رئيسية

هيومن رايتس: جراح اليمن المفتوحة

اختفي ابن عم صديق لي في اليمن منذ 31 عاما. وكان مطهر الإرياني- الناشط القيادي في حزب اليمن الاشتراكي في الحديدة الواقعة على ساحل البحر الأحمر والبالغ من العمر آنذاك 41 عاما- يخشى على سلامته قبل اختفائه بعدة شهور. هكذا قال لي ابن عمه، عبد الغني الإرياني، بينما كما نجلس مسترخين وقت الظهيرة مؤخرا في غرفة المعيشة في منزل أسرته.

كان ابن عم صديقي قد أخبر أسرته ألا يأملوا خيرا إذا اختفي لأكثر من 48 ساعة. وفي أحد أيام أكتوبر/تشرين الأول 1982، رجعت الأسرة إلى المنزل لتجد كلمة "وداعا" مكتوبة على عجالة بالحبر الأزرق على حائط غرفة النوم فوق السرير.

يٌقدم اليمن الآن على إجراء "حوار وطني" على مدار ستة أشهر للتعاطي مع التحديات الرئيسية التي يواجهها البلد بعد مرور أكثر من عام على الإطاحة ب علي عبد الله صالح الذي حكم اليمن لفترة طويلة، ومسودة قانون العدالة الانتقالية المعروضة حالياً على البرلمان هي خير مؤشر صعوبة هذه التحديات المتوقعة.

يقدم القانون القليل من العدالة لأسر ضحايا ثلاثة عقود من الديكتاتورية التي استفحلت فيها انتهاكات حقوق الإنسان. تضمنت هذه الانتهاكات موجات متعددة من حالات الاختفاء القسري- ولا سيما من بين الاشتراكيين والناصريين الذين راحوا ضحية النزاع السياسي الشمالي-الجنوبي في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. تفيد تقارير الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري بالأمم المتحدة عن إحالة 102 حالة اختفاء قسري إلى الحكومة بحلول عام 1999.

تنص مسودة القانون على إنشاء لجنة تحقيق يكون من مهامها تحديد مصير "المختفين" على أن يقتصر نطاق عملها على النظر في حالات الأشخاص "المختفين" منذ انتفاضة عام 2011، مما يغض النظر عن أمثال ابن عم صديقي الذي توضح لنا قصته أدناه أن النظر بصدق إلى العقود الماضية أمر جوهري.

على الرغم من قيامأسرة مطهر الإريانيعلى الفور بالمطالبة بتحقيق جنائي، إلا إن رئيس جهاز الأمن السياسي اليمني قد طلب منهم بعد عدة أسابيع صرف النظر عن التحقيق، قائلا لهم إن مطهر سيعود إليهم في نهاية الأمر. كان ذلك من وجهة نظر الأسرة إقرارا ضمنيا من الجهاز الأمني الرئيسي في البلد بدوره في اختفاء مطهر. على مدار الأعوام استمرت الأسرة في الاستعلام عن مصير مطهر، وكان البعض منهم يُحتجز عندما كانت مثابرته في السؤال تزيد عن اللزوم، ولم يحصل أي من أفراد الأسرة أبدا على معلومات حول ما إذا كان مطهر محتجزا أو لا يزال حتى على قيد الحياة. ولكن ندى العرياني، ابنة مطهر، لم تفقد الأمل أبدا في أن أباها لا يزال حي يرزق.

وفي يناير/كانون الثاني 2013، أخبر شخص ما في جهاز الأمن السياسي ندى إن بعض الأشخاص الذين كانت الوكالة قد احتجزتهم في تلك الأعوام قد نقلوا إلى مركز دار السلام الطبي في الحديدة. ذهب زوج ندى على الفور إلى المركز مع صورة لمطهر، وبالفعل لاحظ أحد العاملين تشابها بين الصورة وأحد المرضى– رجل له أربعة أسماء مختلفة على ملفه يعاني من فقدان ذاكرة كامل، وتظهر سجلاته إنه قد أحُضر إلى مركز الحديدة في عام 1994 من مستشفى تعز الثورة، ولكنها لا تتضمن أية معلومات أخرى.

تبين أفراد الأسرة على جسد هذا المريض ما كان لمطهر من وحمات وندبات الطفولة، وهو يعيش الآن مع ندى. وعلى الرغم من عدم استرداد ذاكرته وعدم قدرته على التحدث مع الآخرين، فإنه يستجيب للموسيقى بل ويندمج في الغناء مع الأغاني القديمة المحببة كلما شجعه الزائرون على ذلك.

لا يتفوه مطهر إلا بكلمات قليلة: "صالح"، "إعدام"، وحفنة من أسماء المدن اليمنية. وفي المرات القليلة التي رأى فيها أشخاص في الزي العسكري، كما أخبرتني أسرته، كان يرتعد من الخوف ويصبح في الوقت نفسه عدوانيا. وتصف الأسرة علامات على ظهره تبدو كآثار حروق أعقاب سجائر، وندبات أفقية طويلة على شكل قضيب معدني أسفل ظهره. وثمة ثقب في كاحله الأيسر يبدو وأنه ناتج عن مثقاب. كذلك خلص الطبيب من مطالعة الأشعة المقطعية إلى أن هذه الرجل قد تعرض للعديد من الضربات القوية على رأسه مما أدى إلى شلل النصف الأيمن من الجزء العلوي من جسمه والجزء السفلي بداية من خصره.

لاتزال الأسرة تضغط على الحكومة لإجراء اختبار الحمض النووي للتأكد تماما من هويته. وبمجرد الحصول على نتائج إيجابية، تفيد الأسرة إنها قد تطالب الحكومة على نحو حاسم بفتح تحقيق مستقل وموثوق في القضية، على الرغم من تشكك ندى التي قالت لي عندما تحدثت إليها في ما بعد: "ما الجدوى؟ أنا لا أتوهم أن يقدم التحقيق لنا يوما إجابات حقيقية عن اختفائه".

توفيت فوزية، زوجة مطهر، منذ 9 أعوام، وحتى نهاية أيامها كانت تعتقد - وفقا لأسرتها- أن مطهر ببساطة قد هجر المنزل وأنه بدأ حياة جديدة في مكان آخر بعيد.

مؤخرا قامت العديد من أسر مئات المختفين في اليمن في العقود الماضية- والتي لا تزال تشعر بألم الاختفاء وكأنها جروح مفتوحة- برسم وجوه أحبائها المفقودين على الحوائط في شتى أنحاء صنعاء كجزء من حملة احتجاجية. فقد أعاد اكتشاف الإرياني الأمل من جديد ودفع هذه العائلات إلى البدء في البحث مرة أخرى عن أحبائها من مركز إلى مركز في جميع أنحاء البلد. وتبقي حقيقة واضحة وهي إن هذه الأسر لا تزال تبحث عن الحقيقة.

بلقيس واللي هي باحثة هيومن رايتس ووتش المعنية باليمن.

زر الذهاب إلى الأعلى