يُعدّ دخول صنعاء دائرة الصراع السياسي المسلح ضد الحوثيين، من خلال محاصرتها بالاعتصامات المسلحة، منعطفاً جديداً دلالاته خطيرة؛ فهو يكشف عن حقيقة وصول الدولة اليمنية إلى درجة كبيرة من العجز والاختلال، مما يجعلها غير قادرة على حماية العاصمة من سعير الحروب الصغيرة، الممتدة في طول البلاد وعرضها. وهذا نتاج طبيعي لصناعة الكوارث السياسية، التي انتهجتها السلطة اليمنية من بعد عام 2011، حتى وصلت نيران الحرائق إلى العاصمة، وصارت إمكانية معالجة الكارثة من دون مخاطر ضعيفة.
وصول الحوثيين إلى مشارف صنعاء وداخلها، حيث يقيمون اعتصاماتهم المسلحة، ويوسعونها تدريجياً على غرار أمس، الأحد، احتجاجاً على رفع الدعم الحكومي عن النفط ومشتقاته، يُعتبر من تداعيات سقوط محافظة عمران، في محاولة للاستفادة السياسية القصوى من هذا النصر العسكري.
لم تعالج مكابرة الحكومة النتائج السلبية لسقوط مدينة عمران المحاذية للعاصمة صنعاء، عندما زار الرئيس، عبد ربه منصور هادي، المحافظة في 23 يوليو/تموز في استعراض إعلامي للقول إن الدولة تسلمت عمران، رغم عدم انسحاب قوات الحوثي من المدينة، بل وممارسة الحوثيين عمل الحكومة، مثل تطبيق عقوبات الإعدام. كذلك حاول حزب الإصلاح الاستعراض الإعلامي بجنازة احتفائية للواء، حميد القشيبي، الذي قتل اثناء المعارك في عمران بين الحوثيين واللواء المتمرد، الذي كان يقوده.
لم يكن تسلّم الدولة عمران حقيقيا، بدليل أن مجلس الأمن دعا في بيانه الأخير، في 29 أغسطس/آب الماضي، إلى عودة عمران إلى الدولة. ولا تلغي الجنازة الرسمية للقشيبي حقيقة أن "الإصلاح"، على غرار الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، يعرقل عملية توحيد الجيش اليمني، ويدعم تمرد ألوية في الجيش ضد رئيس الجمهورية. فحتى لو افترضنا أن غاية القشيبي كانت نبيلة في الدفاع عن عمران، لكن غياب الانضباط داخل الجيش وانقسامه، له مخاطر كبيرة على وحدة وبقاء كيان الدولة اليمنية.
يستثمر الحوثيون انقسام السلطة على نفسها، فهادي مشغول في بناء شبكة ولاءات شخصية وليس مؤسسات للدولة، والإصلاح يسعى إلى تجيير كل مكاسب ثورة 2011 لمصالحه الحزبية الضيقة، بمنطق فيه قدر كبير من الهيمنة. أما صالح فيسعى إلى إفشال السلطة الحالية والانتقام، إذ لا يزال ممسكاً بالجزء الأكبر من حزب "المؤتمر الشعبي العام"، ويملك شبكة واسعة من الولاءات القبلية، التي تتحرّك بعصبية طائفية (زيدية شيعية) ضد "الإصلاح" (الإخواني)، وبعصبية مناطقية ضد هادي بحكم انتمائه إلى محافظة أبين الجنوبية، أي من خارج المنطقة الشمالية، التي احتكرت الحكم في اليمن لمئات السنوات، وعلى الرغم من جاذبية لافتة رفع الأسعار، والإجماع الشعبي على فساد الحكومة وضعفها، لم ينجح الحوثيون في تأمين الحشد الشعبي من خارج الطائفة والمنطقة، وبدا واضحاً حالة الصدمة، التي أصابت قيادة الجماعة، عندما رأى الحشد الشعبي الهائل، الذي دعا إليه خصومه بما فيها الحكومة المكروهة، فيما سُمّي ب"تظاهرات الاصطفاف الوطني"، في 25 أغسطس/آب الماضي، إذ كانت التظاهرة الأكبر التي شهدتها العاصمة صنعاء، وفاقت كل تظاهرات الحوثيين عدداً.
وهو ما أضعف موقف الحوثيين كثيراً، خصوصاً أنهم استعاروا شعارات الثورة وخطابها، مستلهمين تجربة ثورة 2011 وكيفية استغلال حزب "الإصلاح" إيّاها، متناسين الوضع الإقليمي والشعبي الثوري في وقتها، بعكس مزاج الشارع الميال إلى الاستقرار الآن. كما أن التعامل الانتهازي للإصلاح لثورة 2011 هو مجرد ركوب الموجة الثورية، وليس دعوة وتحشيداً لها مثلما يفعل الحوثيون.
لم تستطع الشعارات الثورية تغطية الطبيعة الطائفية لجماعة الحوثي، مما نفّر جزءاً كبيراً من الشعب اليمني منهم، وتُعتبر هذه خسارة كبيرة للجماعة الشابة والجامحة، لكن الدولة اليمنية لن تستطيع الاستفادة من هذا، وسوف تخسر كثيراً، لأنها تستخدم أدوات المعارضة نفسها من ناحية الحشد الشعبي والضغط السياسي، وليس أدوات الدولة من خلال فرض هيبتها وإرادتها على جماعة تهددها بالسلاح داخل العاصمة.
تدفع الدولة اليمنية ثمن تأجيلها مواجهة الحوثيين في عمران، حتى وصلوا إلى صنعاء، وصارت خياراتها مُرّة وكُلفة تطبيقها عالية على هيبة الدولة وشرعيتها وكذلك على السلم الاجتماعي، إذ انقسم المجتمع، ليس سياسياً بل على مستويات طائفية ومناطقية.
وفي حال استجابت الدولة لمطلب الحوثيين الشعبي، وخفضت من سعر المشتقات النفطية، سيتحوّل زعيمهم، عبدالملك الحوثي، إلى بطل شعبي، مكرساً سابقة خطيرة وهي اعطاء المكونات الاجتماعية اليمنية المختلفة الحق في فرض رغباتها بالسلاح في العاصمة، مهددة السلطة المركزية.
ولو وافقت الحكومة على محاصصة حكومية جديدة تشمل الحوثيين والحراك الجنوبي، فإنها ستزيد من تعميق فكرة المحاصصة على أسس طائفية ومناطقية هذه المرة، أي أسس أكثر بدائية من المحاصصة الحزبية. وهذا نظام لن تحتمله طويلاً دولة كبيرة الحجم والسكان مثل اليمن، في ظلّ ضعف مواردها الاقتصادية وهامشية موقعها في خارطة الصراع الإقليمي، مما قد يؤدي إلى تفكك الدولة اليمنية.
أما خيار الصراع المسلح فمجرد دخول العاصمة صنعاء دائرة الصراع الطائفي، ومع حالة الحشد والتجييش الحوثي للقبائل المحيطة بصنعاء، يعني اندلاع حرب ليست بالصغيرة ولا السهلة، تحديداً مع تكريس انقسام الجيش وانهيار معنويات جنوده، بسبب التفكك القيادي واستهداف ضباطه وجنوده من قبل القاعدة. وفي هذه الحالة، مهما كانت مكاسب الحوثيين العسكرية، فلن يخسروا شيئاً بعد زعزعة هيبة الدولة وشرعيتها إلى حد مواجهة جيش الدولة داخل العاصمة.
لا يستهدف الحوثيون إسقاط العاصمة صنعاء للسيطرة عليها، في الوقت الحالي، لكنهم يسعون إلى هذا الاتجاه منذ الآن، فمطالبهم الآن تنحصر في مشاركة سياسية فاعلة تضمن لهم الهيمنة وفرض إرادتهم داخل الدولة، وكذلك اعتراف الحكومة اليمنية بإيران كلاعب إقليمي أساسي داخل اليمن، مثله مثل السعودية. وفي هذا الإطار، يسعى الحوثيون إلى الضغط على الدولة بسقف مرتفع، مستعدين لجميع الاحتمالات، فهم على أية حال مستفيدون، لكن في هذا المسار، لجني بعض المكاسب الخاصة بجماعتهم، مقابل دولة ضعيفة بهذا الشكل سوف يكون الحوثي هو القشة، التي تقصم ظهر الدولة اليمنية، وتجذر الانقسامات الطائفية والمناطقية والسلالية داخل المجتمع اليمني.