سيظل 21 سبتمبر/أيلول 2014 علامة فارقة في التاريخ السياسي الحديث لليمن، إذ في هذا اليوم دخل مسلحو جماعة أنصار الله (الحوثيون) العاصمة صنعاء، وأصبحوا المتحكم الأبرز فيها، وسط تماهٍ كبير بين سلطات الجماعة وسلطات أجهزة الدولة.
بات مسلحو الجماعة يجوبون العاصمة اليمنية طولاً وعرضاً، ويرددون صرختهم المعروفة بمكبرات الصوت، بعد أن تساقطت كثير من مؤسسات الدولة، مدنية وعسكرية، في أيديهم، وخلت العديد من أحياء العاصمة من كثير من سكانها الذين نزحوا، إما إلى الريف أو إلى الخارج أو إلى محافظات أخرى، هربا من الموت.
وقّعت الجماعة مع رئاسة الجمهورية والأحزاب السياسية الأخرى مساء الأحد، ما سمي ب"اتفاق السلم والشراكة" الذي يقضي بتشكيل حكومة كفاءات جديدة، وتخفيض أسعار الوقود، ورفع اعتصامات الحوثيين من صنعاء ومحيطها، ولم يمنع الاتفاق جماعة الحوثيين من الاستمرار في تصفية حساباتها داخل العاصمة، فقصدت بيوت مناوئيها مستوليةً على بعضها، ومفجّرة بعضها الآخر.
عادة لا تحدث مثل هذه التطورات إلا حينما يسقط رأس الدولة، لكنّ رأس الدولة واقف وصامد، ولقد وصف لحظة توقيع الاتفاق ب"المباركة"، وبدا مبتسماً.
يدور الحديث في اليمن عن دور مسهّل مارسه الرئيس عبدربه منصور هادي وقيادة الدولة المقربة منه، تم بموجبه إيصال الحوثيين الذين يسيطرون على محافظة صعدة شمالي البلاد، إلى العاصمة ومن ثم تسليمهم مؤسسات الدولة.
خاضت الحكومة اليمنية منذ عشر سنوات العديد من الحروب مع الجماعة التي أسسها حسين بدر الدين الحوثي، والتي يعدها خصومها امتداداً لتيار الإمامة الزيدية التي أُطيح بآخر دويلاتها في شمال اليمن في 26 سبتمبر/أيلول 1962.
وينتمي الرئيس اليمني الحالي عبدربه منصور هادي إلى محافظة أبين الجنوبية وكان نائباً للرئيس السابق علي عبدالله صالح منذ عام 1994. وتسلم رئاسة اليمن خلفاً لصالح عقب احتجاجات شعبية في عام 2011، وفي فبراير/شباط عام 2012 انتخب هادي رئيساً لفترة انتقالية مدتها عامان، لتنتهي فترته في فبراير/شباط الماضي، لكنه مدد فترته بموجب مخرجات مؤتمر الحوار الذي انعقد بين المكونات السياسية بصنعاء على مدى عشرة أشهر، واختتم أعماله في يناير/كانون الثاني الماضي.
خلال العامين الماضيين تجاوزت الجماعة المسلحة معقلها في صعدة، وخاضت العديد من الحروب مع القبائل والوحدات العسكرية ومنتسبي حزب الإصلاح، في طريقها إلى العاصمة صنعاء. وظل هادي يمارس دور الوسيط، لا دور الدولة القاضي بفرض النظام والقانون وبسط هيبة الدولة على الحوثيين والإصلاح على حد سواء.
أواخر أغسطس/آب الماضي، بدأ الحوثيون بإنشاء مخيمات اعتصام مسلحة على مداخل العاصمة صنعاء، وصعدوا احتجاجاتهم بإقامة مخيمات اعتصام قرب منشآت حكومية هامة، أبرزها وزارات الداخلية والاتصالات والكهرباء.
فجّر الحوثيون المواجهات في المدخل الشمالي الغربي للعاصمة بمهاجمة منازل عسكريين وقبليين في منطقة "ضلاع همدان"، ومنها توسعت المواجهات إلى أحياء شملان ومذبح والجراف ومنطقة التلفزيون، قبل أن يسيطروا على مبنى التلفزيون والمواقع العسكرية المحيطة.. ومن ثم توجهوا نحو مقر قيادة المنطقة العسكرية السادسة وحاصروها حتى نهار يوم الأحد، قبل أن يغادرها اللواء علي محسن الأحمر، الخصم العسكري الأبرز للحوثيين، وكان يعتبر الذراع اليمنى للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، قبل أن ينشقّ عنه مؤيدا ثورة الشباب 2011.
بسقوط مقر "الفرقة الأولى مدرع"، تساقطت بقية المؤسسات العسكرية والمدنية دون مقاومة. ويرى مراقبون يمنيون أن تسليم صنعاء للحوثيين هو عملية "انقلاب" بامتياز، قضى على حزب الإصلاح وعلى الجنرال علي محسن الأحمر.
وتتداول أوساط صنعاء روايات عن أن هادي استغل خلافات أطراف النظام السابق وتناحرها على ضوء الانقسام السياسي في عام 2011 ليقوّي الحوثيين على حساب مراكز القوى التقليدية في شمال البلاد، ويقوم برعاية مسيرتهم التوسعية من داخل صعدة شمالي البلاد، وحتى قلب العاصمة صنعاء.
ويخشى يمنيون من أن تغرق البلاد في صراع طائفي ومناطقي على غرار العراق بعد الغزو عام 2003. وتفتح هذه التطورات أمام احتمالات تشرذم البلاد. ولهذا يرى بعض خصوم جماعة الحوثي أن التسليم السلمي لها، يعد أقل ضررا من جعلها تنتزع السيطرة بموجب مواجهات ودماء، وذلك خوفا من تكرار السيناريو الدامي لسقوط مدينة عمران في يوليو/تموز الماضي. من هنا يعتبر بعضهم أن ما حدث بصنعاء يوم الأحد، كان أقل سوءا من المتوقع.
سقطت صنعاء بيد الحوثيين، ويبدو أن أطرافاً دولية لها يد في اللعبة السياسية الجارية في صنعاء. وكان الرئيس هادي صرح في أكثر من لقاء مع قيادات سياسية يمنية، أن إيران تسعى لمقايضة دمشق بصنعاء.
"اليوم فاتحةٌ لعصر مغاير لما سبق" كما يقول بيان الحوثيين يوم الإثنين، للتهنئة بانتصار "الثورة" التي قالوا إنها أطاحت ب"حكومة فُرضت من الخارج"، إشارة إلى حكومة الوفاق الوطني المشكلة وفقاً لاتفاق المبادرة الخليجية في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، والتي استقال رئيسها محمد سالم باسندوة، الأحد.
وبارك الحوثيون "العقد السياسي الجديد" اتفاق الشراكة السياسية، الموقع الأحد، بين الأطراف السياسية برعاية المبعوث الأممي جمال بن عمر. يُعد اتفاق "السلم والشراكة"، بنظر مراقبين، هشا للغاية، وليس أدل على ذلك من أن أغلب الأطراف وقّعت وسيف الحوثي مسلّط على رقابها في صنعاء، ويظهر أن الاتفاق مادة بديلة للتغطية عن تسليم صنعاء للحوثيين، أو أن تسليم صنعاء هو البند غير المعلن في الاتفاق، إذ إن ما يلمسه اليمنيون الآن هو تسليم صنعاء التي لا سلطة فيها لغير الحوثيين، ولا أحد يسائلهم عن اقتحام المنازل وبعض المقرات العسكرية والأمنية بعد الاتفاق، حتى أمين العاصمة (محافظ) عبدالقادر علي هلال لم يستطع استعادة سيارته التي أخذها الحوثيون وحاول مراجعتهم بإعادتها لمدة ثلاث ساعات. وجدير بالإشارة أن "هلال" كان أحد أبرز المفاوضين بين السلطة والجماعة، واتُّهم مرارا بالتعاطف مع الحوثيين.
يبدو تسليم صنعاء أمنياً وعسكرياً للحوثيين المتهمين بتلقي الدعم من إيران، نصراً استراتيجياً لطهران التي لم تتردد صحافتها في وصف "ثورة الحوثيين" بأنها ترجمة لـ"الثورة الإسلامية" وخطوة في الطريق لتطويق السعودية.
أثناء تصعيد الحوثيين على مداخل صنعاء، أجرت السعودية اتصالات مع الأطراف اليمنية، ومع الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، عبرت عن قلقها الشديد مما يحدث في صنعاء، وعلمت "العربي الجديد" من مصادر سياسية أنها عرضت على الرئيس اليمني عبدربه منصور المساعدة لصد الحوثي بما في ذلك الدعم العسكري. وقبل ذلك حاولت السعودية إحداث تقارب ومصالحة بين أطراف النظام السابق التي انقسمت خلال ثورة الشباب. لكن المصالحة توقفت عند لقاء يتيم جمع صالح باللواء محسن، في عيد الفطر الماضي بجامع الصالح في صنعاء.
ومن الواضح أن الرياض كانت كما هو الحال مع أطراف يمنية، لا تتوقع أن تجري الأمور على هذا النحو المتسارع الذي فاجأ الجميع، وهو التساقط السريع لصنعاء.. بالتزامن مع إعلان الاتفاق الجديد الذي يلغي قواعد التقاسم في المبادرة الخليجية، وكانت الرياض تعارض بشكل علني، أي اتفاق لا يقوم على مبادئ المبادرة.
لم تنتهِ اللعبة بعد، كي يتضح ما هو الخيار القادم للرياض، لكن الواضح أن إيران قطعت أشواطاً كبيرة في فرض الأمر الواقع على صنعاء. على أن هناك من يرى أن الرياض انتظرت أن ينتهي الحوثيون من تحجيم إخوان اليمن (حزب الإصلاح) لتتدخل بعد ذلك لإعادة الحوثيين إلى خارج صنعاء، وتصبح اليمن وقتذاك ساحة صراع إقليمي بين السعودية وإيران.
[b]موقف الإصلاح[/b]
ظل حزب الإصلاح الإسلامي ثاني أكبر الأحزاب اليمنية بعد حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يقوده الرئيس صالح، هدفا للحوثيين خلال مسيرة توسعهم في السنوات الثلاث الأخيرة من صعدة وصولا إلى عمران ومرورا بالجوف ثم صنعاء، كانت خسائر الإصلاح كبيرة خلال هذا التوسع المسلح للحوثيين، فآثر السلامة في صنعاء حفاظا على أرواح قاعدته الجماهيرية وصونا للممتلكات، وهو موقف لاقى ترحيبا كبيرا داخل الأوساط اليمنية ليظل السؤال معلقا: هل سيعامل الحوثيون هذا الموقف الإصلاحي بالمثل، ويقابلون السلامة بالسلامة، أم سيواصلون سياسة استهداف قيادات ورموز ومنشآت الإصلاح؟
وبالفعل لم يتأخر الحوثيون كثيرا في تقديم الإجابة، إذ داهم مسلحوهم العديد من مقرات الحزب بصنعاء من دون أن ينطق الأخير ببنت شفة. وعلق أحد الإعلاميين اليمنيين، يوم الأحد، على هذا المشهد بالقول إن "وضع الإصلاح اليوم يشبه وضع الحزب الاشتراكي اليمني بعد حرب 1994".
أحد خصوم الحزب يقول: كنا ننتظر الوقت الذي يضمحل فيه الإصلاح، ولكننا لم نشأ أن يحدث ذلك على يد ميليشيا طائفية هي أكثر تشددا منه. وهذا أيضا هو لسان حال كثيرين من خصوم اللواء علي محسن الأحمر، ورجل الدين عبدالمجيد عزيز الزنداني، رئيس جامعة الإيمان، وما يزال مكان الرجلين مجهولا حتى الآن.
ولم تعلن جماعة الحوثيين حتى الآن موقفها من الزنداني، لكنها أعلنت أن اللواء محسن "مطلوب للعدالة". وكان محسن قائدا للفرقة الأولى مدرع وقائدا للمنطقة الشمالية الغربية التي تقع في نطاقها محافظة صعدة موطن الحوثي ومكان الحروب الست التي خاضتها الحكومة ضد الحوثيين (2004- 2010) خلال عهد صالح.
[b]أين صالح؟![/b]
إلى الآن ما يزال موقع الرئيس السابق علي عبد الله صالح من أحداث الأحد التي سقطت فيها صنعاء بيد الحوثيين، غامضا إلى حد كبير، ففي حين أعلن حزب صالح وقوفه على الحياد في صراع الحوثيين والإصلاح، يؤكد مقربون كثر من صالح، أنه كان قلقا مع اقتراب الحوثيين من العاصمة، وينفون أي تنسيق بينه وبين الحوثيين لإسقاط العاصمة، مبررين انضمام مجموعات كبيرة من حزب المؤتمر الذي يقوده صالح إلى الحوثيين، بأن تلك المجموعات خرجت عن طوع الحزب، لكن مناصرين له، باتوا يرددون أن ما حدث يوم الأحد في صنعاء، كان أيضا ب"تكتيك من أحمد علي" (نجل صالح وقائد الحرس الجمهوري سابقا)، ذاهبين إلى أن الشوط الأخير من ماراثون صنعاء سيكون بين "أنصار الله" وأنصار صالح.
[b]آفاق الاتفاق[/b]
رغم كل ما حدث، ما زالت الآمال معلقة على نجاح اتفاق "السلم والشراكة" الموقّع مساء الأحد في دار الرئاسة بصنعاء، ولعل اسم رئيس الوزراء الجديد، والإسراع في تشكيل الحكومة المرتقبة، سيكونان مؤشرين إيجابيين إلى إمكانية ألا تنحدر الأوضاع في اليمن إلى ما هو أسوأ وأن تأخذ الأمور طريقها إلى الحلحلة بعد أن فرض الحوثيون أنفسهم رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بشهادة خصومهم كافة.
والواقع أن "يمن ما بعد 21 سبتمبر/أيلول 2014"، دخل منعطفا جديدا صار فيه الحوثيون طرفا ذا مسؤولية رئيسية فيه، ومطلوب منهم أن يتصرفوا وفقا لهذه المسؤولية، وإلا فالشواهد والعبر ما زالت ماثلة أمامهم ممن سبقوهم.