ما هي الفيدرالية والأقاليم وتأثيرها على المواطنة المتساوية في اليمن (دراسة)
مع احتدام موضوع الفيدرالية والأقاليم ونقل اليمن من الدولة الموحدة إلى الدولة الاتحادية .. تبرز الكثير من الأسئلة لم تأخذ حقها من النقاش.. هذه الدراسة تقدم شرحاً وتفصيلاً مختصراً يجيب على تفاصيل عملية عن ماهية الفدرالية وشكل الدولة والفرق بين الدولة الموحدة والاتحادية.. وما تأثير ذلك على المواطنة المتساوية، وأجزاء منها هي شرح موجز من كتاب الفدرالية في اليمن .. وإلى النص :
الفدرالية والمواطنة المتساوية
مقدمة
لما كانت المواطنة المتساوية من أهم المبادئ والأساسيات التي تحرص عليها الشعوب، وتتعهد الأنظمة السياسية والحكومات والأحزاب بالحفاظ عليها أو السعي إلى تحقيقها، ولأنها من أبرز العناوين والشعارات التي تغنت بها الفعاليات والقوى المساندة للتغير في اليمن بالعام 2011، ولأن المواطنة المتساوية تتجسد، أول ما تتجسد، في الواقع العملي من خلال المبادئ الدستورية والقانونية، التي تقوم عليها الدولة.. لما كان كل ذلك فإنه أصبح من الواجب أن يناقش هذا المبدأ على ضوء توجهات ومسارات مؤتمر الحوار المنعقد حالياً في اليمن والذي أوكلت إليه مهمة تقرير مصير البلاد.
وتأكد اليوم المحور الأول والقضية الرئيسية في مؤتمر الحوار هي "شكل الدولة". الأمر الذي يرتبط جذرياً بكافة أسس وثوابت الدولة، وفي مقدمتها المواطنة المتساوية. ومن خلال هذه الورقة والتي هي خلاصة بحث وتتبع في عشرات الأبحاث والوثائق والتجارب المرتبطة بشكل الدولة. سنحاول تقديم صورة علمية وقراءة واقعية في موضوع "الفدرالية" وما يترتب على تطبقيه نظرياً وعملياً على مبدأ "المواطنة المتساوية" وعلى قضايا مختلفة.
شكل الدولة
إن الدولة في مفهومها الأوسع والبسيط تتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي "إقليم، وشعب، وسلطة. مساحة محددة من الأرض (إقليم) يعيش عليها مجموعة من الناس يتصفون بخصائص متقاربة (شعب)، تسيطر عليها سلطة واحدة بقوانين وأنظمة موحدة".
وتتخذ أي دولة في العالم أحد شكلين (إما بسيط أو مركب). والدولة بسيطة هي الأساس، وتسمى الدولة الموحدة، لأنها تتكون من إقليم واحد، وشعب واحد، ونظام حكم واحد. وهذا الشكل تتخذه أكثر من 85% من دول العالم. أما الدولة المركبة، فهي في الجوهر والمضمون عدد من الدول تتحد ببعض صفاتها وفي المظهر دولة، تسمى الدولة الاتحادية أو "الفدرالية". فالشكل الأول، تكون الدولة فيه مكونة من (إقليم وشعب وسلطة) والشكل الآخر هو الدولة الاتحادية وتكون الدولة فيه مكونة من (أقاليم، شعوب، سلطات).
لذلك عندما نتحدث عن شكل الدولة، فإننا لا نتحدث عن أمر يتعلق بنظام الحكم أو النظام الإداري أو الأحزاب والسياسات فقط، بل عن أمر يتعلق بمكونات الدولة الأساسية الثلاثة (الإقليم، والشعب، والسلطة)، الأمر الذي يجعل منه موضوعاً بالغ الحساسية ومصيرياً أكثر مما يمكن أن يحدث جراء سقوط النظام السياسي أو حدوث انتقال بين أحد أنظمة الحكم أو حتى سقوط البلاد في أيدي احتلال أجنبي.
مفهوم الفدرالية
كثيراً ما نسمع عن الفدرالية بأنها متعددة الأنواع تختلف حولها وجهات النظر، لكننا هنا نؤكد أن ثمة قواعد علمية ومعرفية محددة، لا يختلف عليها اثنان من الخبراء، مهما كان أحدهما مؤيداً أو معارضاً، فيكون أساس الاختلاف هو الجزء الذي سيركز عليه الواحد منهما، وليس على الأساس.. وسنقدم تعريفاً ملخصاً ونترك لمن أراد أن يتوسع العودة إلى كتابنا "الفدرالية في اليمن".
الفدرالية هي كلمة إنجليزية تترجم إلى العربية بمفردة الاتحادية، وهي مصطلح يعبر عن نظام الدولة المركب. ولتقريب الصورة فإن عبارة "بسيط" تعني أن المشار إليه يتكون من شيء واحد، وعبارة "مركب" تعني أن المشار إليه أكثر من شيء. ويمكن من خلال ذلك، تعريف الدولة الفدرالية أو الاتحادية أنها: عدد من الدول تجد على رأسها دولة تمثلها أمام الخارج وتمارس بعض السيادة عليها وتنظم علاقاتها عبر قانون دستوري، أو هي نظام يتركب من عدد من أنظمة الحكم المستقلة ذاتياً تتحد فيما بينها بنظام مركزي.
ويقوم النظام الفيدرالي على قاعدتين أساسيتين: الأولى، هي أن الدول أو الأقاليم أو الولايات المتحدة يتوفر لكلٍ واحدةٍ منها الاستقلال الذاتي، فيكون لها سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وتمارس السيادة على حدودها الطبيعية. والقاعدة الثانية، هي أن هذه الدول أو الأقاليم أو الولايات توحدت فيما بينها ببعض الخصائص وتنازلت عن شخصيتها الدولية لصالح هيئة موحدة.
وبصورة عامة يمكن أن نقدم تعريفين مختصرين للفدرالية، كما خلص إليهما كتاب "الفدرالية في اليمن":
"الأول، في حالة التوحد بين عدد من الدول: وهنا تعرف الفدرالية بأنها نظام يوحد مجموعة من الدول تتمتع بخصائص مشتركة تتحد لتكوين دولة مركزية قوية تمثلها على الساحة الدولية وتتولى قضايا الدفاع والأمن القومي وما يحدده الدستور وتسمى الدولة الاتحادية. وتحتفظ كل دولة عضو بهويتها واستقلالها الذاتي. ومن أمثلة هذه الحالة، الولايات المتحدة الأمريكية.
الفدرالية في حالة الدولة الموحدة وتعني: تقسيم الإقليم إلى أقاليم، والشعب إلى شعوب، والسلطة إلى سلطات. أي تقسيم الدولة البسيطة إلى دول ومن ثم إقامة دولة اتحادية تمثل هذه الدول مجتمعة وتمارس بعض السيادة عليها. ومن أمثلة هذه الحالة، الصومال، بلجيكا، السودان".
نشأة الفيدرالية
تنشأ الدول أو الاتحادات الفدرالية في العادة باتحاد مجموعة من الدول أو الدويلات أو القوميات، وتنشأ أحياناً نتيجة تفكك دول موحدة، وذلك كالتالي:
- اتحاد ولايات أو دويلات، تتحد لتكوين دولة قوية، وبهذه الطريقة نشأت معظم الدول الفدرالية، كالولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت بتوحد 13 ولاية حتى وصلت إلى 51 ولاية. وأيضاً الإمارات العربية المتحدة.
- تفكك دول موحدة: تنشأ الدولة الفدرالية كنتيجة لتفكك دولة موحدة، لأسباب مختلفة، فقد تكون أساساً تتكون من أقاليم وقوميات ولغات وأديان متعددة، بحيث تصعب إدارتها بسلطة مركزية، أو تتكون من كيانات متماسكة متميزة في الماضي تطالب بالاستقلال، فيتم تفكيك الدولة إلى ولايات أو أقاليم باعتماد الصيغة الفدرالية.
المواطنة المتساوية
المواطنة مصطلح يعني في مفهومه الأوسع: الانتماء إلى الوطن، ويرتبط بوجود دولة وبعلاقة كل مواطن في هذه الدولة مع بقية المواطنين وعلاقة الحاكم والمحكوم، والمواطنة المتساوية تعني فيما تعنى أن يتساوى المواطنون أمام القانون والدستور في كافة الحقوق والواجبات، دون استثناء أو تمييز بسبب أو الانتماء السياسي أو المناطقي أو المذهبي أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية.
وفي بعض المجتمعات الغربية أو التوجهات الفكرية، يرتبط الحديث عن المواطنة المتساوية بالمساواة بين الرجل والمرأة، لكننا في سياق حديثنا عن شكل الدولة، لسنا في صدد الكماليات وقضايا الخلاف، بقدر ما نناقش أساسيات هامة مرتبطة بالدولة والمواطنة في حدها الأدنى، وتكون متعلقة بأكبر عدد من الناس، أو أوسع عدد من القضايا.
والمواطنة المتساوية تعني فيما تعنى أن يسير المجتمع في الدولة في اتجاه موحد، وهو تعزيز الانتماء الوطني، ولا يعني ذلك إلغاء الانتماءات الأخرى الطبقية أو الاجتماعية أو الطائفية فهي موجودة بطبيعتها، بقدر ما أن هذه الخصوصيات والانتماءات لا تكون رافعاً أو مانعاً للمواطن في نيل حقوقه أو القيام بواجباته. على الأقل أمام القانون والدستور.
المواطنة وأنظمة الحكم
ترتبط المواطنة المتساوية في صورتها الأوسع بالدولة الحديثة الديمقراطية أو أنظمة الحكم الجمهورية التي تتيح لأي مواطن حق الوصول إلى السلطة وفق معايير وشروط قانونية تطبق على الجميع. لكن هذا لا يعني عدم توفر المواطنة المتساوية في أنظمة الحكم الملكية الفردية أو الدستورية. بقدر ما أن هناك حدود لهذه المواطنة. كأن تتحدد فيما سوى السلطة العليا التي تمكلها عائلة أو جماعة محددة، فإن المواطنين متساوون أمام القانون في حقوقهم الأساسية كالتعليم والحصول على الوظائف وغير ذلك من الأمور التي تختلف من نظام لآخر ومن دولة لأخرى.
المواطنة المتساوية بين الواقع والنظرية
بدهي أن تحقق المواطنة المتساوية لا يبلغ الكمال في أفضل حالاته، لكنه يكون حقاً يكفله القانون والدستور، ويتحقق على أكبر قدر ممكن، وكلما كانت الدولة راسخة والمجتمع متقدماً كان ذلك أمكن.
وليس دقيقاً القول إن المواطنة المتساوية غير متوفرة بعد أن تكون حقاً مكفولاً في القانون والدستور، بقدر ما تكون منقوصة بحكم أحوال الناس أو سياسات القائمين على النظام. فالمواطنة المتساوية المتعلقة بحق الوصول إلى السلطة هي أمر يهم فئة محدودة من الناس، لكن المواطنة المتساوية المتعلقة بنيل الحقوق الأساسية هي الجانب الأكبر مما يهم الناس. وعندما لا تتوفر المواطنة في الحقوق الأساسية فذلك هو الواقع المختل . ولعل أبرز الحالات التي تكون فيه المواطنة المتساوية شبه منعدمة، تتجسد واقعاً عندما يكون النظام طائفياً، أو ينتمي إلى أقلية تسعى لإحكام سيطرتها، على حساب السواد الأعظم من الشعب، أو على حساب جزء كبير منه. خصوصاً إذا ما كانت القوانين والتشريعات تخدم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
المواطنة المتساوية وشكل الدولة
عندما نتحدث عن المواطنة المتساوية، والمساواة، سواء كانت في حدها الأمثل أو الأدنى، وسواء كانت في جانبها النظري أو العملي، فإن ذلك كله، يرتبط بنوع واحد من الدول، وهو الدولة البسيطة.. أما في الدولة الفدرالية أو الاتحادية، فلا وجود لشرط المواطنة المتساوية.
وفي الأصل جاءت الفدرالية كنظام يوحد مجموعة دول أو ولايات مستقلة تحافظ على استقلالها الذاتي وتكون مهام الدولة الاتحادية مرتبطة فقط بالتمثيل الخارجي والقوات المسلحة في أغلب الأحوال. وليس في قاموس أو مبادئ الدول المركبة ما يسمى "المواطنة المتساوية"، إلا إذا كان يقصد به التمثيل على الجماهير.
أي أنه "عند الحديث عن الانتقال من الدولة البسيطة إلى دولة مركبة، بغض النظر عن إمكانية نجاح العملية من فشلها، إلا أن ذلك يقتضي بالضرورة انتفاء شرط "المواطنة المتساوية" بين أبناء الوطن، لأن ذلك فقط مرتبط بالدولة الموحدة، أما في الدولة الفدرالية فتصبح المواطنة متساوية بين مواطني الإقليم (فهو دولة بسيطة عملياً)، ولا تتحقق على مستوى الدولة الاتحادية ككل، باعتبار أن مواطني كل إقليم يخضعون لسلطة مستقلة ويتمتعون بحقوق وميزات تختلف من إقليم لآخر. والفرص لم تعد متساوية حسب الكفاءة والتخصص والخبرة، بقدر ما أصبح كل إقليم يمتلك حصة مخصصة.
وبدهيٌ أن تحقق المواطنة المتساوية عملياً في الدولة الموحدة هو أمر نسبي، كما ذكرنا، بسبب ممارسات خاطئة للسلطة أو لأشخاص في السلطة أو بسبب قصور في أجهزة الضبط أو تغرات في لوائح القوانين، لكنها كمبدأ تبقى حقاً يكفله القانون والدستور، أما في الدولة الفدرالية فيصبح غياب المواطنة المتساوية هو الأمر الطبيعي الذي يكفله الدستور".
وقد يبدو هذا الأمر صادماً للبعض في بادئ الأمر، إذ كيف يعقل أن الذين يقودون البلاد إلى الفدرالية، قد تنازلوا عن هذا المبدأ العريض الذي تتغنى به الأنظمة والأحزاب والمنظمات والعالم المتقدم، لكن الأمر العملي المسلم به هو أن لا مواطنة متساوية في دولة فدرالية.. وسنوضح ذلك كما يلي:
الفدرالية التي نحن في سياقها في اليمن، هي ذلك النوع الذي يقوم بتحويل الدولة البسيطة الواحدة إلى كيانات دستورية مستقلة ذاتياً تحت مسمى "أقاليم"، كل إقليم أو جزء محدود بحدود جغرافية، يقوم عليه نظام حكم يمارس السيادة ويشكل حكومة وبرلماناً وقضاءً مستقلاً.. وهذه الأجزاء أو الأقاليم تتحد شكلاً في الدستور الفدرالي أو الدولة الاتحادية التي تتولى الشؤون الخارجية والأمن القومي. لكنها تختلف عملياً، في أن لكل إقليم أو جزء دستوره المحلي وقوانينه المختلفة وحكومته المستقلة.
فالحديث عن المواطنة المتساوية اليوم يأتي في إطار المبادئ والأهداف الثابتة في أذهاننا وبرامجنا كفعاليات ومؤسسات مدنية وكمجتمع يعيش في ظل الدولة البسيطة سواء في عهد التشطير أو في ظل الجمهورية اليمنية. أما عند تحويل شكل الدولة من بسيطة إلى فدرالية، فهذا يقتضي أن نغسل أيدينا أول ما نغسلها، من مبدأ "المواطنة المتساوية" بيننا كيمنيين. وهذا لا يعني شطبها نهائياً من القاموس، بل إن بالإمكان أن ننتقل بها من دائرة الوطن الواحد، إلى الدوائر الجديدة الناتجة عن التقسيم الفدرالي. فنبحث عنها بين مواطني كل إقليم.
فالمواطنة المتساوية بأبسط صورها تعني «أن المواطنين متساوون أمام القانون والدستور في الحقوق والواجبات»، وعندما يكون لكل إقليم دستوره الخاص وقوانينه المختلفة وجهازه الحكومي الخاص، فهذا يقتضي بالضرورة أن نبحث عن المواطنة المتساوية داخل الإقليم وليس في الدولة الاتحادية ككل.
فالأقاليم التي تتكون منها الدولة الاتحادية، هي دول، كما يصنفها الخبراء، باعتبارها تتمتع بأغلب خصائص الدولة (إقليم، مجتمع، حكومة، برلمان، شرطة، وقضاء.. الخ)، ينقصها الاعتراف الخارجي وتتنازل عن جزء من السيادة لصالح جيش اتحادي يتولى الحماية ولا يتدخل في الشؤون الداخلية، إلا بالقضايا التي تمس الأمن القومي.
وقد يقول قائل: أليست الولايات المتحدة دولة واحدة؟ أليست الإمارات العربية المتحدة دولة واحدة، وهنا نقول إن ذلك النوع من الفدرالية هو الذي جاء استجابة للوحدة بين عدد من الدول أو الولايات التي كانت منفصلة، وليس من النوع الذي يأتي استجابة لنداء التقسيم داخل دولة موحدة. ومن جهة أخرى، فإن ظروف النشأة وعوامل القوة والتجربة هي من يتحكم بتلك الدول ويعزز صورتها المركزية ونفوذها على حساب المكون الفدرالي في الداخل.
المساواة والتمايز
تقوم الدولة البسيطة على مبدأ المساواة والوطن الواحد والهوية الواحدة، وقد تكون هذه الدولة غير موحدة إدارياً (لامركزية إدارية) لكنها موحدة سياسياً.. أما الدولة الفدرالية -التي نحن بصددها - فتقوم على أساس التمايز والتنوع والشراكة. فهي كفكرة تنطلق من أن هناك أجزاء متميزة يجب أن تكون مستقلة بذاتها، وعلى أن المجتمع أكثر من نوع. وإنما يتحد بمصالح مشتركة تلتقي في عقد الدولة الاتحادية، وهي في صورتها الأولية هيئة كالجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد الأوروبي، لكنها تتمتع بمزيد من الخصائص التي تفقد أعضاءها الشخصية الدولية.
فالمساواة إذن أساس يرتبط بالدولة الموحدة، والتمايز أساس يرتبط بالدولة الفدرالية، وإنما الاتحاد هو الأمر الثانوي، أو الطور الثاني من أطوار الدولة وله صلاحيات ومهام محدودة.. وهذا هو الحقيقة العملية، وإن لم تكن تتردد من قبل الداعين إلى الفدرالية. أو أنها تمُرر تحت عناوين أخرى لا يتم إرجاعها إلى أساسها الدقيق. وإلا لماذا المطالبة بإقليم يضم محافظات كذا وجهة كذا، إلا على أساس أن هذا الجزء يتميز عن هذا مجتمعاً وجغرافيا، ويترتب عليه هوية مختلفة تترسخ من خلال القوانين. ولمن يقولون إن الهدف تسهيل الإدارة أو ضمان بعض الحقوق وتخفيف بعض الأعباء، نشير هنا إلى أن ذلك يرتبط بالنظام الإداري ويمكن تحقيقه بأشكال وطرق مختلفة في إطار الدولة البسيطة. والمركزية واللامركزية ترتبطان أساساً بالنظام الإداري. أما النظام الفدرالي فهو نظام حكم سياسي أو لامركزية سياسية تقسم البلاد سياسياً إلى كيانات دستورية ينقسم وفقها المجتمع إلى مجتمعات مستقلة.
المشاركة في السلطة والثروة
يترتب على تقسيم البلاد سياسياً ومجتمعياً وجغرافياً إلى أقاليم، أن يكون لكل إقليم كيانه المستقل الذي يتمتع بنصيب معتبر من الثروات الطبيعية في أراضيه وموارده المستقلة، وهذا يترتب عليه أن تكون هناك أقاليم فقيرة الموارد كثيرة السكان، وأخرى كثيرة الموارد قليلة السكان، ومن جهة أخرى تكون الفرص داخل كل إقليم لأبنائه أولاً، وإن كان يحق للمواطنين من الأقاليم الأخرى العمل داخل الإقليم. أي أن المواطنة بين اليمنيين في أبسط صورها ستكون شبه منعدمة وعليهم التعايش مع الأوطان الجديدة المسماة أقاليم، في بلدٍ كان وطناً وحداً.
ومن ناحية أخرى فإن الفرص والمناصب في الحكومة الاتحادية ستكون لكل إقليم حصةٌ محددةٌ فيها، وإن كان يبقى جزء منها يمنح للأقاليم ذات الكثافة السكانية أو لأصحاب الخبرات. مثل أن يكون هناك برلمانان، أحدهما ينتخب مباشرة على حسب التعداد السكاني وآخر يكون ممثلوه عدداً متساوياً من كل إقليم. وهذا قد يتوفر بحال أفضل إذا كان هناك استقرار وتقدم في الدولة بشكل عام. أما الدول المتحولة فهي تظل تجارب معقدة للغاية، وهناك ثلاث تجارب عربية بالتحول من دولة بسيطة إلى فدرالية، وهي السودان والصومال والعراق. وكلها تجارب توشك أن تؤدي إلى زوال آثار الدول القديمة وليس إلى بناء دول فدرالية. على عكس الإمارات التي كان نظامها الفدرالي خطوة إلى الوحدة بين إمارات متفرقة، وإن كان لها ظروفها التي لا يمكن إسقاطها على أي تجربة أخرى.
الأساس المختلف
تنقل الفدرالية - التي نحن في سياقها - البلاد من فكرة المساواة بين المواطنين إلى المساواة بين الجهات أو بين الطوائف أو بين القوى، ومن ديمقراطية الأحزاب إلى ديمقراطية الطوائف، ومن خيار الأغلبية إلى خيار التوافق، فلا يبقى للإنسان معيار. وهذا ليس كلاماً للتهويل بل هو الواقع، والذي قام على أساسه مؤتمر الحوار المسند إليه مستقبل اليمن، حيث ساوى في التمثيل بين شمال وجنوب. وبغض النظر عن الأعذار التي تم التسويق لها للتبرير لهذه الخطوة، إلا أنها عملياً الأساس الذي ستقوم عليه الدولة «الموعودة» وهو أساس مناطقي وجهوي وقائم على التمييز تحت حجة العدالة والإنصاف والإرضاء. وهو ليس إرضاءً مرحلياً بقدر ما هو تأسيس لمرحلة جديدة قائمة على الماضي.. ونحن هنا عن نتحدث عن أسس ومبادئ، ولسنا في سياق إنكار أو إثبات المظالم. فذلك شأن آخر. وأية عدالة تساوي بين خمس السكان ملايين وأربعة أخماس أخرى؟ وماذا يترتب على هذا الأمر من تهميش وإهمال للكفاءة، باعتبار المحدد الأول صار الانتماء المناطقي.
المواطنة المتساوية في الأقاليم
ذكرنا أن المواطنة المتساوية أمر مرتبط بالدولة البسيطة، وليس بالدولة الفدرالية، ولكن بالإمكان أن نبحث عن المواطنة المتساوية في الدولة الفدرالية بين مواطني كل إقليم على حدة.. فما مدى إمكانية أن تتحقق المواطنة المتساوية بين سكان الإقليم؟.
هذا الأمر يتطلب النظر إلى الأسباب المؤدية إلى الأقاليم والواقع الذي سوف تتأسس في ظله هذه الأقاليم. والجميع يعرف أن التوجه إلى الفدرالية يأتي نتيجة للانسداد السياسي الذي وصلت إليه البلاد، ولوجود حركات في أجزاء من الوطن تطالب بالانفصال وتحديداً المحافظات الجنوبية والشرقية، وأجزاء أخرى تنتشر فيها جماعة مسلحة تفرض الأمر الواقع وتنازع الدولة سيادتها وهذا هو الأمر في صعدة وشمال الشمال.
من جهة أخرى، فإن الأقاليم، بغض النظر عن عددها، لا تزال أمراً في العالم النظري، ولكي تتحول إلى مؤسسات على أرض الواقع، فإن هذا يحتاج لأن يمر كل إقليم في الأطوار التي تمر بها كل دولة أثناء تأسيسها، لأن العملية تحتاج إلى تثبيت نظام حكم سياسي، وليس مراكز إدارية. وتجارب نشوء الدول وتطورها تقول إن التأسيس عملية معقدة للغاية، ولو أخذنا كل بلد وعرفنا الأطوار والانقلابات التي مر بها حتى وصل إلى ما وصل إليه، فسنجد أن تأسيس الأقاليم خطوة قد تفشل من أول وهلة بعد أن تكون الدولة المركزية قد تبعثرت سيادتها في هذه الأقاليم. وبالتالي من المحتمل أن تظهر العصبيات والخلافات وتتحول هذه الأقاليم إلى إقطاعيات ممزقة وصولاً إلى أضعف حلقة اجتماعية.
ومن الطبيعي، في هذه الحالة أن تكون الحياة أصعب مما يمكن تخيله، وقد تكون القضية الأساسية هي الأمن والغذاء وهناك تصبح المواطنة ذكرى أحلام ارتبطت بمرحلة متطورة من الدولة تم فقدانها.
وإذا فرضنا، أن هذه الأقاليم تريد الاستقرار، فإنها إما أن تسيطر عليها عصبة أو مجموعة قوية أو تظل في صراع بين القوى. وما أغلب الدول الصغيرة إلا مشيخات وإمارات مملوكة لعوائل استطاعت أن تثبت في مراحل قد لا تتكرر. وبالتالي يمكن أن تؤدي الفدرالية إلى تحول مجموعات نفوذ تجارية وقبلية محلية إلى سلطات شرعية تحتكر السلطة والفرص تحت مسمى الإقليم، ولن يكون بإمكان الدولة المركزية أن تتدخل في الشؤون المحلية. وبالتالي لا يستطيع المواطنون بعمومهم أن يأخذوا حقوقهم في حدها الأدنى الذي كان قد توفر في الدولة البسيطة.
وهذا الكلام، ليس من باب التهويل، بل يمكن أخذه إلى الواقع: هل يمكن أن تفعل الفدرالية في صعدة أكثر من تحويل الحوثي من جماعة مسلحة خارجة على الدولة، إلى كيان دستوري شرعي يمارس السلطة والسيطرة بذات المنطلقات ولكن بصفة شرعية؟ هل يمكن في الواقع أن تسمح جماعة الحوثي بدولة مواطنة متساوية في المناطق التي تسيطر عليها؟.
ذات الكلام يمكن طرحه في مناطق أخرى، هل يمكن أن تكون هناك جماعة محلية في أبين أقوى من جماعة فلان أو علان؟. أين مؤسسات الأقاليم التي ستضمن الديمقراطية أو المواطنة المتساوية داخل الإقليم؟ ما الذي يضمن أن هذه الخطوة لن تؤدي إلى تحول بعض المشايخ والنافذين المحليين من أصحاب مكانة معتبرة ونفوذ إلى أصحاب سلطة، فيصبحون هم الدولة وهم المال والنفوذ؟
الخلاصة والتوصيات:
- إن المواطنة المتساوية أمر مرتبط بالدولة البسيطة، ولا وجود له في الدولة الفدرالية، إلا أنه من الممكن أن يتوفر بين سكان كل إقليم على حدة، إذا ما توفر الأمان ونجح هذا الإقليم.
- إن التجارب الفدرالية الناجحة، هي تلك التجارب التي تتوحد فيما بينها في نظام فدرالي، أما التجارب المتحولة أو المتفككة من دولة موحدة إلى دولة فدرالية فإنها خطوة تحتمل المزيد من الانقسام وتظل كل تجربة معقدة للغاية. ومثالها في المنطقة العربية، السودان، الصومال، والعراق.
- إن تحويل شكل الدولة من البسيط إلى المركب، يقتضي حتمياً التضحية بمبدأ المواطنة المتساوية والانتماء الوطني الواحد، لصالح انتماءات أدنى، على أسس مذهبية أو جهوية أو ماضوية يمكن أن تكون طوراً جديداً ومعقداً من المشكلة وليس خطوة في طريق الحل.
- إن إمكانية تحقق المواطنة المتساوية داخل سلطات الإقليم ترتبط بوجود هذا الإقليم في هيكل مؤسسي مستقر، أما هذه الحالة فتحتمل تسليم رقاب المواطنين في المحافظات إلى إقطاعيين وعنصريين واحتكاريين يقمعون كل من يقف في وجههم. وما يجري في صعدة هو صورة عملية مما تجترحه الفدرالية، إذ تتحول الدولة المركزية إلى طرف محايد ويتجه ذوو الأنياب إلى ضرب الناس تحت مبررات واتهامات فظيعة.
- قد تؤدي العملية الفدرالية إلى تحطيم الدولة الضعيفة الموجودة ونقل البلاد إلى مرحلة اللادولة، باعتبار أن جميع الأقاليم والكيانات التي يمكن أن تنفصل أو تحكم ذاتياً هي كيانات غير موجودة على أرض الواقع. وبالتالي سيكون حالها أضعف من حال الدولة اليوم والتي لم يستقر لها ما استقر حتى الآن، إلا بعد تضحيات وعقود وسيول من الدماء والدموع.
- لا نزعم إن ما ذكرناه هو كل الصورة ولكن ندعو إلى دراسة متأنية تنطلق من مسؤولية مهنية ووطنية ولا تتأثر بالتوجهات السياسية أو بالموجة شديدة الهبوب بل من دراسة واقعية تنظر في التجارب وتدرس الاحتمالات.
- يجب على كل حريص يهمه أمر هذه البلاد ومستقبلها أن يتجه إلى دراسة الخيارات السياسية المطروحة، وعدم ترك الحبل على الغارب للسياسيين الذين تدفعهم الثارات والخلافات نحو خيارات لم تأخذ حقها من الدراسة.
- إن إدخال الشعب في معمل تجربة مع الدولة المركبة أمر يجب ألا يسكت عنه تحت مبرر أنه قد أصبح إجماعاً، فمهما كان الإجماع تظل مسؤولية الأكاديميين والباحثين هو دراسة إمكانية النجاح وليس النظر في المعاذير والمبررات. ومن كان لديه إجابات مقنعة تزيل المخاوف وتبعد المخاطر فلينزلها علمياً وعملياً، بعيداً عن الأوهام والأمنيات وبعيداً عن الركون إلى أية تطمينات شفهية خارجية أو محلية.
- إن كل سياسي أو مسؤول في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة مطالب بأن يشعر بحجم المسؤولية التي تلقى على عاتقه، وما يمكن أن يتحمله جراء صمته أو مشاركته في السير بالبلاد في طريق يمكن اعتباره خيانة للوطن أو على الأقل قفزا إلى المجهول.
* ورقة عمل قدمت في ندوة الفدرالية والمواطنة المتساوية. نظمتها مبادرة مطر للمواطنة المتساوية.
*مؤلف كتاب "الفدرالية في اليمن".
* يرجى الاشارة إلى المصدر حال النقل أو الاقتباس