تفاجئك الجوف، أرضاً وسكاناً، بسلام لطالما قرأنا نقيضه في الأخبار القادمة منها، وهي الأخبار التي جعلت العنف ماركة مسجلة باسمها، ويتم التعاطي معه باعتباره خصلة جينية للجوفيين، وليس ظاهرة اجتماعية فرضتها ظروف ومتغيرات البيئة المحيطة.
رغم ما حبتها به الطبيعة من أرض خصبة لديها مقومات ثروة زراعية وحيوانية، وتكتنز في جوفها ماء ونفطا، تقبع الجوف تحت أنياب الفقر والجهل والمرض، وينالها بقسوة إهمال الدولة التي ابتهج السكان لغيابها، ويقولون إنها لا تحظر لديهم إلا لاستدعاء المشاكل وتغذية الثارات، فيما تستنزف الحروب طاقات وأرواح الناس هناك.
الجوف ما تزال لغزاً مستحكما يستدعي المغامرين لاكتشافه وكشفه. ترى كيف تمضي الجوف تفاصيل حياتها اليومية؟ هذا ما حاولت "الشارع" البحث عنه، فشدت الرحال إلى الجوف.
السفر إلى الجوف يشبه الليلة الأولى في الزواج، حيث الخوف والإثارة. الصورة النمطية المحفورة في المخيال الشعبي تعزز بفاعلية شعور الرعب الكاذب؛ غير أنها مسألة وقت حتى تخلع الجوف حجاب غموضها (بكل ما علق به من حرب وموت وقطع طرق)، كاشفة عن وجهها الجميل والمتعب.
رحلة إلى الخوف
يلزمني التحلي بجسارة الموت قبل الشروع في هكذا سفر. "ايش بتروح تعمل؟! بيخطفوك!". ردة فعل واحدة سمعتها من أشخاص عدة، حين علموا وجهتي المفاجئة. كان عليَّ، طيلة الطريق، أن أروض نفسي على الخوف، ولم أشأ أن يكون أول عهدي بالجوفيين سوء فهم.
لم يكن السائق "محسن" سعيدا وهو يصافحني، بل غاضباً دون ابتسامة، بعد أن تأخرت عن موعد التحرك المتفق عليه. "والله قطعت فينا"، قال بعد أن اعتذرت له عن تأخري. لم أفهم على وجه الدقة معنى جملته؛ لكني فهمت من تعابير وجهه أنها نوع من العتاب، لذا واصلت اعتذاري.
الحقيقة لم تخفني فكرة الحرب أو الموت، فنحن معتادون على ذلك حتى في العاصمة؛ إنما تهيبت "مرمطة" السفر، خصوصا بعد ما تجرعه الزميل محمد مسعد في مارب، قدرت أني سأنال مثيله عند الجيران، فوشائج القربى متغلغلة بين مارب والجوف. ورغم الحدود المشتركة وتقارب اللهجة والثقافة؛ إلا أن الجوف حرمت حتى من أسلاك كهرباء المحطة الغازية القادمة من مأرب. وعلى عكس كثير من مناطق جارتها، تبيت الجوف كل ليلة في الظلام.
في "الهيلوكس" الجديدة، جلس جواري رجل ثلاثيني كان يقول في التلفون: "كلفت تسعين ألف، الجرام بـ7800". فهمت أنه يتحدث إلى زوجته، ويبدو أنه كان يبشرها بشرائه للذهب. يحمل الرجل ملامح المودة، وسيؤكد لي ذلك حين يصبح مرشدي طول طريقي إلى الجوف. في الأمام، إلى جوار السائق، كان هناك رجل آثر الصمت طول الرحلة. لم يتحدث إلا ليعترض على قيمة أجرة السيارة، بينما سلمنا، أنا وجاري، الجالسين في الخلف، بالسعر ودفعناه دون نقاش. كانت ملامح وحرص الرجل الجالس جوار السائق يدلان على أنه ليس من الجوف.
الساعة الثالثة والنصف عصراً، نحن على الحدود الشرقية لصنعاء، نعبر جبال "نهم"؛ تارة تحاذينا مستعرضة طولها وظلالها، وتارة نقتحمها بمشهد مهيب، حيث يقطع الأسفلت أحشاء الصخر ويمر عبره. تتدحرج السيارة بطريق دائري فتبدو كأرنب أبيض وقع في معدة ثعبان بني، قبل أن تعود بنا إلى طريق مستقيم في الجنوب الشرقي للعاصمة حيث تقع الجوف، التي يتعين علينا أن نقطع 174كم كي نكمل "تخزينتنا" فيها.
بعد مضي نصف ساعة، سألت جاري: أين أصبحنا؟ أجاب: "في نهم". وأوضح أن ما كنت أشاهده على يسار الطريق هو "معسكر دهرة"، التابع لما كان يُعرف بقوات الحرس الجمهوري المنحلة. أضاف الرجل: "هذا المعسكر حق احمد علي، ما قدروا له حتى في الثورة الأولى حق الإصلاح. الآن هو مع الحرس، حتى بهذي الثورة ما دخلوه أنصار الله". كان اللافت تسليم جاري بمصطلح "الثورة"، ونسبها إلى من يدعيها دون تشكيك.
قطعنا عشرات الكيلومترات، استوقفتنا فيها خمس نقاط تفتيش يرابط فيها مسلحون حوثيون. نقطة تفتيش أخرى كسرت روتين "الصرخة"؛ إذ كان يقف فيها عسكري بنصف "ميري". على الأرجح ما يزال طفلاً، والمؤكد أنه لم يأت كي يقف وحيداً في نقطة التفتيش هذه، فخلفه يقع "معسكر الفرضة". "هذا المعسكر كان تبع المشترك. الآن ماسك له جيش"؛ نبهني دليلي في الرحلة بمجرد أن رآني أتلفت بريبة نحو المعسكر. لقد أظهر اجتهادا كبيراً في مهمته هذه، لذا توجب عليَّ ذكره هنا. اجتهاد دليلي لم يتوافر عند الحوثيين، لذا عجزوا عن دخول هذا المعسكر، وانصاع الجميع لحل يقضي بتسليمه لقوات من الجيش.
الجبال النهمية بالكاد انتهت، وتبدلت التضاريس المحيطة بنا بشكل مفاجئ. كنت قد شردت محتفظا بصورة الجبال الشاهقة، ثم استعدت تركيزي على رمال منبسطة؛ ظننت للحظة أن الجبال قد دُكت من حولي. كنا قد وصلنا، هابطين من الجبل، إلى منطقة "المفرق"؛ وسميت كذلك كونها بمثابة مفترق الطريق بين الجوف ومأرب. يقود الطريق الرئيسي إلى الشرق نحو مأرب، فيما يؤدي الطريق الآخر على اليسار نحو الجوف.
في "المفرق"، يرابط مسلحون حوثيون ملامحهم تشير إلى أنهم من أبناء الجبال؛ وهذه ليست صدفة، فقد لاحظت أن جميع من التقيت بهم في الجوف من القيادات الميدانية ل "أنصار الله" (الحوثيين) ينتمون إلى صعدة، فيما مقاتلوهم من الجوف ومناطق ومحافظات أخرى اعتادوا أداء وظيفتهم القتالية كإتقان دليلي لمهمته، والذي أشار لي إلى أثار الدمار المحيطة بنا، بعد أن انعطفنا شمالاً نحو الجوف، ومررنا بقرية "مجزر" التابعة إدارياً لمحافظة مأرب.
سلكنا طريق الجوف، وبعد مسافة بسيطة وصلنا إلى "معسكر الصفراء"، وهو كان موقعاً عسكرياً يتبع قوات الجوف سيطر عليه مسلحو تجمع الإصلاح بعد عام 2011، ثم سيطر عليه مسلحو الحوثي، منذ أشهر.
هنا دارت بين مسلحي الإصلاح والحوثيين معارك ضارية، وصلت إلى منطقة "براقش"، وهي منطقة أثرية كانت عاصمة الدولة المعينية. يتذكر الناس هنا -بحنين- دولة أجدادهم الغابرة. وبمقدورك أن تلمس استياءهم من تغييبها إعلاميا مقارنة بجارتهم السبئية. الجوفيون يقارنون أنفسهم دائماً بمارب، ويقيسون مستوى الضيم الذي يتعرضون له من خلال الامتيازات التي حظيت وتحظى بها مارب.
كلما قطعنا متراً واحداً نحو الجوف ازدادت رهبتي من التجربة. صحيح أن دليلي التطوعي منحني انطباعا جيدا عمن سأقابلهم، وعن الجوف؛ لكني احتفظت بقلق غير مبرر. الساعة تقترب من السادسة. دخلنا إلى مديرية "الحزم"، عاصمة المحافظة: بيوت متواضعة تقترب من الفقر، وبشر قليلون يقضون مهامهم على عجل. لا يبدو عليها شيء من آثار الفوضى والحروب التي جرت هنا. مبنى المحافظة يشبه بيتاً شعبياً، ومستوصفها يشبه بوفيه. حتى سور "معسكر الحزم" -الواقع في قلب عاصمة المحافظة- يشبه سور مدرسة يُراهن مديرها عليه لمنع هروب طلابه.
شاهدت مبنى مدرسة رابضا في طرف مدينة الحزم، كبيت مهجور. من الطبيعي أن تهجر؛ فنحن قد كنا في المساء؛ غير أن دليلي أكد لي، فيما بعد، أن هذه المدرسة مهجورة في أغلب الأحيان.
على طول المدينة، لا شيء يشي بحضور الدولة، أو حضور حياة طبيعية، وفق الحد الأدنى من شروط العصر الحديث. لم أشاهد في مدينة الحزم شعارات "الصرخة" الحوثية، وقيل لي إن هذه المدينة مازالت قبلياً تحت سيطرة تجمع الإصلاح، الذي قاتل لأجلها بضراوة، ونجح، عبر اتفاقيات قبلية مع الحوثيين، في الإبقاء عليها في قبضته، بعد أن انفلتت كثير من المديريات من بين يديه، منها "الغيل"، لوجود حاضنة شعبية رحبت بمقاتلي الحوثي.
مع نهاية مدينة الحزم انتهت رفاهية الأسفلت. بدأنا السير في طرق مغبر عبدته مشاوير السيارات. كان المساء قد خيم بشكل كامل، وأحاط بنا ظلام لا تشقه إلا أضواء السيارات. نصف ساعة تقريباً حتى وصلت إلى "المتون"، المديرية التي أبهرتني وأحببتها. يفترض أن أقيم هنا، حيث تطوع أحد الأصدقاء لاستضافتي. هاتف سائق "الهيلوكس" ووصف له الطريق، فأوصلني إلى باب منزله.
صديقي هو عبد الهادي العصار، أحد شباب "الثورة" الذين عرفتهم عبر "فيسبوك". كان نائب مدير مكتب وزارة حقوق الإنسان في الجوف، واستقال من منصبه بعد أن رأى فيه ضربا من "الاستحمار"، في ظل الأوضاع التي تعيشها محافظته. كوّن، مع بعض الشباب، ما سماه "الحراك المعيني". قال إن معين بالنسبة له ولأترابه "كأسطورة الساموراي عند اليابانيين". استقبلني "عبد الهادي" بحفاوة كبيرة، رغم أنه كان هذا لقائي الأول به.
يقيم "عبد الهادي" في منزل متواضع -وفق معايير المدينة- أمام برج إرسال لشركة "يمن موبايل". يتولى الإشراف على هذا البرج، لذا ينعم منزله بكهرباء لا تنقطع. وحده من يحظى بهذا الامتياز على امتداد الجوف.
لم يتسن لي رؤية مديرية المتون في ظلامها الدامس، لذا دلفنا إلى منزل "عبد الهادي"، وأكملنا التخزينة. بعد دقائق، انضم إلينا قريبه "محسن"، الذي كان قد بدأ لتوه تخزين القات، وهذه عادة من المدينة. فعلاً كان "محسن" من شباب القرية الذين سكنوا المدينة. هو يدرس الإعلام في عامه الثاني، حيث قرر أن يلتحق بهذا الحقل بعدما أكمل دراسته في أحد المعاهد الصحية، ومازال يتردد، حتى اليوم، على القرية ليمارس دورا سياسياً فيها؛ ذلك أنه عضو في الحزب الاشتراكي اليمني، بل كان عضوا في اللجنة التحضيرية للكونفرنس الأخير الذي عقده الحزب في صنعاء. بدا "محسن" منتشيا بالحديث عن حزبه، وفاجأني "عبد الهادي"، خريج كلية الآداب، بميوله الاشتراكية. لم أبدِ لهم توجهي اليساري، واكتفيت بالاستماع إلى أحلام العدالة والمساواة الإنسانية من أفواه جوفية... حتى غالبني النعاس، واستسلمت له في منتصف الليل. أويت إلى الفراش وقد بددتْ المفارقة أكوام الخوف التي سكنتني.
جمال وبؤس
صباح الاثنين الماضي، استفقنا جميعا على صوت انفجارات عنيفة. بدا لي كما لو أني سأغطي أول حرب في حياتي. "يا رفيق، لا تقلق، ما فيش شي!"، طمأنني "عبد الهادي". تناولنا "الصبوح"، وخرجنا إلى القرية نتفقد تفاصيلها. لم تكن صحراء قاحلة مثلما تصورت. إنها كنز مطمور من الأراضي الزراعية. بيوت القرية كلها من الطين. اتضح أن رفيقي "عبد الهادي" هو البرجوازي الوحيد في القرية.
طبيعة الناس والأرض جعلتني أنحي عملي الصحفي جانبا (بكل ما يترتب عليه من لقاءات رسمية)، مؤثرا التجوال كسائح مندهش. الجوف فيها من التربة الزراعية ما يمكن، لو استغل، أن يطعم سكان اليمن. وبعكس الصورة النمطية عن كون هذه الأرض صحراوية، تنقسم تضاريسها الجغرافية إلى جزأين: صحراوي في الشمال الشرقي، حيث ترتفع نسبة الفقر والبطالة، وزراعي في الجنوب الغربي، حيث الوضع الاقتصادي أفضل.
هذا التنوع البيئي قسم الجوفيين إلى بدو ينتشر فيهم العنف والفقر ونسب الجريمة، وزراعيين يعيشون نوعاً من الاستقرار ومستوى وعي أفضل. وهؤلاء يمثلون غالبية السكان في الجوف، التي يصل إجمالي سكانها إلى نحو نصف مليون نسمة. وتبلغ مساحة الجوف حوالي 39495 كم2، وتنقسم إلى 12 مديرية.
جال بي "عبد الهادي" في مزارع عدة. وفي الطريق كانت هناك مئات الأمتار من الأشجار اليابسة، اتضح أنها يبست جراء الإهمال، بسبب ارتفاع المشتقات النفطية. في نهاية تسعينيات القرن الماضي، قامت الحكومة بدعم المزارعين بمولدات كهربائية ومضخات ماء، وجنت هذه المزارع في الجوف، حينها، غلة وافرة من الحبوب والفواكه؛ لكن الدولة انقلبت على أعقابها، ولم تكتف برفع يدها عن دعم المزارعين، بل عمدت إلى رفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية، لذا هجر كثير من المزارعين الزراعة، مستسلمين للفقر، والسلاح، الذي صار مصدر دخل مهماً لهم. منهم من واصل الزراعة مستبدلا تلك المحاصيل بنفط المحافظة الأخضر: القات. جلنا في مزارع "المتون"، وكان حضور القات طاغياً على امتداد المساحات الخضراء. بضعة أمتار شذت عن القاعدة وظهرت مزروعة بأشجار البرتقال.
الجوف صالحة لأن تكون خضراء، ولديها مخزون كبير من المياه الجوفية يسد عطش البشر والشجر، فمعظم مياه السيول القادمة من المحفظات الجبلية تصب هناك. كما تتوافر في الجوف الأيدي العاملة والمناخ المناسب. لا مشاكل تعكر صفو المحافظة سوى ما ترسله العاصمة من مصائب قتلت الأرض والإنسان. حكى لي أحد مشايخ المنطقة كيف كانت الأسلحة تصرف من "معسكر الحزم"، إبان حكم الرئيس السابق، لأفراد قبيلتي "الشولان" و"همدان"، الذين ظلوا يخوضون جولات حروب بسبب ثأر لم يكتب له النهاية إلا عام 2011، حين نضب الدعم وراجع الناس حساباتهم.
يد السوء التي كانت تمدها السلطة لإذكاء النزاعات وتغذية العنف والقتال، صاعدت سلطة رجال القبيلة بشكل أكبر، وحجبت وجود الدولة باعتبارها كيانا مهمته تقديم الخدمات للمواطنين وصون مصالحهم وحمايتهم؛ لذا يحتفي الجوفيون بأي وافد، خصوصا إن علموا أنه صحفي، رغبة منهم في إطلاعه على مآسيهم ومشاكلهم. لذا اصطحبني عدد من الشباب في جولة أخرى تقفيت فيها تفاصيل مديرية "المتون". بيوت كلها من الطين، وأطفال يلعبون وقد أدخلوا قمصانهم الطويلة في سراويلهم، ورجال بوجوه نحيلة وعظام بارزة وأجساد لا تعرف التخمة.
تجولنا على امتداد المناطق المأهولة في المديرية، حيث حضرت علامات الفقر وغابت آثار الحرب. اتضح لي أن "المتون" جُنبت نيران الحرب الأخيرة بين الحوثيين والإصلاحيين، بعكس مديرية "الغيل"، التي اقتتل أهلها فيما بينهم، حيث بلغ الاستقطاب الطائفي هناك حده الأقصى، فاصطف "الأشراف" مع جماعة الحوثي، واصطف "المحابيب" مع الجانب الآخر. واستعرت الحرب مخلفة عشرات القتلى والجرحى، ومئات الأسر النازحة التي وصل عددها إلى 350 أسرة، تمكنت "الشارع" من الاستماع إلى معاناة إحداها.
تعايش الفرقاء
"المتون"، رغم ردائها القروي، تعيش حالة من التعايش الديمقراطي. هنا تجمع "الديمقراطية" مقاتلي الحوثي وتجمع الإصلاح في مجلس واحد، ثم تفرقهم في جبهات القتال على أطراف المحافظة، في المعارك الأخيرة. وكثير من الأسر هنا يتوزع أبناؤها على مختلف القوى والتوجهات السياسية.
وقت الظهيرة، زرنا منزل الشيخ صالح العصار، القيادي في حزب الرشاد الإسلامي، وخطيب مسجد مركز المديرية. بعد تحدثي إليه، فهمت أنه شيخ قبلي متدين أكثر من كونه رجل دين قبلي. إلى ديوان منزله الكبير، تقاطر جمع غفير من سكان القرية. قيل لي إن هناك مأتم؛ لكن الميت ليس من أسرة "العصار"، بل من أسرة أخرى في القرية؛ غير أنهم لا يثقلون على أهل الميت بوجبة الغداء، ويستقبلون العزاء في هذا الديوان. "الرسول قال: أعدوا لآل جعفر غداهم؛ لهذا احنا نتكفل بغداء أهل الموت، مش العكس"؛ أوضح لي "عبد الهادي"، قبل أن يعرفني على ضيف آخر في المجلس، كان هو المسافر الصموت الذي رافقنا على سيارة "الهيلوكس" من صنعاء. اتضح أن هذا الرجل من عمران، جاء إلى "المتون" كي يشتري "جرب" (مزارع) قات؛ فمع البرد القارص في "أرحب" وعمران وصعدة، تزدهر سوق بيع مزارع القات في الجوف، بحكم اعتدال الجو هناك.
جلست لتناول الغداء جوار رجل أربعيني ملامحه ولكنته تشي بأنه ليس من سكان المنطقة. تحدث مفسراً الانفجارات التي سمعناها في الصباح: "كانت مناورة لأصحابنا في براقش.. يجربوا السلاح. احنا معانا حرب كبيرة مع الفساد والدواعش". قال الرجل ذلك، ثم انتبه إلى الغريب الذي بجانبه. سأل من أكون، فردوا عليه: "هذا صحفي من صنعاء". فعدل جلسته والتفت نحوي طالباً أن أجري معه لقاء صحفيا، وعرفني باسمه: "أنا ابو منير، المسؤول الثقافي لأنصار الله بالجوف". عرفت أنه ينتمي إلى محافظة صعدة، وجاء إلى "المتون" في مهمة استقطاب لجماعة الحوثي.
"أبو منير" يسكن حالياً، برفقة عائلته، في مبنى متهالك كان مدرسة للبنات في "المتون"، لهذا اضطرت فتيات مركز المديرية للدراسة بعد الظهر في مدرسة البنين.
لم يُقدم لي "أبو منير" أي جديد، وظل يسرد الكلام الروتيني للبروبجندا الحوثية، بشقيها السياسي والديني؛ لكنه أفصح، في ثنايا حديثه، عن اعتزام جماعته دخول مارب؛ "لتطهيرها من الفساد والدواعش"، ولا يستبعد أن مناورات الصباح كانت ضمن استعداداتهم للمعركة الكبرى القادمة في مأرب. سألته عن المشرف العسكري الميداني لجماعة الحوثي في الجوف ككل، فقال لي إنه يدعى "أبو عمار"، وهو الآن في صنعاء، وبالطبع فهو أيضاً من صعدة.
بعد ذلك، جلست لأتحدث مع الشيخ صالح العصار، مسؤول مؤسسة الصديق بالجوف، إلى جانب أنه قيادي في حزب الرشاد السلفي. في البداية، سألته عن تواجد حزب الرشاد في الجوف، فقال إنه "جيد"، وأبدى رضاه عن هذا التواجد، وقال إن قواعد حزبه في تزايد في الجوف. ومن خلال حديثه، تبين أن حزب الرشاد يعمل هنا بطابع قبلي، ويركز على تقديم المساعدات الاقتصادية للناس، نتيجة تدهور مستواهم المعيشي، ويرجع حضوره "الجيد" إلى هذا الأمر، مع تنحية الخطاب الطائفي قدر الإمكان.
بين جميع من التقيتهم، كان الشيخ صالح وحده من أثنى على الوضع في الجوف. استفسرته عن أي وضع يقصد، فأجاب بثقة: "الوضع الأمني، والوضع الاقتصادي هنا طيب، أهل الجوف عايشين مأمنين انفسهم بانفسهم اقتصاديا، والقبايل مؤمنة أمنيا، أما بخصوص الوضع المزري للاقتصاد فهذا ما يروجه الإعلام.. احنا عندنا في تكافل اجتماعي، كل أسرة تشوف من المحتاج وتدعمه، والمستطيع يعاون اللي مش قادر، مثل السلف الصالح، بعكس أخواننا في العواصم اللي متعبين مادياً وأمنياً، خصوصا من بعد الثورات التي نفشتنا وخربت الأمة".
لم يكتف الشيخ صالح بنقده اللاذع لثورات الربيع العربي، بل أعرب عن رضاه في حال عاد علي عبد الله صالح إلى حكم اليمن؛ لكنه حمل "صالح" ونظامه مسؤولية المعارك الثأرية التي سبق أن دارت في الجوف، حيث كان يدعم أطراف الصراع: "هم كانوا عارفين ان الجوف ما بيحكمه أحد وأهله متجمعين، لذا فرقونا".
تحدث الشيخ صالح بحصافة مدركة عن الدور السياسي لحزبه، وقال إن "دوره اقتصر على المصالحة ونبذ الصراع"، محملاً تجمع الإصلاح وجماعة الحوثي مسؤولية الحرب التي دارت في الجوف. قاطعته مشككا بما قاله؛ كونه يتناقض مع ما رشح إلينا من معلومات تقول إن السلفيين وقفوا مع تجمع الإصلاح، باعتبارهم الظهير السني لهم، في مواجهة من يدعونهم ب "الروافض". نفى الرجل ذلك، وأخذ يستعرض "تسامحه السياسي"، مشيرا إلى جاره "أبو منير" الذي يأكل من طعامه، ويخزن في مجلسه، "وهو من خارج المحافظة"، ثم أردف قائلاً: "احنا ما قاتلنا على أساس طائفي، نحن قاتلنا من يعادينا. في الجوف حوثيين أهلا وسهلا بهم؛ لكن من يجينا من صعدة غازي بنحاربه، ومن يجينا ضيف بنحطه فوق رؤوسنا.. الحوثي حاول أكثر من مرة يدخل الجوف ويدسع رقابنا؛ لكن أهل الجوف صدوه، وان كان يريد مارب فالطريق من صنعاء لمارب سالكة".
إشارة الشيخ صالح إلى رغبة الحوثي بدخول مارب تستحق التوقف؛ فالمتتبع لخارطة الصراع يجد أن أكثر المناطق التي احتدمت فيها الحرب داخل الجوف كانت مديرية الغيل الحدودية مع مارب. وشهدت هذه المديرية معارك عنيفة بين الحوثيين والإصلاحيين، الذين خاضوا أيضاً معارك عنيفة في مديرية مجزر، التي تتبع مأرب إدارياً، إلا أنها تتداخل قبلياً وجغرافياً مع الجوف.
ومن خلال زيارتي إلى الجوف، وجدت أغلب التواجد الحوثي المسلح قد تكثف في "مفرق الجوف ومارب"، وهو ما يدل على أن الجوف بالنسبة للحوثي مجرد محطة سينطلق من خلالها إلى الكنز الأكبر: مأرب. وبعد أن تمكن مسلحو الحوثي من حسم الحرب في الجوف، سيطروا على كثير من مديرياتها، ووقعوا اتفاقات مع مديريات أخرى لتأمين الطرقات، وضمان حق المنتمين إليهم في العمل الثقافي والتنقل الآمن. وبسبب هذه السيطرة، لم يعد يضر الحوثي بقاء مديرية الحزم، ومدينة العزم، عاصمة الجوف، تحت السيطرة الاسمية لتجمع الإصلاح.
كان الشيخ صالح ممن قاتلوا، قبل أشهر، لفك الحصار الحوثي على سلفيي منطقة "دماج"، الواقعة في صعدة. لكنه في قريته آثر السلم والتعايش. قال لي بلهجة فيها نوع من المسؤولية: "لو نشتي نتقاتل نروح جبهات القتال، ما في داعي ندخل المديرية بالصراع، وقرانا ما فيها إلا نسوان وأطفال، أما اللي هو رجّال واحمر عين يروح جبهات الحرب".
للشيخ صالح شقيقان، أحدهما قيادي في المؤتمر الشعبي العام، والآخر في تجمع الإصلاح. هنا عرفت لمَ يكون السلم الخيار الأنسب في "المتون"؛ ذلك أن الحرب تعني أن تقتل أخاك.
استدعى الشيخ صالح شقيقه (حمد العصار)، العضو في مجلس شورى تجمع الإصلاح. بخلاف الشيخ صالح، كان شقيقه "حمد" أكثر حدية في حديثه؛ إذ لم يضمر حقيقة مواجهتهم الصريحة لتواجد الحوثي في الجوف. وظل يردد عبارة: "الجوف أهل قتال منذ ولدتهم امهاتهم، ولن يقبلوا بتجبر الغريب عليهم".
الشيخ حمد العصار وصف وضع المحافظة ب "المشلول"؛ لكنه دافع عن المحافظ المنتمي إلى حزبه، مشيرا إلى زهد "بن عبود" في المنصب، وتقديمه لاستقالته أكثر من مرة؛ إلا أن الرئيس هادي رفضها، حسب قوله. وحين تطرقنا إلى الحرب التي دارت في الجوف مع الحوثيين، اشتدت لهجة الشيخ حمد، وارتفعت نبرته، وقال: "الحوثي لا يريد يحكم البلاد، ولا يريد يسلم البلاد من شره. وشوف احنا سواء الحوثي أو غيره لن نقبل أن يأتي أحد يتسلط علينا؛ لكن الحوثي أصلا ما يحمل للناس مشروع دولة، هو يحمل مشروع موت، الحوثي يشتي يهين الناس".
لم يكن حمد العصار راضيا عن أداء حزبه، انتقده بشكل لاذع، واصفا إياه ب "المتهاون"، وأرجع أسباب التمدد الحوثي في عموم محافظات الجمهورية إلى تراخي حزبه في مواجهته منذ عمران وصنعاء؛ لكنه استدرك: "نحن نلوم القيادات في صنعاء على خطأها؛ ولكننا لا نشكك فيهم".
تبرُّم الشيخ حمد العصار من تجنب تجمع الإصلاح للمضي في قتال جماعة الحوثي، يعود إلى طبيعته القبلية التي تربط قيم الرجولة بالسلاح، لذا أكد أن حزبه سيحشد بكل ما أوتي من قوة للذود عن الجوف في وجه أي غازٍ. هذا الرفض الجوفي للقادمين من صعدة لم أسمعه على لسان الشيخ حمد وشقيقه صالح فقط، بل سمعته حتى من الاشتراكيين والمستقلين خلال زيارتي هذه. وقد أبدى المنتمون لشتى القوى السياسية استعدادهم للقتال على أساس مناطقي وقبلي، وليس طائفيا. أما المؤتمريون الذين التقيتهم فقد كانوا يتهربون من الإجابة، ويؤثرون الصمت.
قبل أن أختم حديثي، قال الشيخ حمد: "احنا نشتي مدنية، ونشتي تعايش، ولو يريد أحد يحكم الجوف يجي بالطرق الرسمية، أهلا به، احنا لا طائفيين ولا إقصائيين، أنا مثلا قيادي إصلاحي وابني اشتراكي" (لاحقا اكتشفت أن رفيقي الاشتراكي "محسن" ابنه).
توجهت بعدها إلى منزل صديقي "عبد الهادي"، حيث أكملنا مقيلنا. كان هناك شابان قدما برفقة بعضهما، الأول يدعى "عوض"، والثاني "حمد". كلاهما يحمل بندقيته ويحتزم ذخيرة رصاص، إلى جوارها هاتف لاسلكي. "عوض" إصلاحي، و"حمد" حوثي. قالا لي بفخر: "احنا نخزن بمقيل واحد، وأيام الحرب نتحرك بسيارة واحدة إلى الجبهة، وكان كل واحد يروح في جهة". "عبد الهادي" لمس ما عشته من اندهاش، هو مزيج من البهجة والألم، ولم أعرف أهذا جيد أم سيئ! قال لي "عبد الهادي": "يا رفيق، بقدر ما هو مؤلم أن يتقاتل الإخوة فيما بينهم، بقدر ما هو جيد أن جنبنا نار الحرب مديرية المتون، اللي فيها كل ألوان الطيف السياسي؛ لأنها بمثابة المركز الثقافي للمحافظة، الذي يتواجد فيه أغلب القيادات الحزبية. عشان كذا نحن في الحراك المعيني نريد أن نرفع من المطالب المتعلقة بالجوف، كي نذوب أي نزوع طائفية؛ على الأقل، الجوف تجمعنا".
فقر وجهل وجريمة
مديرية "المتون" قدمت لي صورة شبه وافية عن المشهد السياسي في المحافظة، لكن خارطة الوجع تتطلب التجوال أكثر في كل تضاريس الجوف. لذا توغلنا في الجهة الشرقية الشمالية للمحافظة، باتجاه منطقة "اليتمة"، مركز مديرية "خب الشعف"، لنخطف زيارة عابرة. كان من الصعب أن نمكث هناك، أو نتفقد تفاصيل المنطقة بشكل فاحص، فذلك قد يتطلب يوما كاملا أو أكثر، لكننا ألقينا نظرة على أهم ملامح الصحراء الجوفية.
على امتداد الطريق الترابي، تنتشر كثبان رملية في خط مستقيم. تسمى هاته الكثبان ب"العروق"، وهي كثبان تفصل الصحراء اليمنية بجارتها السعودية. غير أنها لم تحل دون أن يصلها مهربو الحشيش والمخدرات، حيث تزدهر هذه التجارة في المناطق الصحراوية الحدودية التي تفتقر إلى مصادر الدخل وخدمات الدولة.
كان لـ"الشارع" فرصة لقاء سريع مع مهرب سابق للحشيش. قال هذا الرجل إنه تاب عن العمل في هذا المجال. جئناه وهو يلاعب طفله. طلبنا منه الحديث باستفاضة، لكنه تحت ضغط الإحراج تحدث إلينا على عجالة، بعد أن التزمت له بعدم ذكر اسمه. رفض أن يترك ابنه ليصب مجمل تركيزه في هذا الحديث. قال إنه يعوض أطفاله ما جرعهم من سني حرمان حين لم يكن يراهم إلا وسيارته على باب المنزل "مشغلة" ليقضي أمرا سريعا ويعود إلى مهمته الخطيرة.
كان هذا الرجل من فقراء "اليتمة"، عاش، وإخوته، الفقر والمر، فلاذوا إلى تجارة الحشيش، وظلوا يعملون على تهريبه إلى الجارة الكبرى (السعودية) بأسعار خيالية. ويقول إن كل ذلك كان يتم ضمن تواطؤ من أجهزة الأمن اليمنية والسعودية في أحيان عدة. ما كانت إلا سنة واحدة، حتى غادر الخيمة، التي كان يسكنها وأسرته، إلى "فيلا"، سكنه الجديد. وليس وحده من فعل ذلك؛ ففي "اليتمة" يعيش مهربين للحشيش والمخدرات في "فلل".
يقول هذا الرجل إن قصة توبته عن العمل في تهريب الحشيش بدأت عقب موت صديق له كان في نفس عمره. حضر إلى مأتمه، واستمع إلى رجل دين تحدث عن الموت والآخرة، فقرر التوقف عن تهريب الحشيش. سأل عما الذي سيفعله بما جناه من مال، فقيل إنه "لا يجوز له التبرع به، أو العيش منه". لكنه لم يمتثل إلى هذا الأمر، وظل يعتاش منه حتى اليوم، فيما يحثه إخوته على استئناف نشاطه في تهريب الحشيش. إلا أن الرجل مازال يرفض ذلك، ويصر على أن يصون توبته دون زلة ضعف، بيد أنه لم يحسب حساب الأيام القادمة. عندما سألته عن خططه المستقبلية عقب انتهاء ما لديه من نقود، لم يجب علي بشيء، إلى الآن يحافظ صديقنا على صلاته امتثالاً لنصيحة رجل الدين، لكنه قد يرضخ لمطالب إخوته الذين مازالون مستمرين في تهريب وبيع الحشيش، إلا أنهم لا يتعاطونه. وفي عموم الجوف، لم يدخل الحشيش بعد إلى قوائم "الكيف"، ومازال يحافظ على حضوره كتجارة مربحة.
حديثنا عن الحشيش أعاد إليّ ذكرياتي في إنجاز تقرير صحفي سابق عن تجارة الحشيش في عدن، والدخان الذي استنشقته هناك بسبب جلوسي مع باعة حشيش، فعاودني صداعه الموجع. طلبت من "عبد الهادي" أن يمر بنا على صيدلية، فضحك وقال: "ما بتلاقيش هناك (بانادول) لكن بتلاقي مادة صحفية، بالنسبه لك كلاهما علاج". كان صادما منظر الصندقة التي تقوم في "اليتمة" بوظيفة الصيدلية. تناثرت على رفوفها الأدوية، فتذكرت بقالة "المتون" التي كانت أكثر ترتيبا منها. يبدو أن صحراء الجوف تتطلب من ساكينها مناعة فولاذية، فقد تلقى حتفك من جراء إسهال حاد.
مدرسو مدرسة "المتون" يتركون طلابهم ويعودون لمشاهدة مسلسل تلفزيوني
في المساء، جاءنا زائر إلى منزل "عبد الهادي". رجل في الستين من عمره، له شكل مهيب لا يدل على الفقر، لكن حدسي كان خاطئاً؛ إذ تبين أنه يعاني من وضع إنساني مزر. إنه ممن يحافظون على هندامهم، لأن الفقر لا يعني لهم "البهذلة". يدعى هذا الرجل "صالح" وهو يأخذ زوجته أسبوعيا إلى مارب، حيث أقرب مستشفى حكومي، وقال إنه ينفق، في كل زيارة طبية، ما يربو عن 100 ألف ريال. مبلغ خيالي، سألته من أين يأتي به فأجاب: "رجال الخير كثير، والأغلب أنا أتسلف". أوضح أن حجم الديون المعلقة في رقبته تصل إلى مليوني ريال. والغريب أنه قال، خلال الحديث معه، إنه لا يحمل هم العودة إلى المستشفى في مأرب، بقدر رغبته في شفاء زوجته التي تربطه بها عشرة 30 سنة.
زوجة العم صالح تعاني من حصوات في الكلى، وغدة في رقبتها قيل إنها سرطان، ولكنها ليست الوحيدة التي أصيبت من أفراد أسرته بهذا المرض؛ فابنه البكر يعاني من نفس المرض، ويتحمل والده هم وتكاليف علاجه. ما يثير الإعجاب هو الجلد الذي أظهره هذا الرجل، لم يستجد على الإطلاق، وحتى في نبرته لم يظهر آثارا للتعب.. يعالج أفراد عائلته دون منّ أو همّ سوى رغبته أن يشفوا بسرعة.
حرضني العم صالح على زيارة مستوصف المديرية، الذي وجدته أشبه بمطعم شعبي في صنعاء. تنقصه الأوليات الطبية، ومع ذلك يتقاطر عليه أفواج المرضى. رغم عجزه، يعد هذا المستوصف الأفضل في المحافظة. أمام المستوصف، تقع مدرسة "المتون" الابتدائية والثانوية. دخلناها في الساعة الحادية عشرة ظهراً، حيث كان الطلبة في فصولهم، لكنهم لا يتعلمون؛ إذ تركهم المدرسون وعادوا إلى غرفتهم لمشاهدة التلفاز. لقد تصادفت زيارتنا للمدرسة مع عودة التيار الكهربائي، فترك المدرسون الطلاب وعادوا إلى غرفتهم لمشاهدة التلفاز. وحين تفقدنا غرفة المعلمين وجدناهم يستلقون أمام التلفاز يتابعون مسلسلهم اليومي، ويتناقشون بجدية حول مستجداته ومجريات أحداثه. لم يبالوا حتى بكوني صحفيا، واستمروا في متعة مشاهدة المسلسل.
كان من الجيد أن ثمة طلبة في هذه المدرسة، حتى وإن لم يدرسوا بشكل جيد، وحتى وإن تركهم معلموهم وعادوا لمشاهدة مسلسلهم اليومي! كنت أتوقع أن أجد هذه المدرسة وقد تحولت إلى مأوى لنازحي مديرية "الغيل" المدمرة عن بكرة أبيها بسبب الحرب الأخيرة، لكن النازحين تشعبوا في الوديان واتخذوها سكناً، فيما سكن بعضهم الخيام، فيما وجد المحظوظ منهم بيت قريب يأويه.
صراخ أطفال ورائحة طبيخ في عيادة في "الحزم"
في طريق عودتي، مررت مجددا بمديرية ومدينة الحزم، وهناك التقيت رب إحدى الأسر النازحة، يدعى ناجي علي سعيد، وينتمي إلى "قبيلة المحابيب". حكى لي سبب الحرب التي اندلعت بينهم وبين الحوثيين في "الغيل". قال إن السبب كان تصوير أحد افراد قبيلته لعملية إرهابية نُفذت هناك ضد نقطة تفتيش وتجمع حوثي. عندما عرف الحوثيون بالأمر، اعتقلوا قريبه الذي قام بعملية التصوير وعذبوه، متهمين إياه بالمشاركة في الجريمة؛ ما أثار حفيظة "قبيلة المحابيب". بعدها، جرى توظيف الحادثة سياسيا لتنتج انقساماً اجتماعياً حاداً تطور إلى إندلاع حرب مدمرة استمرت 87 يوماً في "الغيل"، انتهت بسيطرة مسلحي الحوثي على هذه المديرية وعلى مديرية الجوف، بشكل كامل.
نزح ناجي علي سعيد، وأفراد أسرته، إلى "الحزم"، بعد أن تدمر منزله. وبفضل مساعدات من أقاربه، تمكن الرجل من استئجار منزل في "الحزم" مكون من غرفتين. وفي هذا المنزل المكون من غرفتين يعيش ناجي علي مع أفراد أسرته البالغين 18 شخصاً، فأطفاله الصغار أعجز من تحمل برد الخيام.
ناجي علي اتهم الحوثيين بالسطو على مزارع وأراضي وبيوت في مديرية "الغيل"، كما تهكم من أداء منظمات المجتمع المدني، التي تقدم للنازحين في الجوف الكماليات، كالصابون، دون أن تهتم بتقديم الغذاء والمساكن لهم.
التقيت بناجي علي أثناء زيارته لعيادة طبيب نزح مثله من "الغيل" إلى "الحزم". الطبيب يدعا معين فيصل علي، وهو من ابناء لحج، كان موظفا حكوميا في المستوصف الطبي الواقع في "الغيل"، وقد تدمر منزله وعيادته في "الغيل" بسبب قصف ما أسماه "القوات الحكومية"، فنزح إلى "الحزم"، حيث استأجر غرفتين يسكن وأسرته في إحداها، ويستخدم الثانية كعيادة.
حين دخلت عيادة الطبيب معين فيصل لم أشتم رائحة الأدوية، ولم أسمع صراخ المرضى أو أنين المرضى؛ وإنما كان الطاغي صراخ أطفاله ورائحة الغداء الذي تعده زوجته في حوش العيادة.
كان من المفترض، يومها، أن التقي محافظ الجوف، محمد سالم بن عبود الشريف، بعد أن رتب لي مدير مكتبه موعدا لإجراء لقاء خاص معه؛ بيد أن قرار إقالته الصادر من الرئيس هادي سبقني إليه. كان علي أن أفكر في طريقة للقاء المحافظ الجديد، الذي لا ينتمي إلى أبناء المحافظة، وهو الأمر الذي يثير سخط كثير من شباب الجوف، الذين قرروا السفر إلى العاصمة صنعاء والتظاهر للمطالبة بإسقاطه، وتعيين آخر من ابناء المحافظة.
هي بادرة جميلة من شباب طامح؛ لكن المشكلة تتمثل في أن بعض أبناء الجوف يعلون تعصبهم القبلي على المناطقي. ومهما كان حجم امتعاضهم وغضبهم، فإنه لا يتبلور إلى فعل سياسي، بسبب خشية كل قبيلة من أن يكون منصب المحافظ من نصيب قبيلة غيرها في ذات المحافظة. لذا يبرز هنا عُرف "تحكيم الغريب" كحلٍّ مقبول يمثل أهون الشرين.