يكاد لا يتخلّف أحد من السياسيين اليمنيين عن حضور ندوة أو لقاء تشاوري في مدن الثلج، هم أنفسهم يتحاورون في أحد فنادق العاصمة صنعاء، ويتقاتلون في حي الحصَبة فيها، ويتبادلون البسمات والصور التذكارية في العاصمة البلجيكية بروكسل، وفي العاصمة اللبنانية بيروت، وفي المدينة الألمانية بوتسدام، والعاصمة الأميركية واشنطن.
يتهافتون على السفر، ويغيبون لأسابيع، ثم يعودون ببزّات أنيقة، وهدايا ثمينة، وتصريحات أكثر غموضاً. هذا حال نخبة اليمن السياسية والحزبية منذ أن بات في عهدة الوصاية الدولية، وقفص "الفيدرالية".
وتكمن أهمية المرحلة الحالية في وصول الدستور اليمني إلى مراحله النهائية، منذ نحو الشهر، مع وضع اللمسات الأخيرة على مسودته، وذلك في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وتزامن ذلك مع عقد لقائين أخيراً في بوتسدام وبيروت.
وشكّل لقاء ألمانيا الذي استمرّ أربعة أيام، المحطة الأبرز في الأيام الماضية، نظراً للتمثيل الرفيع المستوى، الذي حظي به، عبر مشاركة أمناء عموم الأحزاب والقيادات الهامة، تحت رعاية وزارة الخارجية الألمانية. وأشارت التسريبات إلى أن البحث تناول الحديث عن توافق جديد حول الأقاليم في اللقاء، في ظلّ رفض معظم فصائل الحراك الجنوبي التقسيم المقرّ في فبراير/شباط الماضي، والقاضي بتوزيع البلاد إلى ستة أقاليم.
وخلصت الاجتماعات يوم الأربعاء، بعشر توصيات لا جديد فيها، حثّت على تنفيذ العديد من الخطوات، المنصوص عليها في مخرجات الحوار واتفاق "السلم والشراكة". وشهد اللقاء انسحاب رئيس الوزراء الأسبق حيدر أبوبكر العطاس، أحد أبرز الشخصيات الجنوبية، قبل يوم من اختتام الاجتماعات، لإصراره على حلّ الدولتين الجنوبية والشمالية، وهو ما لاقى معارضة من ممثلي أحزاب "الإصلاح" و"المؤتمر" و"الناصري".
وفي الوقت الذي تضمّنت التوصيات دعوة إلى استمرار الحوار لـ"استيعاب وجهات نظر القوى التي لم تشارك في مؤتمر الحوار الوطني"، في إشارة إلى الحراك الجنوبي، أكدت التوصيات أيضاً على سرعة قيام "الهيئة الوطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار"، ب"التزام مخرجات الحوار". ولم تحدد التوصيات ما إذا كان ذلك يعني عدم الخوض في الدعوات الأخيرة المتعلقة بإعادة النظر في تقسيم الأقاليم وطرح رؤية الإقليمين مجدداً.
ويكتسب لقاء بوتسدام الذي نظمه "منتدى التنمية السياسية اليمني" و"مؤسسة برغهوف" برعاية وزارة الخارجية الألمانية، الأهمية أيضاً، من كونه يُذكّر بلقاء مماثل نظمته المؤسستان في العاصمة الألمانية برلين في مارس/آذار 2012، وكان أول لقاء يجمع ممثلين من مختلف القوى السياسية، بما فيها الحراك والحوثيون، وكانت مقرراته بمثابة الموجّهات العريضة، التي التزم مؤتمر الحوار بمعظم مقرراتها.
وفي موازاة لقاء بوتسدام، عُقد في بيروت يومي الثلاثاء والأربعاء، لقاء مماثل، مع تمثيل قيادي أقلّ مقارنة ببوتسدام، لكن لقاء بيروت كان الأكثر وضوحاً في تحديد موضوع نقاشاته ب"تعدد الأقاليم"، وخرج بالعديد من التوصيات التفصيلية في هذه المسألة، وكان أبرزها، اقتراح عدم تضمين الدستور قيد الصياغة، عدد الأقاليم، واقتراح النظام الرئاسي للمركز والنظام البرلماني للأقاليم، وغير ذلك من التوصيات، التي توحي بمجملها أن موضوع الأقاليم لا يزال محل خلاف.
وبعيداً عن مواضيع النقاش والمقررات، تُعد اللقاءات السياسية اليمنية المنعقدة خارج البلاد، ظاهرة ملفتة تلقى انتقادات، إذ سبق اللقاءين الأخيرين، لقاء في واشنطن، شارك فيه ممثل عن الحوثيين للمرة الأولى، وسبقه كذلك لقاء في بروكسل. ولا تعتبر نتائج هذه اللقاءات ملزمة للقوى والأحزاب المُمثلة فيها.
وتعدّ اللقاءات المتكررة انعكاساً للأزمات والتعقيدات السياسية المستمرة، وانعكاساً للخلاف على قضايا محددة، ك"القضية الجنوبية" و"الفيدرالية"، وتجاوزت الأحاديث مبدأ "وجود الأقاليم" و"الفدرلة"، بل باتت جزءا من النقاشات، وبات الاختلاف محصوراً حول عدد الأقاليم وتفاصيلها، كما يتمّ التعامل مع "الفدرلة" وكأنها أضحت من المسلمات. على الرغم من أن استمرار الخلاف حولها يعد تعبيراً عن كونها استجابة لرغبات أطراف سياسية، وليس حلاً ضرورياً لمشكلات في الواقع.
وكان لافتاً في لقاء واشنطن الشهر الماضي، ما أعلن عنه السفير الأميركي في اليمن، ماثيو تولر، أخيراً، وأكدته مصادر سياسية لـ"العربي الجديد"، من أن "سفارة واشنطن رفضت منح، الأمين العام لحزب الإصلاح، عبدالوهاب الأنسي، تأشيرة للمشاركة في اللقاء، في الوقت الذي منحت فيه السفارة تأشيرة لممثل الحوثي علي العماد". الأمر الذي دفع بعض المحللين لاعتبار هذه اللقاءات رمزية وتعبر عن توجهات الجهات المنظمة ومواقفها تجاه القوى، بصورة أو بأخرى.
وأياً كانت درجة أهمية اللقاءات المتنقلة بين العواصم، يبقى الواضح أن عبارات التقارب والتوصيات الخاصة بشكل الدولة وما شابه، بعيدة عن الواقع الذي ينحدر بعيداً عن الدولة وتنتعش فيه الميليشيات والأزمات. ولكنْ في المقابل، تكسر هذه اللقاءات الحواجز بين القوى وتصنع جواً إيجابياً بين قادة المكونات السياسية المختلفة يخفف من حدة الاحتقان.