شهد اليمن، خلال نصف شهر تقريباً، تطورات متسارعة في ملف (الحرب على الإرهاب). دُشنت بعمليات نوعية لطائرات أميركية بدون طيار، قتلت العشرات من المشتبه بانتمائهم لتنظيم "القاعدة". تبعتها عملية عسكرية موسعة للجيش اليمني ضد معاقل التنظيم بجنوبي البلاد، وصل خلالها إلى أبرز المعاقل، وتزامن ذلك مع توتر أمني في العاصمة صنعاء.
ورغم تقديرات شبه رسمية بتحقيق الحملة ما يصل إلى 90 في المائة من أهدافها، إلا أن المواجهات عادت بضراوة، الثلاثاء الماضي. هنا محاولة تقصٍّ لمعرفة ما الذي تحقق خلال أسبوعين من الحملة.
الحملة العسكرية
في أواخر مارس/آذار الماضي، بثّ تنظيم "القاعدة" تسجيلاً مصوراً، اعتبره المحللون الغربيون الأخطر منذ سنوات، يُظهر العشرات من عناصر التنظيم، بينهم الرجلان البارزان فيه، ناصر الوحيشي، والسعودي إبراهيم الربيش، في حفل استقبال لسجناء فارين من السجن المركزي في صنعاء. ويعتقد مراقبون أن التسجيل جرى تصويره في مديرية المحفد، بمحافظة أبين جنوبي البلاد.
بعد أسابيع من بث التسجيل، وتحديداً في 20 إلى 21 أبريل/نيسان الماضي، وقعت العديد من الغارات، يُرجح أنها بطائرات أميركية بدون طيار، استهدفت مواقع مفترضة لتنظيم "القاعدة"، ونتج عنها مقتل أكثر من 60 شخصاً، بينهم نحو 55 في المحفد، بحسب الإحصائية الرسمية.
وفي 29 من الشهر نفسه، أطلق الجيش اليمني حملة عسكرية موسعة من ثلاثة محاور: حبان وميفعة من جهة شبوة، وتتبع للمنطقة العسكرية الثالثة، والمحفد وأجزاء من أحور، من جهة أبين، وتتبع للمنطقة العسكرية الرابعة. وشارك في الحملة الطيران الحربي ووحدات من قوات الأمن الخاصة، بالإضافة إلى مسلحين غير نظاميين من أبناء تلك المناطق، يعرفون ب"اللجان الشعبية".
في اليوم العاشر للحملة، دخل محافظ أبين، جمال العاقل، وقائد المنطقة العسكرية الرابعة الذي ذاع صيته أثناء المواجهات الأخيرة، اللواء محمود الصبيحي، إلى معقل "القاعدة" الأول في المحفد، ومن الجهة الأخرى بمحافظة شبوة دخل وزير الدفاع، اللواء محمد ناصر أحمد، وعدد من قيادات الدولة على رأس الحملة العسكرية إلى معقل "القاعدة" الثاني في عزان. وبذلك، حققت الحملة العسكرية أبرز أهدافها في فترة وجيزة فاجأت المتابعين.
ولأن ثغرات عديدة ظهرت في الحملة، من خلال التغطية والسرعة، كان لا بد أن يتم تلافيها سريعاً، وهو ما عبرت عنه الهجمات المباغتة، التي تجددت فجر الثلاثاء 14مايو/أيار الجاري، بمحاولة مسلحي التنظيم استعادة السيطرة على عزان، لتبدأ المواجهة فصلاً جديداً في اليوم الخامس عشر على بدء الحملة.
الدور الأميركي
من الصعب تحديد دور الولايات المتحدة في العمليات على وجه الدقة، لكن أبرزه يتضح من خلال المشاركة بتنفيذ ضربات عن طريق الجو، والمشاركة، ربما، في قرار المواجهة، إضافة إلى العون اللوجستي وغير ذلك من الأمور التي عادة ما تُحاط بالسريّة.
ويقول الباحث المتخصص في شؤون الإرهاب، سعيد الجُمحي، لـ"العربي الجديد"، إنه "كان من الطبيعي أن يتوج الرئيس عبد ربه منصور هادي وعوده التي أطلقها في أكثر من خطاب له، بالتخلص من الإرهاب من خلال مواجهات مباشرة ضد تنظيم القاعدة، لا سيما بعد أن بات الجيش وأجهزة الأمن بقياداتها ومنشآتها أهدافاً متواصلة، وبصورة تكاد تعصف بهيبة المؤسسة العسكرية والأمنية".
ويرى الجمحي، وهو رئيس مركز دراسات، ومؤلف كتاب "القاعدة في اليمن"، أن هذه الدواعي "لم تكن وحدها تكفي أن يتم الإعلان عن حرب لاجتثاث القاعدة، إذ تحتاج مواجهات كهذه إلى الكثير من الدعم والمساندة بكافة أشكالها المادية والمعنوية، ومن هنا لا يمكن تجاهل الروابط المشتركة بين اليمن والأميركيين، في ما يخص الحرب على الإرهاب ومطاردة القاعدة، فكانت الزيارات المتعددة للقيادات العسكرية والأمنية من البلدين تدعم هذا الهدف المشترك". وهنا يتوقف الجمحي عند "زيارة وزير الدفاع اليمني محمد ناصر أحمد الأخيرة للولايات المتحدة، بصحبة قيادات عسكرية عليا، وما تلاها مباشرة من إطلاق حملة عسكرية غير مسبوقة ضد القاعدة"، في إشارة إلى ارتباط واشنطن بالحرب الشاملة الحالية.
إحصائيات متباينة
مع بدء الحملة العسكرية، أطلق الرئيس اليمني، تصريحاً بأن 70 في المائة من المنتمين إلى "القاعدة" في اليمن هم من الأجانب، متسائلاً: كيف نحاورهم و70 في المائة غير يمنيين؟
تبعاً لهذا الإعلان، بدا أن العامل السياسي تدخل بحصيلة الحملة العسكرية خلال الفترة الماضية، إذ كانت وزارة الدفاع تعلن، بشكل شبه يومي، عن سقوط قتلى وجرحى من صفوف "القاعدة"، وتعلن أسماء قتلى أجانب بينهم قيادات. وبحسب الإحصاءات، فإن بيانات وزارة الدفاع ووكالة الأنباء الرسمية، أوردت بالاسم أو بالرقم، ما يزيد عن 50 عنصراً منذ انطلاق المواجهات، فضلاً عن الأنباء التي تذكر مقتل وجرح العشرات.
وقدّر محافظ أبين، في تصريح صحافي، الاثنين الماضي، قتلى "القاعدة"، خلال الحملة الأخيرة، بنحو 110 في المحافظة، بينما قدرت مصادر عسكرية لوسائل إعلام غير رسمية الحصيلة بنحو 140 قتيلاً.
وفي آخر تصريح رسمي، الأحد الماضي، بثته وكالة الأنباء اليمنية، قال مصدر عسكري مسؤول إن "العمليات العسكرية الأخيرة التي خاضتها وحدات القوات المسلحة والأمن في مديرية المحفد بمحافظة أبين وفي شبوة، أدت إلى مقتل وجرح المئات من عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي، كما قتل العشرات من قيادات هذا التنظيم غالبيتهم من جنسيات عربية وأجنبية".
ويأخذ بعض المراقبين على هذه البيانات، أنها بدت أساساً، منذ اليوم الأول للمواجهات، تعزيزاً لتصريح الرئيس هادي بأن 70 في المائة من عناصر "القاعدة" أجانب، إذ كانت أغلب الأسماء المعلنة من قبيل "أبو إسلام الشيشاني"، و "أبومسلم الأوزبكي"، خبير المتفجرات "تيمور الداغستاني"، "السفاح بيكاسو"، وعلى هذا النحو من الأسماء التي تعزز وجود العنصر الأجنبي والعربي، وأغلبها غير معروف في السابق، كما لم تعزز المصادر الرسمية، ما تعلنه بالصور والأدوار الموثقة.
امتصاص الضربات
تُصنف واشنطن فرع "القاعدة" في اليمن، الذي يطلق عليه اسم "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، على أنه أخطر فروع التنظيم "الإرهابي" في العالم، وتعد المحفد وعزان، اللتان وصل الجيش إلى مركزهما، المعاقل الرئيسية التي ينتشر فيها التنظيم.
وصول الجيش إليهما من دون معارك شديدة، وبفترة وجيزة، أمر يرجعه خبراء ومحللون إلى جملة عوامل، أبرزها: الإعلان المفاجئ للحملة من جبهات عدة، والضربات الجوية التي سبقتها وقتلت العشرات من عناصر "القاعدة"، بالإضافة إلى السخط الشعبي ومطالبة القبائل في مناطق المواجهات، "القاعدة" بالمغادرة، وكون أبرز القيادات العسكرية التي قادت الحملة كانت من أبناء تلك المناطق.
إلى ذلك، يرى محللون أن "القاعدة" اعتمد استراتيجية بعدم المواجهة المباشرة مع الجيش لمنعه من التقدم، مستفيداً من دروس أبين في العام 2012، واختار، أو أرغمته الحملة والقبائل، على أن ينسحب ويتفرق، ليعود من خلال العمليات المباغتة.
ويعيد الباحث الجُمحي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، "النجاح" الذي حققته الحملة العسكرية في البداية "إلى توافر الإرادة السياسية، وكذا حالة الاحتقان والغضب الشعبي ضد "القاعدة"، نتيجة توغله في إزهاق الأرواح، وما يتبع ذلك من إشاعة حالات الفوضى والعبث والخوف".
وحول ما إذا كانت هذه الحملة حاسمة مع "القاعدة"، أم يمكن أن تنتقل إلى محافظات أخرى، يقول الجمحي إن "القاعدة متواجد من خلال عناصر فاعلة ومناصرين، في أغلب المحافظات اليمنية، وإعادة الانتشار والانسحاب هو أسلوب وتكتيك استعمله التنظيم من قبل للتقليل من الخسائر، والحفاظ على حالة تأهب للمواجهة".
ويضيف أن المشهد الحالي يفصح عن خسائر كبيرة تكبدها التنظيم، فآثر الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، "ولا يعني تراجعه أنه قد تعرض لهزيمة كاملة. ويدل استمرار مواجهة التنظيم ومتابعته باستراتيجية شاملة من السلطة اليمنية، على عزم حقيقي للتخلص منه، وإنهاء مشكلة الإرهاب، وهذا ما سيحتاج إلى وقت غير قصير".
شظايا في صنعاء
مع دخول الجيش إلى المحفد وعزان، أعلنت سفارة واشنطن في صنعاء، وتبعتها بريطانيا، تعليق خدماتها بسبب وجود تهديدات جدية بعمليات إرهابية انتقامية، بالتزامن مع تطورات دراماتيكية في صنعاء، أبرزها اغتيال فرنسيين يعملان في بعثة الاتحاد الأوروبي، أعقبتها اشتباكات متفرقة في نقاط أمنية بالعاصمة، بالإضافة لعملية إرهابية بسيارة استهدفت مقر الشرطة العسكرية في حضرموت.
وبينما ذهبت العديد من التفسيرات إلى أن هذه التطورات مرتبطة بعمليات انتقامية من قبل "القاعدة"، يغفل هذا الربط الثغرات التي ظهرت أثناء الحملة، كالتقدم في الكثير من المحاور من دون مواجهة، وإعلان قتلى أغلبهم غير معروفين، والاستخدام السياسي لها، من خلال التوجيه الإعلامي، الذي حرص على إيجاد تأييد وتوجيه اتهامات غير مباشرة لبعض الأطراف السياسية بالتقاعس عن التأييد.
وعن هذا الموضوع، يقول الصحافي والمحلل السياسي، نبيل الصوفي، لـ"العربي الجديد"، إنه "مع أن الحرب ضد القاعدة هي عملية مفتوحة منذ سنوات، غير أنني لا اتفق مع من يرى أن الهجمات التي تعيشها صنعاء خلال هذه الأيام، والتي وصلت إلى محيط القصر الرئاسي، هي نشاطات للقاعدة، وإن كنتُ أعطي لتقدير المحللين نسبة من الاحتمال". ويضيف أن "عمليات القاعدة لا تتسم بالسرعة، لأنها تدير كل معركة في حدود ما تتطلبه هذه المعركة أو تلك، وحين تخوض حرباً ميدانية في منطقة، فإنها تنتظر حتى تنتهي تلك الحرب، وبعدها تعود لطريقتها المفتوحة". ويخلص الصوفي إلى أنه على الأجهزة الأمنية والأطراف السياسية في صنعاء، ألا تركن إلى اعتبار أن "كل رصاصة أو تفجير مصدره القاعدة، لأن هذا الركون يعقد الأمر أكثر، كونه يعني عدم تحليل المشكلة، وعدم تقديم أي معالجات، بالركون إلى أن هذه حرب مفتوحة ومعلومة".
ويلمح الصوفي إلى أطراف عدة تعبث بالملف الأمني. ويعتبر أنه "من الملفت أن كل أخبار اغتيالات الجنود، مثلاً، تترافق مع تعبير: وتم الاستيلاء على أسلحة الجنود بعد قتلهم أو مهاجمتهم". ويشير إلى أن هذه العبارة تضاعف من احتمال أن هناك أطرافاً عدة تشارك في توسيع الخرق الأمني، ف"القاعدة" بالكاد يلاحق تأمين أفراده بعد العمليات، ولا يمكن لهؤلاء انتظار ما بعد التنفيذ لجمع أسلحة والهرب بها". ويستدرك الصوفي أن هذه الأطراف قد تكون منظمات جريمة غير معروفة أو معروفة، أو أطراف صراعات ثأرية".
ومع ذلك، يوضح الصوفي أنه "لا يمكن عزل كل هذا عن أصداء الحرب مع القاعدة، حتى لو قلنا إنه ليس المسؤول، فانشغال الجيش بمعارك ميدانية، والهالة التي يقدمها الإعلام الرسمي عن هذه الحرب، وتحولها إلى مادة مهاترات بين الأطراف السياسية، والترقب والتوتر الذي ينقله كل هذا للناس، يمثل تأثيراً خطيراً يصب لصالح القاعدة".
لعبة الفيل والبعوضة
يعلّق الكاتب اليمني، مهدي الهجر، على هجوم الأحد الماضي، على مقر للشرطة العسكرية بمدينة المكلا، بالقول إن "الحرب مع القاعدة لم تكن باستراتيجية شاملة وعميقة، تأخذ في الحسبان أسوأ الاحتمالات والمخاطر، وكأنه لم تكن هناك إحاطة تامة بموارد وإمكانات وخطط التنظيم، بل يبدو أنها كانت أشبه بهبّة عاطفية استجابة لاستحقاقات دولية، وهروباً من استحقاقات وأزمات داخلية".
ويلاحظ الهجر أن القاعدة "أعاد نقل عملياته إلى الأماكن والمناطق الرخوة، وترك مناطق المواجهة إلا بحدود قدر التكتيك، وهو يلعب اليوم لعبة البعوضة والفيل؛ فيوجه القرصات والضرب في مواقع مفصلية وبطريقة فنية، ولا يملك الفيل إلا أن يضرب بخرطومه على الجبل والحجر، فترتد ضربته عليه ويقتله جسمه". ويخلص إلى أن الجيوش النظامية التقليدية غير قادرة على أن تخوض الحرب مع القاعدة، لأنها حرب عصابات لها أدواتها وتكتيكها الخاص".