السقوط المتتالي للطائرات الحربية في اليمن غدا ظاهرة مألوفة.. وحقا إنه لأمر غريب!! فلا يكاد يمر شهران إلا وتصعقنا فاجعة سقوط طائرة عسكرية تخلف وراءها الكثير من الضحايا المدنيين والعسكريين، والكثير من الخسائر المادية العامة والخاصة التي تزيد البلد عبئا مضافا إلى أعبائه التي يعاني منها أشد معاناة!!
ها هي ذي طائرة عسكرية ثالثة تسقط في أقل من ستة أشهر داخل العاصمة صنعاء. فأولى الطائرات الثلاث: طائرة نقل من نوع أنتينوفm26 ، وقد سقطت في سوق شعبي مهجور في منطقة الحصبة في 21 ديسمبر 2012م، وراح ضحية الحادثة عشرة من الطيارين والفنيين، والطائرة الثانية مقاتلة من نوع سوخوي 22 روسية الصنع، كانت في طريق عودتها من مهمة تدريبية، وقد سقطت في حي الجامعة بالقرب من ساحة التغيير في 19 فبراير 2013م، أسفر عنها استشهاد قائد الطائرة وعدد من المدنيين، أما الطائرة الأخيرة التي سقطت اليوم(13 مايو 2013م) فهي من نفس نوع وطراز الطائرة التي سبقتها، غير أن مكان السقوط كان في منطقة ترابية قرب حي سكني في منطقة بيت بوس جنوبي العاصمة، وقد لقي فيها الطيار حتفه.
المثير للجدل أن سقوط تلك الطائرات يحدث داخل العاصمة، وهي في طريق عودتها من مهامها وفي منطقة ما يصطلح عليه في علم الطيران؛ دائرة الهبوط.. والحقيقة أنها دائرة السقوط أو دائرة الموت المحقق!!
وقد تعاظم سقوط الطائرات الحربية في اليمن بعد سقوط نظام الرئيس السابق، وتحول أمر تحليل ملابسات تلك الأحداث إلى ما يشبه الأحاجي أو الجدل الذي لا ثمرة حقيقية له، بل وأصبحت التبريرات التي تسوقها قيادة وزارة الدفاع وقيادة القوات الجوية وفرقها الفنية التي تحقق في أي حادثة من هذه الحوادث أمر يثير السخرية والتندر لدى المواطن الذي لم يعد يثق أو يصدق مثقال ذرة مما يسمعه من أولئك.
فبين خلل مصطنعي، وخلل فني، وخطأ تدريبي، ونحو ذلك من المبررات، تغيب الحقيقة الكاملة التي يبحث عنها الكثير، وتغيب معها المحاسبة والعقاب تجاه كل مقصر أو متسبب لهذه الحوادث التي يدفع الوطن والمواطن جراءها الأموال الكثيرة والأرواح البريئة، سواء من الطيارين الأكفاء أو المواطنين الأبرياء الذين تسقط عليهم هذه الطائرات وهم آمنون في مساكنهم ومواقع أعمالهم، وسواء سقطت تلك الطائرات أو أسقطت أو هيئ لها أن تسقط بفعل تدبيري عير معلوم؛ فإن المسئول الأول والأخير هي قيادة وزارة الدفاع التي يرصد لها القسم الأكبر من ميزانية البلاد، ولم تقدم شيئا يرفع عنها حالة السخط المتزايد الذي يبديه المواطن اليمني.
في اتصال هاتفي أجراه "نشوان نيوز" مع خبير عسكري يمني- طلب عدم ذكر اسمه- طرح الخبير جملة من النقاط ذات الصلة بهذه الحادثة والحوادث التي سبقتها التي تحولت -كما يقول- إلى ظاهرة مفزعة ومألوفة للأسف. يقول الخبير: إن ما يجري من سقوط متكرر للطائرات الحربية وبشكل ملفت للنظر، هو محصلة طبيعية لفساد منظومة الإدارة السابقة في القوات الجوية، التي استبدت بهذه الوحدة وبددت مقدراتها لأكثر من عقد ونصف، وكانت توظف الإمكانيات المادية المرصودة للتدريب والصيانة والترميم للأسطول الجوي في غير ما يرسم له من قبل قيادة وزارة الدفاع؛ إذ كانت تلك الأموال تذهب إلى أرصدة خاصة بكبار القادة في القوات الجوية، وعلى رأسهم -جميعا- قائد القوات الجوية السابق الذي كان أخا غير شقيق للرئيس السابق، والذي كان لا يخضع لأي مساءلة هو وفريق عمله طيلة فترة قيادته لها.
وأضاف الخبير: وما إن جاءت ثورة الشباب حتى استبشر الجميع خيرا - بمن فيهم منتسبو القوات الجوية- بحصول تغيير جذري فعال في منظومة الإدارة التي كانت تقف وراء ذلك الفشل، غير أن التغيير الذي تم لم يطل سوى أشخاص بعينهم، فيما بقيت عناصر أخرى من تلك المنظومة -فضلا عن النظام المتبع ذاته- هم الوجوه المؤثرة فعليا، لتعيث في هذه الوحدة فسادا لا يطاق؛ الأمر الذي لا يحقق توجيه الإمكانيات المالية التشغيلية المتاحة -على قلتها- في أعمال الصيانة والترميم للطائرات، وكذا التدريب وإعادة التأهيل والرعاية لمنتسبي هذا الصنف من القوات المسلحة اليمنية سواء في صنعاء أو في بقية القواعد الجوية الأخرى المنتشرة في مدن البلاد.
وأضاف: لا يمكن التكهن بأسباب محددة لوقوع هذه الحادثة حتى نسمع عن نتائج التحقيق، ولو أنها ستكون كسابقاتها؛ لكن تظل كل التقديرات والاحتمالات واردة، حتى أن استهداف هذه الطائرة من الأرض أو بشكل مبيت قبل الإقلاع أمر وارد؛ لكني أرجح غير الاستهداف.. ما يجب أن يتساءل عنه الجميع: لماذا يحدث ذلك في توقيت العودة من المهمة التدريبية وفي أثناء دخول تلك الطائرات دائرة الهبوط.. أياً كان رقم هذه الدائرة؟!
وحول طرح فكرة عزل قائد القوات الجوية وآخرين ممن يديرون هذه الوحدة بعد سقوط هذه الطائرة، قال الخبير العسكري: الإقالة ممكنة؛ لكن يجب أن تكون عادلة، بمعنى: أن تكون الإقالة شاملة كل المتورطين الحقيقيين، وأن يحالوا جميعا إلى التحقيق النزيه والمحاسبة العادلة.. والحقيقة أن القوات الجوية تعاني من أعباء تركة كبيرة من الفساد السابق والمستمر، كل ذلك يدفع ثمنه كل وطني وشريف وكل آلة عسكرية في هذه الوحدة.
يجب على قائد القوات الجوية الحالي أو من سيأتي بعده -إن تم التغيير- أن يتصرف كقائد حقيقي لهذه الوحدة، وعليه أن يبدأ بنفسه ليكون قدوة لمن سواه، وأن ينقي هذه من كل من يثبت تقصيره، وهم معروفون لدى الجميع بالاسم، وعليه -أيضا- أن يعمل على إعادة بناء هذه الوحدة بناء نوعيا في سياق الهيكلة التي تجري؛ فهناك الكثير من منتسبي هذا الوحدة يتقاضون روايتهم وهم لا يعملون مطلقا، ومنهم من تجاوز أجلي الخدمة وما زالوا في كشوف المرتبات، وهم بالآلاف تحت مسمى" تقاعد داخلي" وهذا مخالف لقانون الخدمة في القوات رقم (67) لعام 1991م، بشأن الخدمة في القوات المسلحة ولائحته التنفيذية، وهذا كله -أيضا- يحمل الدولة منذ سنوات أعباء مالية كبيرة لو قدر الكشف عن حجمها لأحدث ضجة كبيرة في الشارع اليمني، وهو حال الكثير من وحدات القوات المسلحة.. ويمكن الانتفاع بهذه الأموال في رفد هذه الوحدة ومواجهة أعبائها المختلفة.
وأضاف: يجب أن يحدد التغيير الآني في هذه الوحدة بفترة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر، ويجب أن يحظى هذا التغيير بدعم القيادة السياسية مباشرة بما فيها دعم قيادة وزارة الدفاع؛ حتى لا تقع العملية تحت طائلة الضغوط المتوقعة التي سيلاقيها في طريق التنفيذ؛ فتخرج العملية عن الغاية الحقيقية من وجودها، مثلما خرجت لجان حصر القوات المسلحة نهاية السنة الماضية وكأن شيئا لم يحدث، وذهبت كل مخرجات أعمالها أدراج الرياح!!
وحول تداعيات سقوط الطائرات العسكرية- خاصة أن كونها روسية الصنع- على استيراد الطائرات الحربية والأسلحة الأخرى من جمهورية روسيا الاتحادية، واحتمال التحول إلى سلاح المعسكر الغربي، أجاب الخبير العسكري: لا يمكن الاستغناء المطلق عن الطائرات الروسية في تسليح القوات الجوية اليمنية؛ لكن التحول النسبي في التسليح نحو الغرب أمر وارد، وسيكون ذلك محدودا، وذلك لأكثر من اعتبار؛ أول ذلك: أن الرئيس هادي يحاول قدر الإمكان المحافظة على التوازن في المسائل العسكرية بين المعسكر الشرقي والغربي، والهروب من السيطرة الفردية لأي قوة عالمية، هذا فضلا عن أن المنظومة الجوية تعتمد بشكل كبير على التسليح الروسي وهو وضع اعتاد عليه الجيش اليمني منذ أكثر من خمسة عقود.
مسألة التحول المتوقع؛ لا يمكن أن يكون بالسهولة والسرعة والحجم المتصور لدى البعض؛ لأن ذلك يحتاج إلى فترة زمنية كبيرة، لكني أرجح أن يكون هنالك اختراق أمريكي فرنسي محدود في هذا الجانب وفي هذا الظرف تحديدا، بحيث تطعّم القوات الجوية بطائرات حربية من هاتين الدوليتين مع اختراق مماثل في تسليح القوات البرية والبحرية؛ لكن يظل هناك سؤال أو أكثر من سؤال، وهو: ما هو ثمن ذلك وما مقداره؟ وبالطبع أعني بالثمن: الثمن المادي، والثمن المعنوي، وهذا الأخير سيُلحق ضررا كبيرا بالسيادة الوطنية، لاسيما أن اليمن لا تستطيع دفع قيمة أي صفقة من الطائرات العسكرية دفعة واحدة، وقد يلاقي الأمر اعتراضات وعراقيل كثيرة من قبل عدة دول، بينها بعض دول الجوار، حتى لو افترضنا أن تلك الطائرات ليست من أحدث ما تم صنعه في الولايات المتحدة وفرنسا!!
في مسألة الثمن المعنوي الذي تساءلت عنه؛ سوف أحيلك والقارئ الكريم إلى ما يجري اليوم داخل البلاد من تسابق محموم على المصالح الإستراتيجية التي تمثل هدفا ثمينا بالنسبة لبعض القوى الكبرى، في ظل الظروف التي تمر بها اليمن، وكيف أن كيانات خليجية تعمل كوسيط للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا للتوغل عسكريا داخل البلاد بما يرفع من حالة التحسس لدى المواطن اليمني من أي تواجد عسكري أجنبي؛ لكن رغم ذلك التظليل فقد فطنه الكثير وهو ما لم يقبله هذا المواطن والقوى السياسية والمثقفة.
ستقول لي أنني من يجب أن يُسأل؛ لكن لابد علي أن أجيبك عن أسئلتك بهذه الأسئلة: ما سر الزيارات المتكررة -الغائب فيها الجانب الحكومي اليمني- لمسئولين خليجيين إلى جزيرة سقطرى ذات الموقع الإستراتيجي والجيوستراتيجي الفريدين؟! وبماذا تفسر الأخبار المسربة عن الرؤية الإمريكية في تقليص عدد الجيش اليمني إلى النصف في ضوء تصورات الهيكلة الجديدة؟!
واختتم الخبير العسكري بقوله: بالعودة إلى شأن القوات الجوية وأحداث سقوط طائراتها الحربية؛ فإنه إن لم تتخذ أي معالجات سريعة ودقيقة وناجعة للواقع السيئ للقوات الجوية برمتها في كل القواعد؛ فإن سقوط الطائرات واستهداف الطيارين والمهندسين والفنيين والقادة العسكريين من ذوي الكفاءات العالية، سيظل مستمرا، وسنسمع خلال الأيام القادمة المزيد من تلك الفجائع وبصورة أسوأ مما حصل؛ لأن الخلل داخلي، والتغيير المطلوب لا بد أن يكون نابع من الداخل، وأن يحظى ذلك التغيير بتأييد قوي من القيادة السياسية ذاتها.