لم تكن رواية جوزيه ساراماغو ذائعة الصيت، "العمى"، الصادرة في عام 1995 لتحصد ربّما ذلك الإنجذاب نحو أحداثها الفانتازية رغم أسلوبها الواقعي، لو ظهرت أخبار قرية "الخزنة" اليمنية قبل موعدها الآن، أو على الأقل بالتزامن مع صدور الرواية.
منذ نحو ثلاثين عاماً، وفي تلك القرية الواقعة في محافظة "حجة" إلى الغرب من اليمن، بدأ العمى الحقيقيّ يخطف الأبصار بصورة تدريجية. لذا، لم تقترن القرية أو تتقاطع مع الرواية على مستوى الحدث الرئيسي فقط، وإنما اختصر الواقع هذه المرة صفحات كثيرة من أحداث الرواية، لتبدو كأنها لعنةٌ أو روح شريرة تتنقل بين رواية ساراماغو وعيون أهل الخزنة، المحتجزة بعيداً عن العالم وأطبّائه الذين يكتفون بالتلويح باحتمال وجود حلٍّ لما يعانيه أهل القرية يومياً منذ سنوات طويلة.
تلك الحقيقة ستدفع خلال أعوام طويلة إلى أن يقتصر تزاوج أهل القرية في ما بينهم، وأن يتوارثوا تبعاً لذلك المزيد من الولادات قليلة الحظّ بنعمة الإبصار.
"الحكومة تعي جيداً مسؤوليتها، وتأمل من أولئك الذين تخاطبهم الآن، كمواطنين لا شك في سلامة مواطنيّتهم وحسن المسؤولية لديهم، أن يتذكروا أن هذه العزلة التي وُضعوا فيها، تمثل وفوق كل اعتبارات شخصية، تعاضداً مع باقي مجتمع الأمة".
في هذه العبارة من روايته، لم يكن لساراماغو أن يُنطق المتحدث باسم الحكومة كلمات غير تلك الغافلة عن أحوال المحتجزين الإنسانية. كلمات تؤكد مصلحة الأمة فوق أي اعتبارٍ آخر، وكأن هذه الشريحة من العميان المفتقرين لأدنى مستويات الإعالة الغذائية، الطبية، والنفسية هي محضُ قربان مرهون لسلامة الأمة، ليس إلا.
الحال كذلك في تلك القرية اليمنية، أو "قرية العميان" كما درجت تسميتها، فقد سيقت رغماً عنها إلى حالة من العزلة والإهمال، وكلّما طالت مدة العزل الإجباريّ والحجر الإجتماعي، أصبح خيار التزاوج حاجة طبيعيةً لا مفرّ منها بين العميان أنفسهم، مراعاةً لشريعة الحياة إلى جانب الأعراف الاجتماعية والقبلية. وهو تزاوجٌ يُعزّز من احتمال إنجاب عددٍ أكبر من المواليد الذين لن يرثوا بدورههم ويورّثوا سوى "العمى"، في متواليةٍ هندسية ملعونة.
كقراء لرواية فُصّلت شخوصها وأحداثها على ذلك النحو، لا نملك سوى أن نصرخ عالياً كي نلفت الانتباه إلى ما يجري التغافل عنه بصفاقة. وكأشخاص نعايش أحداثاً خارج عالم الكتابة، فإننا مأخوذون بالقدرة - أو وهم القدرة - على تعديل مسار أحداث تبدو قريبة من متناول اليد والأقربين.
في حدود رواية "العمى"، لم نكن قادرين كقرّاء على أن نمنع حاسة الاستحواذ والاستغلال من الانتشار بين العميان المحتجزين داخل مشفى للأمراض العقلية، أضحى فارغاً إلا من عميان استمرّوا بالتوافد إليه مرغمين. كان على البشر أن يثبتوا قدرتهم على التفلت من عالم الكتابة، متذرّعين بأنّ ما يحدث لشخوص الروايات ليس سوى من نسج خيالٍ لن يتقاطع أو يتطابق أبداً معهم في حدود الواقع إلى هذه الدرجة، سيّما أن الواقع الحقيقي هو في العادة منبع الكتابة، وليس العكس، هذا لو افترضنا وجود ذلك الجدار العازل بين الرواية والواقع.
بيد أن ما يحدث الآن بعد 19 عشر عاماً من زمن رواية "العمى"، أو بالأحرى ما واظب على الحدوث والتخلّق في الوقع الحقيقي، يؤكد إمكانية معايشة حوادث مماثلة لا متخيّلة إلى حدود الفانتازيا الفاجعة، وإمكانية ممارسة فئة من الناس لكلّ ما من شأنه أن يجبر الآدمي على التخلي لا عن حيائه فقط، وإنما يدفعه لتأويل فكرة النجاة بما يعني خلاصه هو دون الآخرين، وإغماض عينيه عن خطواتهم العمياء في عوالم معزولة - على الأقل - إلى لحظة الكتابة هذه... والآن.
على هذا النحو، وفي مشهد يُكمل دائرة الفانتازيا، نتخيّل لوحةً معلّقة على مدخل قرية "العميان" تلك، مكتوبٌ عليها بخطٍّ واضح وإيحاء عالٍ "جميع الشخصيات والأحداث الجارية في هذه القرية من وحي الواقع، ولا علاقة لها بأيّ شخصيات أو أحداث مشابهة في خيال الكُتّاب".
* شاعر من الأردن