994م، علي سالم البيض، الذي يقيم -حاليا- في بيروت ويقود منها حروبا شرسة ومتعددة الأدوات ضد التوافق الوطني والدولي المتفاعل في اليمن.
فهل كان لذلك الإعلان وقع قوي في نفس الرئيس السابق، ما جعله يقرر بصدق نية مثل ذلك العمل؟ أم أن الأخبار غير السارة له ولنائب مجلس رئاسته علي البيض والتي تثار هذه الأيام حول إزماع الحكومة اليمنية ملاحقة هذا الأخير وجلبه عبر الانتبرول الدولي؛ الأمر الذي قد يفتح أبواب جهنم أمام الرجلين؟!!
إن ما يُخشى منه-أيضا- أن يكون وراء ذلك أمر آخر؛ وهو الولايات المتحدة الأمريكية ودول إقليمية أخرى، في لعبة سياسية ذكية، غالبا ما تقتضي الإبقاء على الحلفاء الذين لفظتهم شعوبهم إلى الأوقات التي تكون فيها القوى الأخرى التي حلت محلهم قد بلغت من القوة ما يجعلها تتمرد؛ فتكون رموز النظام السابق في هذه الحالة جاهزة لمثل هذا الموقف أو المناورة بهم.
كما أن مرحلة الحوار الوطني والمخرجات الذي تهيئ لها القوى الإقليمية والدولية وعلى رغبات شعبية ونخبوية يمنية متباينة أيضا؛ هي في حقيقة الأمر مخرجات تهم في المقام الأول تلك القوى القابعة خارج حدود الجغرافيا، وهو ما يجعلنا نأتي بهذا التوقع في أولى المراتب، لا سيما مع تناهي أخبار شبه مؤكدة عن تبلور الكيان اليمني الحالي في فدرالية ستكون أيسر أدوية الأزمة الراهنة على مرارة مذاقها، وهو دون شك قنص ثمين للغرب في هذه المنطقة تحديدا، بحيث يكون التشكيل القادم على نحو ما يشاؤون ويخططون له!!
وأخيرا، إن على كل الأطراف التي ارتضت المباردة الخليجية حلا مجمعا عليه، أن تتقبل كل المنغصات التي لم تحسب لها أو أنها كانت تدركها لكنها تعامت عنها، وأعظم تلك المنغصات هي المقاسمة التي ارتضتها، والحصانة التي منحتها؛ وأن تعمل السياسة الذكية للقوى الثورية عملها في سبيل التصدي لكل ما هو قادم، سواء كان ذلك القادم من دهاليز الرئيس السابق أو ممن يبدي له وجه الرضا من قوى الخارج.