بعد انتظار طويل ودعوات متتالية، أعلن يوم الاثنين في مدينة عدن جنوبي اليمن عن توحيد مجلسي الحراك الجنوبي؛ تيار نائب الرئيس اليمني السابق علي سالم البيض وزعيم الحراك حسن باعوم. ويعدّ المجلسان أكبر تيارين داخل الحراك الجنوبي.
وجاء إعلان التوحد للمجلسين اللذين يتبنيان مطلب فك الارتباط عن الشمال من ساحة منصة الاعتصام في مدينة خور مكسر وسط مدينة عدن بحضور باعوم، وممثل للبيض بشخص نائبه القيادي صالح يحيى سعيد.
الاتفاق الذي جاء في ظل المساعي لتوحيد صف الحراك الجنوبي، اتفق الطرفان فيه على أن يكون البيض "الرئيس الشرعي للجنوب"، فيما يترأس باعوم مجلس الحراك الأعلى أما صالح سعيد فاختير نائباً لباعوم.
ويأتي هذا التطور بعد أيام من إعلان الحراك عن الاعتصام في ساحة العروض في عدن والتصعيد تزامناً مع التطورات المتسارعة التي يشهدها اليمن، والتي أعادت تحركات الحراك الجنوبي إلى الواجهة.
[b]انطلاقة الحراك[/b]
ساحة العروض نفسها، كانت منطلقاً قبل 7 سنوات تحديداً لأولى تحركات الحراك الجنوبي الاحتجاجية، التي بدأت باحتجاجات حقوقية مطلبية في 7/7/2007 قبل أن تتحول إلى مطالب سياسية عنوانها الأبرز فك الارتباط بين الشمال والجنوب.
قاد هذه الحركة متقاعدون عسكريون ومدنيون جنوبيون، وبدأوها بتكوين كيان رسمي كخطوة أولى، في إطار جمعيات شكلت منذ منتصف 2006 لتشمل أغلب مناطق ومدن الجنوب، في عدن ولحج والضالع وأبين وشبوة وحضرموت والمهرة، في حركة منظمة. وكانت الاحتجاجات خطوتهم الثانية، تحت مسمى جمعيات المتقاعدين، وانضمت إليهم بعض الأطراف السياسية.
ومن هنا بدأ يظهر ما بات يعرف اليوم الحراك الجنوبي والقضية الجنوبية. هذا التطور بدا نتيجة طبيعية بسبب التهميش للجنوب وتسريح عشرات الآلاف من الجنوبيين من وظائفهم بعد الحرب التي شنّها النظام السابق بقيادة صالح وحلفائه في حزب الإصلاح عام 1994 ضد الجنوب عندما أعيد فرض الوحدة بالقوة بعد توحيد شطري البلاد في 1990، في وحدة اندماجية طوعية، يقول الجنوبيون إنها فشلت.
ولّدت الممارسات الخاطئة للمنتصرين في حرب 1994 شعوراً سيئاً لدى الجنوبيين، وتحولت حياتهم إلى جحيم. هذا الجحيم حولوه إلى نار ضد النظام، وتحولت الحركة الاحتجاجية إلى حركة تمرد مدنية سلمية متعاظمة، ليس فقط ضد حكم صالح وإنما أيضاً ضد استمرار الوحدة بين شطري اليمن.
ويتهم الجنوبيون نظام صالح والشماليين، بنهب ثرواتهم وتدمير الدولة الجنوبية ومؤسساتها ونهب المعسكرات والبسط على الأراضي، وتسريح الموظفين الجنوبيين من وظائفهم في مؤسسات الدولة. فقد كانت بداية انطلاق احتجاجات الجنوبيين حقوقية مطلبية، كإعادة المسرحين والمساواة والعدل وتصحيح مسار الوحدة، لكن نظام صالح قابلها بالقمع، وسقط العشرات من القتلى والجرحى.
وتطورت حتى سقط الآلاف من أنصار الاحتجاجات بين قتلى وجرحى ليرفعوا بعدها سقف مطالبهم إلى سياسية، وبرزت شعارات التحرير والاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية، وأعلنوا التصالح والتسامح الجنوبي، لتجاوز أحداث مجازر عام 1986 التي اندلعت بين أعضاء الحزب الاشتراكي الحاكم للجنوب قبل الوحدة وقطع الطريق أمام النظام لضربهم.
من جهته، حاول صالح احتواء الاحتجاجات عبر شراء الولاءات، لكن لم يفلح في تحجيم الاحتجاجات، ولا سيما أنها كانت تتزايد وخصوصاً بعد انسداد الأفق بين المعارضة حينها والنظام وصولاً إلى حد القطيعة.
لكن النظام عاد وأوغل في قمع الاحتجاجات، ففي أبريل 2008 اعتقلت قوات الأمن 12 من قيادة الحراك الجنوبي، باتهامات مبهمة لكنها سياسية الدوافع، كالمساس بالوحدة والتحريض على الانفصال. وقامت باحتجاز المعتقلين داخل زنازين تحت الأرض لمدة ستة أشهر، إلى أن أصدر الرئيس السابق علي عبد الله صالح في سبتمبر/أيلول من نفس العام عفواً عنهم. وكان بين الزعامات أحمد بن فريد، علي الغريب، حسن باعوم، علي مُنصر، وآخرون.
وتصاعدت أعمال الاحتجاجات بعد ذلك، ولا سيما في العام 2009، فالقيادي الإسلامي الجنوبي وعضو اللجنة الدائمة لحزب المؤتمر الشعبي العام، وأحد المقربين من الرئيس السابق حينها، الشيخ طارق الفضلي، الذي ينتمي إلى محافظة أبين الجنوبية، قد أعلن الانضمام إلى الحراك الجنوبي، وهو ما أعطى الحراك الجنوبي دفعة قوية، إذ أصبح الفضلي أحد ابرز شخصيات الحراك الجنوبي، وقاد احتجاجات هي الأشد سخونة، وسقط أمام منزله في زنجبار عشرات القتلى والجرحى على يد قوات الأمن.
وعمد نظام صالح إلى إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة، إلى مناطق التوتر في الجنوب، لتخفيف حجم الاحتجاجات، وقام بقصف المدن وحاصر العديد منها، وخاصة في ردفان والضالع، والأخيرة لا تزال تخضع إلى حد اليوم لحصار، وتعتبر معقل الحراك الجنوبي الرئيسي، وسقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى، منذ انطلاق شرارة الحراك الجنوبي.
ورغم مرور الحراك الجنوبي بمنعطفات خطيرة، ومساعٍ لجرّه إلى العنف من قبل النظام السابق، للقضاء عليه وربطه بالقاعدة والإرهاب، مستغلاً انضمام الفضلي إليه، وهو الجهادي السابق في أفغانستان، وتضليل المجتمع الدولي باسم الإرهاب في الجنوب، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل. واستمر الحراك الجنوبي على نهجه السلمي، لكنه عانى من مشكلات عديدة في مقدمتها عدم قدرته على التوحد وبروز خلافات دائمة بين مكوناته، تعكس في جزء منها صراعاً على مستقبل الجنوب.
[b]باعوم... القائد الميداني[/b]
يبرز القيادي حسن أحمد باعوم، كأهم القادة التاريخيين في الجنوب، ويعتبره الجنوبيون الأب الروحي لثورتهم، ويقود الميدان وتعرض لأشد أنواع التعذيب بعد اعتقالات وتعسف تعرض لهما خلال عهد النظام السابق. ويترأس باعوم المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير الجنوب، الذي يعدّ أهم التيارات داخل الحراك وأكبرها، إلى جانب تيار الرئيس الجنوبي ونائب الرئيس اليمني السابق علي سالم البيض، المقيم في الخارج.
يعد البيض بدروه أحد أبرز الشخصيات السياسية، يحظى أيضاً بشعبية كبيرة، ويعتبره الجنوبيون "الرئيس الشرعي للجنوب"، ويترأس تيار المجلس الأعلى للحراك السلمي الجنوبي، وهو التيار الأكثر شعبية.
البيض وباعوم هما من يتحكمان في الشارع الجنوبي وقراراته بدرجة رئيسية، بالإضافة إلى كل من الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد، ورئيس الوزراء الأسبق حيد أبو بكر العطاس، اللذين يقودان تيار "مؤتمر القاهرة" ويحظيان بنفوذ، ولو أقل، وسط الحراك.
كما يبرز أيضاً القياديان محمد علي أحمد رئيس مؤتمر شعب الجنوب، والعميد ناصر النوبة الذي يُعتبر المؤسس الأول للحراك الجنوبي، وجمعيات المتقاعدين العسكريين.
وهناك أطراف فاعلة على الساحة الجنوبية كحزب الرابطة، الذي يتزعمه السياسي عبد الرحمن الجفري، والمجلس الوطني، وغيرهما من تيارات الحراك الجنوبي التي تندرج بشكل أو بآخر تحت إطار التيارات الكبيرة. كما يوجد الحزب الاشتراكي بشكل كبير، داخل الحراك الجنوبي، واغلب قادته كان ولا يزال البعض منهم ينتمي إلى هذا الحزب.
لكن في المقابل هناك أيضاً تيارات دينية داخل الحراك الجنوبي، البعض منها مؤطر كحركة النهضة السياسية، ذات التوجه السلفي، وهي الأخرى تحظى بشعبية، نتيجة للمرونة التي تبديها قيادتها في التعامل مع الأحداث، وتعتبر كأول حركة إسلامية تتبنى مطالب الانفصال.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد مكون الهيئة الشرعية الجنوبية، داخل الحراك الجنوبي ويديرها مشايخ ورجال دين، وتحظى بتوافق الكل، ولديها شعبية ونفوذ حتى في القرارات. وظهر أخيراً حلف قبائل حضرموت والعصبة الحضرمية وهؤلاء يركزون على حضرموت تحديدا.
[b]الهوية الجنوبية والخلافات[/b]
عصفت خلافات حادة داخل الحراك الجنوبي نتيجة لبعض التباينات، ولا سيما على خلفية إقامة البعض لعلاقات مع عدد من الدول الإقلمية كإيران والسعودية. وعانى الحراك أيضاً من ظاهرة التخوين التي غزت الحراك فضلاً عن ظاهرة التشكيك بنوايا بعض الأطراف والمكونات بخصوص مدى جديتها في الشعارات التي ترفع كالتحرير والاستقلال والفيدرالية، ولا سيما بعد تعدد المشاريع والخلافات حول القيادة والعشوائية التي كانت ترافق بعض الاحتجاجات.
لكن الأبرز هو الخلاف حول مسألة الهوية الجنوبية التي أثارت جدلاً واسعاً، إذ بعض الأطراف تنفي يمنية الجنوب، وتطلق عليه الجنوب العربي، فيما أطراف أخرى تؤكد أن هوية الجنوب يمنية، وهي من يجتمع الأغلب حولها.
وصراع الهوية يبرز في الأساس بين الحزب الاشتراكي وحزب رابطة أبناء الجنوب، وهؤلاء هم أكثر الأطراف التي يوجد لديها أعضاء داخل الحراك الجنوبي، وصراعهما يظهر بين الحين والآخر.
ويتبنى حزب الرابطة هوية الجنوب العربي، التي كانت موجودة إبان الاحتلال البريطاني، وينفي أن يكون هناك أي وحدة حصلت من قبل بين الشمال والجنوب. كما ينفي انتماء الجنوب للهوية اليمنية، معتبراً أن إعطاء التسمية اليمنية للجنوب جاء بعد طرد الاستعمار. ويتهم الحزب الاشتراكي ب"يمننة" الجنوب، عقب تسلمه الحكم بعد انسحاب بريطانيا نتيجة ثورة أكتوبر.
ويتهم عديدون الطرفين بأنهما السبب وراء عدم التعاطي الخارجي مع انفصال الجنوب، في ظل عدم توحد المشروع، في ظل تمسك كل طرف بمشروعه.
وارتفعت أصوات جنوبية عديدة تطالب الطرفين بإنهاء خلافاتهما التاريخية، والتركيز على وحدة الصف والهدف الجنوبي المشترك باستعادة والدولة الجنوبية، وحينها تخضع الهوية الجنوبية للاستفتاء الشعبي، والشعب هو من يحدد هويته، رغم أن البعض يطالب بحل مشكلة الهوية الآن وليس غداً، لكن أطرافاً تقول إن الأهم الآن هو "استعادة الدولة".
وطالب الناشط السياسي في الحراك الجنوبي، عبد الكريم قاسم، في صفحته على "فايسبوك"، الطرفين ممثلين بالأمين العام للحزب الاشتراكي، ياسين سعيد نعمان، الذي يزور عدن في هذه الأيام ويجري محادثات مع أطراف جنوبية من جهة، ورئيس حزب رابطة أبناء الجنوب، السياسي المعروف عبد الرحمن الجفري، من جهة ثانية، بلملمة كل طرف منهما مكوناتهما داخل الحراك، ليترأساها، وبذلك يكون لدينا مكونان واحد لأصحاب حقبة ما قبل 1967 وآخر لأصحاب ما بعد 1967، مطالباً "إياهم بتقديم رؤاهم ومشاريعهم للشعب، وهو من سيختار الذي يرتضيه لنفسه".
تعدد الهويات عكسه أيضاً ظهور "الهوية الحضرمية"، بعدما ارتفعت أصوات تطالب بالدولة الحضرمية، على اعتبار انه كانت لا توجد دولة في الجنوب، إنما كانت هناك في الجنوب دولة اسمها دولة حضرموت، ومع إشارة البعض إلى دولة ديينة تاريخياً، والتي كانت توجد في أبين.
ومع ذلك حتى الهوية الحضرمية غيرت الأوضاع حولها، بعد ظهور أصوات حضرمية تطالب بدولة حضرموت، وهذه كلها معطيات قد تؤثر على شكل مستقبل الدولة الجنوبية من دون أن يكون الجنوب قادراً على الانسلاخ من ارتباطه اليمني على غرار ما أظهرته الثورة الشبابية في عام 2011.
[b]ثورة الشباب[/b]
مع انطلاق ثورة الشباب، التي عمّت معظم مناطق اليمن بما فيها الجنوبية منها، في فبراير/شبلط من العام 2011 مطالبة برحيل الرئيس صالح، أعلن الحراك على لسان أمينه العام عبد الله حسن الناخبي حينها قبل إقصائه، وقف مطالب الانفصال بشكل مؤقت، والانضمام إلى التظاهرات والاحتجاجات التي تعم البلاد، ولم تتبن بعض فصائل الحراك هذا البيان ورفضته، مؤكدة استمرار مطالبتها بالانفصال.
وبسبب تأييد شباب الثورة في المحافظات الجنوبية للوحدة اليمنية، تعرض العديد من ساحات الاعتصام التابعة لشباب الثورة للاعتداءات المتكررة، وإحراق بعضها على أيدي ناشطي الحراك الجنوبي. وكانت المفارقة أن أول محتج سقط إبان الثورة الشبابية كان في عدن.
ومنحت الثورة الشبابية الحراك الجنوبي مساحة واسعة للتحرك، وتنفيذ أنشطته وفعاليات، وتمكن العديد من قياداته في الخارج من العودة إلى عدن.
[b]الشماعة والاستغلال[/b]
لعبت الأطراف سواء المحلية منها أو الخارجية، على وتر القضية الجنوبية والحراك الجنوبي، كحال تحالف أحزاب اللقاء المشترك (المعارضة سابقاً) ضد صالح حتى إزاحته، وهو الآخر لعب نفس اللعبة ومعه الحوثيون حتى إسقاط المشترك وخاصة حزب التجمع اليمني للإصلاح (إخوان مسلمين).
أما الرئيس اليمني الحالي، عبد ربه منصور هادي، الذي قادته ثورة الشباب إلى الرئاسة خلفاً لصالح فلعب بدوره على أوراق كثيرة مستغلاً القضية الجنوبية، لكنه في نفس الوقت دعم تحركات الحراك لإرغام الأطراف السياسية، والقوى الدولية، على إعادة صياغة الوحدة من جديد، بحيث تكون مناصفة بين الشمال والجنوب.
[b]المشاركة في الحوار الوطني[/b]
زار هادي عدن في مارس/ آذار 2013، بعدما كانت أعمال العنف في عدن ضد الحراك الجنوبي مستمرة، والتقى بعدد من قيادات الحراك بينهم القياديان محمد علي احمد واحمد بن فريد الصريمة، اللذان شكلا مؤتمر المجلس الوطني لشعب الجنوب. وتمكن هادي من اقناعهما بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، الذي انطلق في 18 مارس من نفس العام، باعتباره أهم أدوات الآلية التنفيذية، التي قدمتها الأمم المتحدة بعد تبنيها المبادرة الخليجية لحل مشكلات اليمن الكبرى، وفي مقدمتها القضية الجنوبية، بعد أن تم تعديل الدستور ليكون نصف مقاعد الحوار للجنوبيين، وخصص للحراك الجنوبي 85 مقعداً.
لكن القسم الأكبر داخل الحراك رفض المشاركة، بقيادة باعوم والبيض. وهو القرار نفسه الذي اتخذه العطاس وعلي ناصر.
أما الفريق المشارك في الحوار فلم يستمر طويلاً، إذ انسحب الصريمة بعد قرابة شهر على انطلاق الحوار ثم تبعه محمد علي أحمد، بعد أن اتهم الأخير هادي وقوى سياسية في صنعاء، بالالتفاف على القضية الجنوبية وتشتيت الفريق المشارك في الحوار، ليعود إلى عدن. وانتهى مؤتمر الحوار الوطني، وتبني الدولة الاتحادية، بستة أقاليم، اثنان منهما بالجنوب، وهو ما رفضه الجنوبيون، وخرجوا في تظاهرات ضد تلك المخرجات.
ونتيجة لتطور الأحداث في الشمال، وسقوط صنعاء بيد الحوثيين، انضم جنوبيو الأحزاب والسلطة إلى الحراك الجنوبي، وأعلنوا تبنيهم مطالب الانفصال، وفي مقدمتهم الجنوبيون المنتمون لحزبي الإصلاح والمؤتمر، وهم ينخرطون في الاعتصام المفتوح والاحتجاجات الحالية لتعاد خلط الأوراق من جديد في جنوب اليمن.