يشقّ طريقه في أحد شوارع لندن، متجهاً نحو ما يشبه المقهى. بتحيات ضاحكة يستقبله رواد المكان بمجرّد دخوله. على الطاولات حزم النبات الأخضر. يجلس إلى إحداها وينهمك في تقطيع الأوراق، قبل أن يبدأ في مضغ الأطراف الغضّة. وتعلو أصوات المتحدّثين بخليط من العربيّة والسواحيليّة، بينما يمارس الجميع التقطيع والمضغ بطريقة آليّة واعتياديّة واضحة.
مشهد يتكرّر في الحياة اليوميّة لغالبيّة المنتمين إلى الجالية الصوماليّة واليمنيّة في بريطانيا. فهناك تنتشر مقاهي تخزين القات المعروفة ب"المفارش"، لسد حاجة الأقليات الإفريقيّة التي أدمنت مضغ النبات كتقليد قديم ذي ارتباط بتراثها الثقافي.
لكن اتخاذ المملكة المتحدة قرارها الذي تمّ تفعيله في 24 يونيو/ حزيران الماضي بحظر القات وتصنيفه من المخدرات من الفئة "سي"، يفتح الباب أمام التساؤل حول التبعات المحتملة لتجريم متعاطيه. هؤلاء هم فئة لا يستهان بها في المجتمع البريطاني، بخاصة مع وجود استحالة فعليّة للقضاء على تراث ثقافي متجذّر حتى ولو بعقوبة جنائيّة رادعة كالتي فرضتها المملكة المتحدة.
ويعاقب القانون البريطاني مستهلك القات بالسجن لمدّة تصل إلى عامَين، بينما تصل عقوبة الإتجار فيه إلى السجن لمدّة تمتدّ إلى 14 عاماً.
وتنتشر عادة مضغ القات كمنشّط ومحسِّن للمزاج في منطقة القرن الإفريقي وبعض الدول العربيّة، إذ يُعتقد بفاعليته في زيادة الجرأة وطلاقة اللسان والرغبة الجنسيّة. إلا أنه وكأي مادة مخدّرة، ليس بريئاً من الأضرار الصحيّة التي قد يخلّفها.
وتشتمل آثاره الجانبيّة على الاكتئاب الخفيف والكسل والنعاس وفقدان الشهيّة. وقد يؤدّي "التخزين" على المدى الطويل إلى الإصابة بتليّف الكبد وتغيّر لون الأسنان وزيادة خطر التعرّض للإصابة بالقروح وانخفاض الرغبة الجنسيّة وارتفاع ضغط الدم.
وعلى الرغم من عدم وجود أي دليل علمي على أن القات يسبّب الإدمان، إلا أن الثابت أنه ينمّي الرغبة في الاعتياد على تعاطيه، بحسب الموقع البريطاني الحكومي "فرانك" المتخصّص في المواد المخدّرة.
لكن المقلق أن الحكومة البريطانيّة لم تستند في قرارها القاضي بحظر هذا النبات، إلى الحقائق العلميّة المتعلقة بأضراره. فقد جاءت الدعوة إلى قرار الحظر بضغطٍ من المنظمات التي تعنى بشؤون المرأة الصوماليّة والتي رأت فيه خطراً يهدّد استقرار نواة المجتمع الصومالي.
وتقول هنا محبو عبد الواحد "زوجي يتلقّى إعانة بطالة من الحكومة البريطانيّة ليكفلنا، لكنه يمضي معظم يومه مبذراً نقوده القليلة لشراء القات بدلاً من أن يجتهد للبحث عن عملٍ جيد".
الأمر نفسه تشدد عليه الكثير من الصوماليات في بريطانيا، خصوصاً مع ارتفاع سعر النبات، حيث تصل قيمة الحزمة الواحدة منه إلى أربعة جنيهات إسترليني.
في المقابل، يرى "عبد الرشيد" العديد من الفوائد جرّاء تعاطي "القات". فيقول: "الصوماليّون يتعاطون القات للتغلب على مشاكل الهجرة والبطالة والاختلاف الثقافي. فتشكّل المفارش بشكل ما متنفساً للتسامر والتواصل بين الناس". يضيف "النبات ليس ضاراً كما يقولون، بل هو أقل ضرراً من السجائر والمشروبات الروحيّة".
ويبالغ عبد الرشيد في الدفاع عن "المفارش"، وهي مناطق خاصة بجلسات السمر لهم، قائلاً، "إذا ما تمّ إغلاقها، فلن يجد الشباب مكاناً يذهبون إليه إلا المراكز الإسلاميّة المتشدّدة".
إلى ذلك، ينتقد أستاذ التاريخ الإفريقي في جامعة هارويك، الدكتور ديفيد أندرسن، وهو أحد أعضاء اللجنة الاستشاريّة التي نصحت الحكومة بعدم حظر النبات، ينتقد تجاهل سكرتيرة وزارة الداخليّة البريطانيّة تيريزا ماي توصيات اللجنة قائلاً "هو أمرٌ مقلق أن يتمّ اتخاذ مثل هذا القرار من دون سند علمي متين. ليس لديَّ تفسير لتجاهل الحكومة توصيات اللجنة، إلا أنها ربما تلقّت ضغوطاً من الولايات المتحدة الأميركيّة لحظر هذا النبات. فالأميركيّون يعتقدون أن تجارة القات هي مصدر أساسي لتمويل الجماعات الإرهابيّة المتطرّفة في الصومال وتحديداً جماعة الشباب الإسلاميّة".
يضيف أندرسن أن "هذا الاعتقاد في الواقع خاطئ تماماً. فالقات يتمّ استيراده من كينيا واليمن وليس من الصومال. ولا صلة بين تصديره إلى المملكة المتحدة وبين الجماعات المتطرّفة". ويشدّد على أن "القرار لن يمنع على أرض الواقع الناس من تعاطي النبات أو الإتجار فيه. هو سيدفع فقط بتجارة القات إلى السوق السوداء ويحوِّل طائفة كبيرة من المجتمع إلى الإجرام".
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بريطانيا التي تأخرت عن الولايات المتحدة وكندا وجميع دول الاتحاد الأوروبي في اتخاذ قرار الحظر هذا، خسرت بتبنّيها هذا القرار نحو ثلاثة ملايين إسترليني كانت تدخل إلى خزينتها سنوياً من عائدات الضرائب على تجارة القات.
وقد بدأ توقّع الدكتور أندرسن القائل بردود فعل عنيفة على تجريم فئة ضخمة من المجتمع البريطاني، يتحقّق. فقد قامت تظاهرة حاشدة مناهضة لقرار الحظر في 22 يونيو/ حزيران الماضي في منطقة هارلسدن شمال غرب لندن قبل يومَين من تفعيله.
وقد دفع انقسام المجتمع الصومالي حول منع القات، بعشرات الصوماليّين إلى الردّ على تلك التظاهرة بأخرى حاشدة مؤيّدة لقرار المنع في المكان نفسه. وهو ما استدعى تدخّل الشرطة لمنع الاشتباك بين المعسكرَين.
من ناحية أخرى، يضع قرار الحظر المملكة المتحدة في مرمى الغضب المتصاعد لسكان مقاطعة ميرو شرق كينيا والتي تُقدَّر نسبة سكانها الذين يعتمدون على صناعة القات لكسب عيشهم بـ80 بالمئة، بينما تبلغ نسبة صادراتها إلى المملكة المتحدة نحو 15 بالمئة من إجمالي إنتاج المقاطعة وتتعدّى قيمتها سبعة ملايين ونصف المليون دولار أميركي سنوياً.
ووجّه عضو المجلس المحلي في مقاطعة ميرو كوباي كيرينجو تهديداً صريحاً للحكومة البريطانيّة في حال شرعت في تطبيق قرار الحظر، وقال "تحتفظ المملكة المتحدة بقاعدة عسكريّة ضخمة في وسط كينيا حيث يتلقى فيها الآلاف من الجنود التدريب كل عام. وسكان مقاطعة ميرو لن يكونوا سعداء برؤية أولئك الذين حظروا منتجهم من القات يتلقون التدريب على أراضيهم. كذلك، يقصدنا السياح البريطانيّون للاستجمام، وثمّة مزارعون بريطانيّون يعيشون هنا. لذلك، نحن ندعوهم إلى إعادة النظر في هذا القرار قبل أن تكون له آثار ارتداديّة عنيفة".