رئيسية

الجذور الزاحفة تحليل لرؤية حزبي الإصلاح والمؤتمر في جذور القضية الجنوبية

من الأولوية بمكان، الإشارة إلى غياب جوانب الشكل التي افتقدتها ورقة الرؤية التصورية لجذور القضية الجنوبية المقدمة من قبل حزب التجمع اليمني للإصلاح إلى فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، واتسام ذلك الشكل بالبساطة مع التخلي عن إبراز مضامين الرؤية تحت عناوين جانبية قد تعط ي المحتوى قوة في الوضوح والتدفق السلس، وهو أمر لا يؤثر كثيرا في رصانة الأفكار التي تضمنتها الورقة أو في الشجاعة الأدبية التي أبداها الحزب وهو يحلل الكثير من مواقفه في فترة ما بعد تحقيق الوحدة عام1990م بمراحلها المختلفة.

فيما كانت الرؤية التي تقدم بها حزب المؤتمر الشعبي العام - في الشكل - على النقيض من ذلك، إذ اتسمت بقدر من الشكل والتقسيم المقبولين، مع اجتماعهما وافتراقهما في بعض الأفكار والتصورات حول موضوع هذه الورقة إجمالا، وتحديدا في فترة ما بعد العام 1994م، فضلا عن بروز الملمح الفلسفي والتاريخي اللذين عرضت بهما أغلب الأفكار في ورقة حزب المؤتمر الشعبي، وكيف أنها أطلقت العنان لتصوراته حول مرافقات جذور القضية الجنوبية بحيث أصبحت الرؤية مطاطية وتتسم بالجدل!!

في المحتوى، تبدو الرؤيتان متشابهتان إلى حد ما، مع وجود اختلافات معدودة في توصيف بعض الوقائع والظروف التي أحاطت بها، ومحاولة كل منهما التنصل عنها وإلقائها نحو الآخر، خاصة ما يتصل بوقائع وأحداث ما بعد عام 1990م، وصولا إلى ما يجري اليوم، والتي تحولت معها البلاد والجنوب بشكل خاص إلى فريسة تداعت عليها قوى نفعية متسلطة وأخرى لا تريد لها الاستمرار في كيان اليمن الواحد.

على أن رؤية حزب الإصلاح بدت أكثر مراعاة لشعور شريكه الأكبر في تكتل اللقاء المشترك؛ الحزب الاشتراكي اليمني، وكان النقد الذي وجهه إليه ينصب في فترة انفراد الحزب الاشتراكي بالحكم في الجنوب، وبدا ذلك النقد أقل تعريضا مما عرّض به حزب الإصلاح بنفسه في تقييم الفترة التي كان فيها شريكا في السلطة، وهاتان الرؤيتان لا تخلوان – بالتأكيد - من حقائق وتصورات إيجابية، مثلما أنهما تأتيان في سياق العمل السياسي الذي يتسم بالمناورة، ذلك أن أقوى توصيف للعلاقة بين الأحزاب الثلاثة على أحسن حال، يأتي على الصفة: "إنا لَنبُشّ في وجوه أقوام وقلوبنا تبغضهم"!!

إن أهم ما يمكن الحديث عنه في متضمنات هاتين الرؤيتين، أن جذور القضية الجنوبية تلقى إجماعا توافقيا مقبولا من قبل كل من قدم رؤاه حول تلك الجذور، زمانا وموضوعا، وأن رؤى أخرى قد تلقى مثل ذلك التوافق ممن لم يقدموا رؤيتهم بعد؛ لأن التوصيف الدقيق والعميق لهذا الجانب ينبع من كونه أحد أهم محاور القضية، وأن توصيفه بالعناية والدقة المطلوبة، يتيح الانطلاق نحو فهم أدق للمحاور الأخرى لها، وهي: محتوى القضية، وحلولها، والضمانات التي تبقيها على حالة التعافي والاستقرار مستقبلًا.
- أقدم الجذور وامتداداتها:

تختلف المكونات السياسية والاجتماعية المنخرطة في مؤتمر الحوار الوطني في رؤيتها لجذور القضية الجنوبية، حتى على المستوى الفردي لكل مكون، وهناك من أفصح عن تفاصيل تلك الجذور زمانا ومكانا ونوعا، فيما لا يزال آخرون يحجمون عن أن يفصحوا عن أي رأي في انتظار ما يبديه سواهم، وقد كان الأسبق إلى الطرح الرسمي كل من: حزب التجمع اليمني للإصلاح، وحزب المؤتمر الشعبي العام، وذلك في نهاية الأسبوع الماضي.

تاريخيا، ينظر حزب الإصلاح إلى جذور القضية الجنوبية في بعدها السياسي إلى" فترة تاريخية سابقة لقيام دولة الوحدة، وتحديدا إلى فترة الاستقلال"، وهذا يعني: أن أصل الجذر بدأ مع إعلان استقلال الجنوب عن الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر عام 1967م، وتسلم الجبهة القومية للحكم، والتي بدأ معها الإقصاء الفعلي لشريك النضال والحامل الرئيس له "جبهة التحرير" التي خذلها الجيش الاتحادي عند تخليه عن الحياد، وإعلان تأييده للجبهة القومية، وما رافق ذلك أو تبعه خلال عقدين من حكم الرفاق من دورات عنف دامية دفعت بالقضية الجنوبية إلى الواجهة وبهذا الحجم الضخم، ومن ثم فإن امتدادات جذر القضية الجنوبية وصلت - كقضية (جنوبية جنوبية) - إلى عشية تحقيق الوحدة في 22 مايو عام 1990م، ثم امتدت لتصل إلى هذا اليوم، مع ما رافق مسيرتها من أحداث ومواجهات مسلحة وأعمال عنف، لكن بُعدها المطلبي يمتد إلى ما بعد ذلك.

يوفر هذا التحديد دائرة مقبولة الاتساع لكثير من فرقاء العمل السياسي ممن حكموا الجنوب واختلفوا أو اصطرعوا في تلك الفترة، ولا يزالون يؤثرون بقوة فيما يجري، إما كقوى سياسية، أو كجماعات، أو كأفراد انخرطوا في مؤتمر الحوار الوطني؛ إلا أن ذلك التحديد قد لا يُرضي قوى أخرى لها موقفها المعلن من مؤتمر الحوار الوطني وكل ما يثار فيه أو ينتج عنه، وهذا الأمر - في المقام الأول -مسألة (جنوبية جنوبية)، وهو ما ستتسع معه دائرة تلك الفترة، ويتنوع رجالها وموضوعاتها أو محتوياتها.. لذلك فإن التصور العام الذي سيُجمع عليه لا يزال مبهما حتى تقدم الكيانات الأخرى رؤاها حول جذور القضية.

والسؤال الذي سيظل معلقا حتى سماح رؤية بقية المكونات خاصة فيما يتعلق بصعدة: هل سيكون لتوسيع المدى الزمني ونقطة بدئه - ليشمل وضع سلاطين الجنوب - أثّر على قضية صعدة التي تلي في ترتيبها نقاشا وأهمية القضية الجنوبية؟.. إن مد الفترة الزمنية لتبلغ عامي 1962/1963م - كما يراه حزب المؤتمر الشعبي - سيجعل من الحوار حوارا يستدعي الموتى من قبورهم ممن حكموا اليمن بالرجعية والاحتلال؛ وسيكون ذلك بداية الفشل إن جرى تضييق النقطة الزمنية لولادة تلك الجذور وامتدادها إلى عام 1990م!!

أما المؤتمر الشعبي العام فيوطِّئ لفهم جذور القضية الجنوبية بطرح التعريف الاصطلاحي لـ"القضية" من ناحية فلسفية، وهو كما يقول: "أمر محل تنازع"، أما بعدها الآخر الجغرافي السياسي فيرتبط بمفهوم النعت الواصف لهذه القضية ب"جنوبية" أي شطرية؛ فيجعلها في نطاق محدد لا يتضمن حقبة ما بعد عام 1990م، التي كانت القضية فيها على مظاهر أخرى من حياتها المهمة التي يجب أن ينظر فيها، إلا أن الرؤية للجذور لا تختلف زمانا عن رؤية حزب الإصلاح، إذ يميل المؤتمر لتفضيل اعتبار عام 1967م نقطة انطلاق لتلك الجذور بدلا عن عامي 1962/ 1963م، باعتباره عاما مفصليا في تاريخ اليمن عموما، وتاريخ الجنوب خصوصا، وأن دورات العنف والصراع التي شهدها اليمن - جنوبا وشمالا - تمثل أقوى بواعث اعتمادها كجذور للقضية لأن سياقها الزمني والتاريخي كانا آكدها إنتاجا للمظالم التي برزت في أعمال المصادرة والتهميش والملاحقة والإقصاء والإبعاد، وغيرها.

- جذور القضية الجنوبية ليست جذورا وتدية بل زاحفة..

يكفي – هنا - للتدليل على صدق العنوان الفرعي السابق أن نسأل: هل من السهولة أن ننظر إلى مقتل الرئيس سالم ربيع علي (1969-1978م) بمعزل عن مقتل كل من: الرئيس إبراهيم محمد الحمدي (1974-1977م) والرئيس أحمد حسين الغشمي (1977-1978م)؟

يعلم الجميع أن أغلب الصراعات والمواجهات المسلحة التي جمعت بين الشطرين كانت في نهايتها تجر إلى الحديث عن الوحدة والسعي نحو إنجازه خطواتها، وتناسي آثار تلك الصراعات، وهذا ما يعني: أنه مهما كانت جذور القضية ومحتواها؛ فإن الحلول لا يمكن أن تنحصر في إطار وحدة جغرافية وإنسانية صنعتها ظروف تاريخية قاهرة، وهذه هي لغة المنطق التي يجب الإذعان لها؛ لأن جذور القضية تزحف في تراب اليمن شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا؛ ولذا فإن الحل لن يكون موفقا ما لم يكن على قاعدة الأخوّة والصراحة والإنصاف، ما لم فإن سلوك أي طريق آخر سيكلف اليمن ثمنا باهظا بحسب ما يراه خبراء السياسة والحرب.

وعلى مشهد الأحداث والانقلابات يُطرح السؤال التالي: هل يمكن الفصل بين أحداث 13 يناير عام 1986م في عدن، وبين أحداث حرب صيف 1994م؟، والسؤال ذاته فيما يتعلق بأحداث يناير 1986م مع أحداث يونيو عام 1969م وعام 1978م في عدن؟.. إن قضية الجذور غير قابلة للنظر إليها في حقبة زمنية معينة ولو في إطار الجنوب ذاته، ولا بفترة زمنية معينة دون غيرها، ولا بأشخاص دون سواهم، فأغلب أولئك لا يزالون أحياء يرزقون.

ولو عدنا إلى القضية الكبرى التي قاتل من أجلها اليمنيون في الشمال والجنوب؛ لوجدنا أنها تتمحور حول تقرير المصير بمعناه التحرري من قيود التسلط الرجعي والاحتلال البريطاني، وبمعناه التلاحمي في إطار نظام واحد يضم اليمن كله، إنسانا وترابا، وعلى أن يسود ذلك المصير ما كان ينشده أولئك وننشده جميعا، ألا وهو الاستقرار، والعدل، والسلام، وسيادة قيم التسامح والإخاء، إلا أن رؤية حزب الإصلاح أعطت أفضلية غير منصفة لأبناء الجنوب دون سواهم من أبناء اليمن في مسألة إعادة تحقيق الوحدة اليمنية سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، والحق أن لا أفضلية لأحد على الآخر، وأقل ما يمكن أن يوصف به ذلك الطرح أنه نفاق سياسي؛ لأن ما دار من مواجهات معلومة أطرافها التي استدعتها عام 1994م، وكذا ما قام به الحراك من أعمال عنف تجاه الشماليين تجاوزت الحق المشروع في التعبير عن الرأي، ما يجعل تلك الأفضلية على الوصف الوارد سلفا.

- اقتتال عام 1994م ليس أول خيوط الجذر:

اجتهد كل من الحزبين في توصيف ما جرى في حرب صيف 1994م وما بعدها على نحو مختلف، وبدت رؤية الإصلاح مغيّبة لدور الحزب الاشتراكي في تلك الحرب، وهو الذي كان يمثل أحد أهم مسعريها منذ بداية المواجهات في مدينة ذمار بين لواء باصهيب من جهة والحرس الجمهوري والأمن المركزي من جهة أخرى، في الثامن من إبريل عام 1994م، واندلاع المواجهة العنيفة بين لوائين عسكريين هما: اللواء الأول مدرع (من قوة الشمال سابقا)، و(اللواء الثالث مدرع من قوة الجنوب سابقا) في مدينة عمران، في 27 إبريل، في حين كان طرح المؤتمر الشعبي في هذا الجانب أكثر جرأة في التوصيف لما جرى، ولو حاول النأي بنفسه والتبرير لما حدث فيما بعد.

مع ما أبداه حزب الإصلاح من اعتراف بأخطاء المرحلة، والتذكير بدعواته الرامية إلى معالجة آثار الحرب وإعادة الحقوق المسلوبة، وأن تلك الدعوات أطلقها باكرا في السنوات القليلة التي تلت تلك الحرب، واتساع وصفه للقضية الجنوبية بأنها قضية مطالب حقوقية وسياسية؛ فإن البعض ممن كانوا ينظّرون للحزب، يرون أن في ذلك إدانة واضحة له قد تستدعي الاعتذار عن جرم مزعوم اعترف به منفردا تجاه الجنوب في لحظة نرجسية غائلة، إلا أن ذلك - كما يراه آخرون - دليل على حسن وصدق نواياه تجاه أهم قضية من قضايا الحوار الوطني، ومحاولة للتقرب أكثر من حليف مرحلي استراتيجي ولد على يديهما وعلى يدي غيرهما واقع هذا اليوم، هذا الحليف هو الحزب الاشتراكي.

وبالعودة إلى أحد جذور القضية الجنوبية وهي حرب صيف 1994م، ينبغي وضع اليد على إحدى الخيوط المهمة لذلك الجذر، وهي تلك القوة السياسية والعسكرية والاجتماعية التي أُخرجت من عدن تحت تأثير سطوة خصمهم المنتصر في أحداث يناير عام 1986م، وكيف أن شريك الوحدة القادم من عدن عام 1990م اشترط تحييد هذه القوة عن العمل السياسي والعسكري لدولة الوحدة، وقد عمل ذلك على استغلاظ ذلك الجذر وتفجر طاقاته المكبوتة فيه منذ سنوات لتطل بأقوى قوة في حرب الانفصال، والوقوف مع من آواه شريدا في وجه من أخرجوه مشردا من عدن في يناير المشئوم، وليعود إلى واجهة السياسة والجيش وهو اليوم على قمة هرم السلطة ومفاصلها المهمة.

حين تناولت رؤية المؤتمر الشعبي العام الأرضية التاريخية التي تنشر فيها جذور القضية الجنوبية، عملت على الإسهاب التاريخي في تناول ذلك، في محاولة لطرح قضية الجذور على أنها دورة من دورات الصراع الكونية وأخطائها التي يقدم عليها المنتصر تحت تأثير غشاوة النصر التي تغطي عينيه؛ ولذلك فهو يتتبع وقائع الجنوب منذ عام 1967م، وكيف كانت حركة يونيو 1969م وما صاحبها من تأميم ومصادرة للحقوق تماثل في ملامحها ما وقع بعد عام 1994م، ولو بدا ذلك ضمنيا في التناولة، ثم مثل ذلك دورات الصراع التي تخللت السبعينيات في الشطرين، بمعنى: أن الجميع مدانون، وأن القول: "واحدة بواحدة والبادئ أظلم" هي الحل الأنجع؛ ولذا فإن تصوره لفهم الجذور فهما حقيقيا هو "مدعاة لوضع نهاية للانتقام ومشاعر الكراهية التي تُعمي عن رؤية رحابة التسامح والتصالح ..".

زر الذهاب إلى الأعلى