التبعات المحتملة لإقرار الفيدرالية في اليمن.. إكسير حياة أم رصاصة رحمة؟ (خلاصة دراسة)
ماذا بعد إقرار الأقاليم والدولة الاتحادية ؟ ما مدى إمكانية أن تنجح الفدرالية في اليمن ؟أيهما أفضل.. الأقاليم أم الإقليمان؟ ما علاقة الخارج بما يحدث؟ هل ما يجري الآن سيؤدي إلى دولة اتحادية؟
النص التالي هو خلاصة بحث ودراسة كتاب الفدرالية في اليمن: تاريخ الفكرة ومؤشرات الفشل. قراءة في جذور المفهوم ودراسة مقارنة في التجارب العربية (الإمارات، السودان، الصومال، العراق) .
الفدرالية.. إكسير حياة أم رصاصة رحمة؟
بعد طوافنا في موضوع الفدرالية في اليمن والمنطقة العربية، وبعد البحث في طبيعة ودوافع الأطراف الداعية إلى الانتقال إلى النظام الفدرالي، وبالنظر في الظروف المرافقة لطرحها، وبروز العامل الخارجي وراء -وبالترافق مع- كل دعوة أو تطبيق.. تبين لنا أن الفدرالية - داخل الدولة الواحدة في السياق العربي واليمني ليست سوى خارطة طريق للعودة إلى مرحلة سبقت الدولة. بحيث أنها تقسم الشعب الواحد إلى مجموعات منفصلة بحدود جغرافية وسياسية على أساس انتماءات مناطقية وجهوية ومذهبية. كل مجموعة تدور حول ذاتها في حلقة أضيق، وتنصرف بمجهودها عن المدار الأوسع الذي كانت قد وصلت إليه، وهو الوطن الذي كان قد تأسس على أساس الهوية الواحدة والمواطنة المتساوية.
ولأن هذه الأقاليم أو الكيانات أو الحلقات الضيقة التي ستنشأ وفقاً للصيغة الفدرالية، ليس لها بناء مؤسسي قوي، ولأن الرابط بين مكونات كل قسم أو كل إقليم على حدة، ليس رابطاً ناهضاً بحد ذاته قومياً كان أو لغوياً أو دينيناً أو أساساً صلباً مختلفاً عن البلد الواحد، ولأن الرؤوس والمكونات والقوى والشخصيات الداعية للفدرالية متعددة الأهداف والمطامع والمنطلقات، فمن الطبيعي أن عجلة التفكك سوف تستمر على مستوى كل كيان وإقليم ومحافظة.
ولأن الإقليم مشروع أضيق من الدولة الواحدة فإنه جاء نتيجة فشل الطامحين إليه بمشروع الدولة الأكبر، أي أنهم قادمون من الفشل، مسرعون إلى الوراء، محملون بالثارات والأنانية يسعون للتحصن في دوائر ضيقة، ويبحثون في حطام الماضي عن قشة هوية سياسية أو مناطقية أو انتماءات مذهبية أو عنصرية أو وحدود رسمها المستعمر فيتعلقون بها. ولأن هذه القشة ضعيفة ومجربة، ولأن كثيراً من عناصر المناطقية والجهوية قد زالت في عصر الاتصال والتواصل والدولة الواحدة، فإنها خطوة خائبة، وإنهم سرعان ما يفشلون ويتدحرج المجتمع إلى أضيق حلقة ممكنة، وهي القرية. وهذا ليس من التهويل؛ بل يمكن التدقيق في الظروف والقيادات والتنظيمات الطامحة للفدرالية ولن تخرج عن ذلك، وما من شيءٍ يبعث على الاطمئنان عند التأمل في كافة تلك الوجوه والمسميات.
في غمرة هيجان النزعات المناطقية والصراعات المحلية والتجارب الفاشلة، تكون مظاهر الدولة قد اختفت، وأصبحت حالة الخروج عنها هي الشرعية والسائدة، ولأن الذين أقلموها فشلوا في بنائها عندما كانوا صفاً واحداً، فهذا يجعل من قدرتهم على إعادة بنائها بعد تفرقهم أمنية أصعب. إذ سينشغل كلٌ في دائرته الإقليمية لبناء أو إصلاح ما لن يتم بناؤه أو إصلاحه بسهولة. فإذا كان مؤسسات الدولة الوطنية على ضعفها قد جاءت بعد مراحل نضال عصيبة وبتراكم عشرات السنين. فهذا يعني أن الأقاليم لن تنجح لها تجربة، لأنها حتى تتمكن من الاستقرار، أما أن تنفرد عليها مجموعة واحدة وتصبح إقطاعية أو تصبح نزاعاً بين المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة. وهذا على مستوى الإقليم الواحد. وقس على ذلك بقية الأقاليم.
وإذا كانت الهوية الوطنية اليمنية، وهي صانعة واحدة من أعرق حضارات التاريخ، وهي هوية متجذرة آلاف السنين، تجددت وترسخت في الدولة البسيطة والقوانين والظروف الموحدة منذ قيام الثورة اليمنية سبتمبر1962-أكتوبر 1963 وبقيام الجمهورية اليمنية 1990م. إذا كانت هذه الهوية يمكن التنازل عنها، فإن أي هوية أو قشة سيتم التعلق بها أو اختلاقها ستكون أضعف وقابلة للزوال. وستكون التجمعات المدنية أو الأسر التي تجاوزت القبيلة هي الأكثر عرضة للتهديد في هكذا حال.
وإذا كان الدين الإسلامي واللغة العربية والأصل والتاريخ الواحد.. إذا كانت كل هذه الروابط غير قادرة على الحفاظ على المجتمع اليمني الواحد، أو سيتم التنازل عن هذه الروابط، فأي رابط أقوى يمكن أن تتكئ عليه الأقاليم للحفاظ على ذاتها الأضيق؟
وإذا كان البعض يريد أن يجعل حضرموت كياناً لوحدها، وتضم معها شبوة والمهرة، دون أن يكون هناك رابط قومي أو عرقي أو ديني يميز هذه المناطق عن بقية اليمنيين، فذلك رابط أضعف سيكون أسهل على التفكك. ولو كان سيصمد فإن الأولى من ذلك أن تصمد الروابط الكبرى بين اليمنيين: الدين، الحضارة، التاريخ، اللغة، الأصل...الخ!
وإذا كان من البدهي وجود نافذين واحتكاريين وأصحاب أطماع، في أي مجتمع، فهذا يعني أن أقليات تجارية أو سياسية أو شخصيات سوف تسعى لفرض سيطرتها وتبدأ باحتكار الفرص باسم السلطة الإقليمية، ولن يكون بإمكان المواطنين التنفس، وليس من شؤون السلطة المركزية (إذا وجدت) أن تتدخل فكلما كان النطاق أضيق، كان ذلك أدعى للاستبداد والاستفراد، وهل تحكم الدويلات الصغيرة العربية إلا عوائل ومشايخ؟ ألم تكن الأنظمة العائلية أقدر على الاستبداد والاستمرار في السلطة لو كانت تحكم مدناً أقل؟ أي أنها - في هكذا معطيات- لا يمكن أن تكون مصلحة للمواطن، ولكن قد تكون مصلحة مؤقتة لعصابات سلالية أو سياسية أو مناطقية.
ثم إن نشوء شخصية نظام حكم سياسي، أكان حكماً ذاتياً إقليمياً، أو دولة مستقلة، يعتبر عملية معقدة للغاية، وما نشأت الكيانات الموجودة إلا بظروف تاريخية متراكمة وبعد تضحيات زمنية وبشرية كبيرة، وبعد دورات صراع وحروب وانقلابات معقدة، حتى على مستوى الدول الصغيرة الغنية والتي لا يتجاوز مواطنو الواحدة منها مليون مواطن، تشهد تحديات وجودية وصراعات سياسية، البحرين والكويت مثالاً. رغم الثروة ونشوء أنظمة الحكم في ظروف تاريخية قد لا تتكرر، إلا أنها مهددة بالخلافات الداخلية بين المكونات القليلة أصلا. وماذا عندما نأتي لتأسيس نظام سياسي في أي إقليم يريد الحكم الذاتي أو الانفصال؟
الديمقراطية بدون دولة قوية راسخة ستكون مشكلة لأنها ستوفر حينذاك بيئة للصراع السياسي بين كيانات عديدة تتصارع على الكيان الهش المفترض أن يكون بيتاً للجميع. والاستبداد مشكلة سيخلق صراعاً وإلغاءً وسيتطلب إما عصبةً قويةً أو ظهراً دولياً يسند المجموعة التي تريد السيطرة، وبالتالي يتحول الحاكم والمحكوم إلى أسير في قبضة التبعية؟ الوثائق والقوانين والاحترازات الورقية والشعارات التي تكرر الآن، لو كانت وحدها تكفي لكان أولى أن تطبق مع وجود مؤسسات دولة (وإن ضعيفة). ولو كانت كافية لكان من السهل أن نكتب القوانين والشعارات ونرسلها إلى الصومال أو العراق! أين الكيانات الصومالية التي بدأت انفصالاتها منذ 1991؟ لم تنهض ولم يعترف بها أحد لتصبح دولاً كما يحلم بعض المخدوعين بدويلات نشأت في ظروف لا تتكرر!
وإذا كان اليمن البلد العربي العميق سوف ينقسم على أسس جهوية وماضوية، أليس من الأسهل أن هذا الأساس قابل أن يطبق على السعودية بما هي دولة حديثة التكوين؟ وعلى جميع الدول؟ حتى داخل المحافظة الواحدة، يمكن إيجاد تمايز وأسباب تؤدي إلى النفور والانقسام!
بالإضافة إلى كل ذلك؛ إذا كان العامل الخارجي حاضراً وبقوة، فضلاً عن أنه المؤلف والمخطط والراعي للفدرلة، وبسبب الموقع الاستراتيجي والصراعات المحلية، هذا يعني أن القوى العظمى ستضطر لحماية مصالحها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية بواسطة الإشراف المباشر على البحار والموانئ والمدن والأجزاء الحساسة وسيكون اليمن مقتسماً بين رعاة الحل الكارثة، الذين سيصبحون رعاة الكارثة وسيحرصون على ديمومة الانقسام والصراعات المحلية، حتى يكونواً مرجعاً للجميع وحتى لا تتحول الجهود الوطنية باتجاههم، كما سيحرصون على دعم الأكثر سوءاً واحتراباً حتى تكون تدخلاتهم الظاهرة هي الأقل سوءاً ودموية.
هذه المخاطر ليست من نسيج الخيال المحض، بل لها دلائلها التاريخية الغابرة والمعاصرة. فالمدقق في الوضع الصومالي ودور الخارج في الصراع والاحتراب الداخلي، سوف يتأكد أن الصومال لو ترك عاماً أو عامين بدون تدخل خارجي وبدون أمراء حرب تتم رعايتهم من عواصم خارجية، فإن سيشرع في مدة وجيزة بإعادة بناء الدولة. والمدقق في دور الدول الأجنبية في مراحل فاصلة، يتأكد أن تناحر القبائل كذبة يعلق عليها سبب الصراع، فلولا دور الخارج لكان الصوماليون اتفقوا وأعادوا بناء دولتهم مهما كانت الخلافات إلا أنها لا تبرز إلا برعاية خارجية.
إذن، نحن أمام الحل الكارثة، والخيار الذي سينقل الخلافات بين القوى السياسية والأهواء المتصارعة إلى المجتمع بكل فئاته وإلى الخارطة الجغرافية التي سيعاد رسمها. وسيتم فكفكة الدولة الضعيفة وتوزيع ما تفكك منها من سلطة وثروة وشعب واحد إلى حلقات سياسية مفككة. وستبعث النزعات والصراعات والأطماع التي تؤدي إلى تفكك الجيش وعودة الناجين من الجنود ليصبحوا محاربين ضمن أطرهم القروية.
لا يمكننا الفرار من التأكيد، إننا، أمام صيغة لتدمير المؤسسات وتحويل الأزمات إلى مؤسسات مستدامة.. حركات التمرد والانفصال والانتماءات المناطقية، ظواهر تضر بالمجتمع والدولة ستقوم الفدرالية بتحويلها من حالات خارجة على القانون إلى مؤسسات دستورية، تتسابق على قتل الدولة. على أمل أن ينتظم الجميع في الدولة «الموعودة»!
هناك خطر وجودي يتهدد المجتمعات العربية شواهده لا تحتاج إلى ترجمان، يبدأ الوضع بغرس وتوسيع بؤر صراع سياسية وإحياء أقليات ومشاريع تمزيقية، ثم يأتي التدخل الخارجي حاملاً عقاراً قاتلاً في علبةٍ مزخرفةٍ بأجمل الألوان والشعارات وفي أجواء منتجعات فارهة تحاول طمس الفروق بين الخطأ والصواب أو بين الدولة والتمرد أو بين القانون واللاقانون.. فيلتقي الكل في هذا الإناء فيتحول الجميع إلى «ثقب أسود» يبتلع دولة الشعب مادةً ووجدانا وهوية.
على أن هذا الحل الكارثة والدواء الداء، لم تكن الدعوة إليه طارئة، بل تم إعداده في وقتٍ سابق ليبدو كمنتجٍ محلي، تردد على ألسن أشخاص أو أحزاب لا تخلو من خيط مشدود إلى الخارج أو إلى المشاريع العنصرية الصغيرة وحركات التمرد المرتبطة أصلاً بدوائر خارجية والتي تعرف أنها الخيار التالي، فالذي يقول إنه حلٌ تردد بعد العام 90، ينسى أن أصله يعود إلى ما قبل خروج الاستعمار!
ولم نعد، بعد كل هذا، بحاجة إلى البحث عن النوع الأفضل من هذا الحل، لأنه بجميع أعداد الأقاليم وبجميع الاحترازات وفي ظل هذه الظروف، يهدد بانهيار الدولة والعودة إلى دوائر أضيق يتبعها انهيارات في المستويات الضيقة فيصبح الحل الكارثة، فالهاربون من التقسيم إلى إقليمين على أساس الشطرين، يقدمون وصفة تمزيقية أنكى وأشد، وهي الانقسام إلى مزيد من الأقاليم!، أي تقسيم الشمال وتقسيم الجنوب أو تقسيم ودمج الجنوب والشمال، وكلها تؤدي إلى أقسام عاجزة تم تقطيع الدولة إليها.
موضوع متعلق:
صفحة الكتاب على فيس بوك:
مركز نشوان الحميري للدراسات والاعلام