arpo28

اليمن بين مسيرتين

قارنوا بين المسيرتين وستفهمون كل شيء. بهذه العبارة اختصر أحد رواد موقع "فيسبوك" ما يجري في اليمن حالياً. المسيرتان المقصودتان ليستا سوى "المسيرة القرآنية" التي تقودها جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، ومسيرة الحياة التي نظّمت إبان الثورة الشبابية في عام 2011. وبالفعل، تختزل المسيرتان أوضاع اليمن حالياً.

"المسيرة القرآنية" تقودها جماعة تتخذ من الدين منطلقاً لها وتصور رؤيتها له على الأنها الأصح، جنباً إلى جنب مع ركونها إلى السلاح. وهو السلاح الذي استباحت فيه طوال الأسابيع الماضية محافظات البلاد الواحدة تلو الأخرى بحجج مختلفة، تارة إسقاط الحكومة والزيادة في أسعار المشتقات النفطية في صنعاء وتارة ملاحقة "الدواعش والتكفيريين" ليتمدد مسلحوها في أرجاء البلاد، محيين نعرات طائفية كما لم يسبق له مثيل، وليسقط مئات القتلى على درب هذه المسيرة.

وهي المسيرة التي تقتحم "لجانها الثورية" المؤسسات الحكومية مدججة بالسلاح بحجة الرقابة الثورية، من دون أن تملك أيّ مسوغ قانوني أو حتى "ثوري" يتيح لها ذلك.

وهي أيضاً التي لا تتردد في الحديث عن الدولة وأهميتها بينما تنهب الأسلحة الثقيلة من مؤسسة الجيش. وهي المسيرة التي يجلس قائدها العسكري، أبو علي الحاكم، وسط كبار ضباط الجيش في العروض العسكرية، بينما لا يجرؤ أيّ من هؤلاء على النظر إليه أو الاعتراض على تواجده.

وهي الجماعة التي توعز لأطفال يفترض أن مكانهم الطبيعي في المدارس بحمل السلاح والانتشار على الحواجز لتفتيش المارة. وهي المسيرة التي لا يتوانى مسلحوها عن الانتشار أيضاً في المدارس وحرمان الأطفال من حقهم في التعليم، مثلما لا يترددون في المسارعة إلى قتل من يشتبهون به، واقتحام بيوت الخصوم وتفجيرها إذا ما ارتأوا ذلك، أو حتى توجيه رسائل تهديد إلى المعارضين السياسيين أو الإعلاميين وتوقيفهم في الشوارع ومصادرة أدوات عملهم بحجة التصوير في أماكن ممنوعة أو من دون إذن.

كما أنها المسيرة التي تحولت خلال فترة وجيزة من مظلومة إلى ظالمة، ترتكب الانتهاكات من دون أيّ رادع أخلاقي أو قانوني، وتكاد تتفوق في سلوكها هذا على من كانت تنتقدهم.

أما "مسيرة الحياة"، فحكاية أخرى. قادها شباب أعزل في أوج عمر الثورة اليمنية. لم يكن يمتلك سوى حلمه بالتغيير السلمي والدولة المدنية بعد عقود من حكم علي عبد الله صالح الذي أمعن في تدمير البلاد.

سار الآلاف من المشاركين في مسيرة الحياة من مدينة تعز (الملقبة بعاصمة الثقافة اليمنية) إلى صنعاء، أي لقرابة 265 كيلومتراً مشياً على الأقدام وبعضهم حفاة، مرددين شعارات تطالب بإسقاط النظام ومحاكمته، لكنهم تعرضوا يومها للاعتداء عليهم وواجهوا الجوع على الطرقات من دون أن يثنيهم ذلك عن هدفهم الذي تجسد في ذلك الحين بالتصعيد الثوري وإعادة بثّ الروح في الحراك الثوري بعد أشهر من المراوحة.

وصلوا صنعاء وأرجلهم متورمة وتسيل منها الدماء من دون أن ينعكس ذلك على عزمهم. هؤلاء اختصروا في حراكهم أحلام ملايين اليمنيين الذين كانوا يخرجون إلى الساحات بانتظار التغيير، من دون أن يتبادر إلى أذهانهم أن ما ينشدونه في مرحلة ما بعد علي عبد الله صالح لن يتحقق ليس بفعل مقاومة قوى النظام القديم فقط بل لأن "المسيرة القرآنية" ستتولى مهمة تقويض أي فرصة لتغيير جذري في البلاد، بعدما تحولت إلى القوة الأكثر تأثيراً في المشهدين السياسي والعسكري.

هما إذن مسيرتان: الأولى تعيد اليمن إلى الوراء لسنوات، وهي مسيرة الحروب التي لا نهاية لها والمعبدة بالدماء المجانية، فيما الثانية يختصر اسمها كل ما كان تطمح إليه مسيرة الحياة، مسيرة الحلم بغدٍ أفضل لجميع اليمنيين من دون أيّ استثناء، وبعيداً عن أيّ مطامع عسكرية أو مناصب سياسية.

زر الذهاب إلى الأعلى