لا يُمكن حصْر العام الثقافي في الدوحة في حقل واحد، أو القول إنّ حقلاً ثقافيّاً بعينه تميّز أكثر من غيره. فعالياتٌ ومستجدّاتٌ كثيرة شهدتها العاصمة القطرية، على صعدٍ مختلفة، أبرزها ورشة التأسيس لمشاريع طويلة الأمد.
بعد إغلاق باب تلقّي المُشاركات في "جائزة كتارا للرواية العربية"، ينافس 711 نصّاً روائيّاً على نيل الجائزة التي أطلقتها بداية هذا العام "المؤسسة العامة للحي الثقافي - كتارا". وبحسب القائمين عليها، فإنها تهدف "إلى ترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربياً وعالمياً، ورفع مستوى الاهتمام والإقبال على قراءة الرواية العربية وزيادة الوعي الثقافي المعرفي". ولعلّ اللافت في الأمر، أنّ المسابقة خصّصت فرعاً للروايات غير المنشورة التي بلغ عددها 475 نصّاً.
على صعيدٍ آخر، يجدر الوقوف عند مشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية". ورغم أن هذه المؤسسة انطلقت في 25 أيار/ مايو 2013، إلّا أن التطورات التي شهدتها هذه السنة، واستمرارية المشروع وطول مدته، يفرضان نفسهما للتوقّف عنده.
يوثّق "معجم الدوحة" ويؤرّخ المفردات والألفاظ العربية ودراسة تطوراتها الدلالية على مدى عشرين قرناً من الزمن. وبحسب إدارة المشروع، يستغرق إعداد هذا المعجم التاريخي قرابة 15 عاماً من العمل، على مراحل يجري عرض إنجازاتها كل ثلاث سنوات.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" هو مؤسسة علمية لغوية انبثقت عن "معهد الدوحة للدراسات العليا"، الذي أسّسه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" هذا العام.
يفتتح المعهد عامه الدراسي الأوّل في 2015 مقدماً مقترحاً أشبه بالتحدي لما يمكن أن تعنيه جامعة عربية. سيقدّم المعهد برامج الدراسات العليا (الماجستير) في كل من كليّتيّ "العلوم الاجتماعية والإنسانية"، و"الإدارة والسياسات العامة واقتصاديات التنمية". ومن المنتظر أن يتراوح العدد الإجمالي للطلّاب الملتحقين به بين 350 و400 طالب، وذلك مع انطلاق الدراسة تدريجيّاً على مستوى الدكتوراه، بدءاً من السنة الجامعية 2017 - 2018.
وفي رسالته الأكاديمية، يشير المؤسّس، عزمي بشارة، إلى أنّ المعهد يهدف من خلال برامجه في التدريس والتعلم ونشاطات أساتذته البحثية، "إلى المساهمة في تكوين جيلٍ جديدٍ من الأكاديميين والباحثين المتمكّنين من المعايير العلمية العالميّة والأدوات البحثية المنهجية الحديثة، والقادرين على الدفع قُدُماً بالمعرفة الإنسانية والاستجابة إلى حاجات المنطقة العربية في سبيل التطوّر الفكري والثقافي والاجتماعي، في جوٍّ من الحرية الأكاديمية المسؤولة الداعمة التفكير المستقلّ والابتكار، والمحفّزة على الارتقاء بالتفكير النقدي التأمّلي المسؤول".
إلى جانب ذلك، يتبنّى المعهد استخدام اللغة العربية كلغةٍ رئيسة للدراسة والبحث مدعومة باللغات الحيّة الأخرى. ويعمل أيضاً على المساهمة في متابعة تطويرها لتكون هي وسيلة الاتّصال المهني والعلمي في حقول الدراسة كلّها، ولتتفوّق في دقّتها ومرونتها على اللغات العالمية الأخرى.
وفي هذا السياق، أطلقت "مكتبة قطر الوطنية" مشروع "مكتبة قطر الرقمية" التي تتيح الاطلاع على نصف مليون وثيقة متعلقة بتاريخ قطر ومنطقة الخليج العربي والعلوم العربية والإسلامية.
وعودةً إلى "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، فنتوقّف عند إصداراته في 2014، التي تنوّعت بين كتب فكرية وأبحاث تاريخية، إضافة إلى ترجمات. فضمن "سلسلة ترجمان"، أصدر المركز كتاب "فلاحو سوريا: أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم" للمؤرخ الفلسطيني الراحل حنا بطاطو بتوقيع المترجمين عبد الله الفاضل ورائد النقشبندي. يعدّ الكتاب مرجعاً لفهم التاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة، إضافة إلى قيمته البحثية من ناحية المنهج الذي اتبعه بطاطو في وضعه.
كما أصدر المركز الطبعة الثانية من كتاب "الجماعات المتخيّلة"، للباحث البريطاني بندكت أندرسن بترجمة ثائر ديب. الكتاب هو من الدراسات الأساسية للباحثين في مسألة الهوية والقومية. ومن الترجمات الأساسية التي من المهمّ وضعها على رفوف المكتبة العربية، كتاب "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي" لوائل حلّاق وترجمه عمرو عثمان، ولعل أبرز إصدارات المركز هو الجزء الثاني من ثلاثية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" للمفكر العربي عزمي بشارة الذي صدر في مجلّدين هذا الشهر.
من جهتها واصلت دار "قطر بلومزبري"، أحد مشاريع "مؤسسة قطر" تقديم إصدرات أدبية معتنىً بها.
أما على مستوى الفنون التشكيلية، فقد تواصل الحراك متمثلاً في جُملةٍ من المعارض لفنانين عربٍ وأجانب، منها المعرض الشامل لتجربة الفنان الأميركي ريتشارد سيرّا الذي نظمته "هيئة متاحف قطر"، مباشرة بعد معرض الفنان البريطاني ديميان هيرست. في أعماله، يقترح سيرا مجسّمات فولاذية متفاوتة الأشكال والأحجام، تتفاعل مع محيطها وتتطلب من المتأمل حدساً بصريّاً يستبطن تناقضاتها وإشاراتها، وقد توزّعت على ثلاثة أماكن: متحف "الفن الإسلامي" و "كتارا"، إلى جانب محميّة "بروق" الصحراوية التي احتضنت عملاً بعنوان "شرق غرب/ غرب شرق". تعكس هذه الأعمال قدرة الفنان على تحويل الأشياء الثقيلة إلى مجسّمات تبدو وكأنها خفيفة وحالمة ومعدومة الوزن؛ إذ يرتكز في تصميمها على قوانين الجاذبية. فكلّ مجسّم يدعم نفسه بنفسه، من دون اللجوء إلى صهر أطرافه ولحمِها ببعضها بعضاً.
أمّا سينمائيّاً، فيمكن الوقوف عند الدورة العاشرة من مهرجان "الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية" التي انطلقت في نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، بمشاركة 161 فيلماً وثائقياً، من 60 بلداً عربياً وأجنبياً.
ذهبت جوائز الأفلام، بمراتبها الأولى، إلى ثلاثة مخرجين فلسطينيين. فعن فيلمه الوثائقي الطويل "الحكواتية"، حاز محمد الصواف الجائزة الأولى. وعن "أوتار مقطوعة"، حاز أحمد حسونة جائزة الأفلام القصيرة عن فئة "أفلام الأسرة والطفولة"، فيما حازت بهية نمور جائزة "لجنة التحكيم" عن شريطها "ولن أموت لاجئاً".
وعلى صعيد سينما الشباب، أقيم "مهرجان أجيال السينمائي"، الذي ضمّ مشاركات شابّة من العالم العربي بهدف تطوير مهارات التصوير والإخراج لديهم، وإذكاء روح التفاعل الثقافي والعصف الذهني بين الشباب المتطلّعين إلى العمل في مجال صناعة السينما العربية.
المشاريع والتظاهرات التي احتضنتها الدوحة هذا العام، في حقولٍ فنية ومعرفية متنوّعة، تؤشر إلى سعيها نحو الاستمرارية في إثراء الجانب الثقافي خلال السنوات المقبلة.