سنحت الفرصة، يوم الجمعة الماضية، لأبرز قوتين إقليميتين محسوبتين على ما بات يُعرَف ب"المحور الإيراني" في المنطقة، حزب الله وحركة الحوثيين، لكي يستعرضا حلفهما الضمني، من دون خجل ولا مواربة. حلفاً كان ينتظر حدثاً يمنياً جللاً كالذي حصل، ليظهر حتى التماهي في المنطق المشترك بين الطرفين، الذي يفترض أن فائض القوة يجعلهما قادرين على استخدام مصطلحات وتعميم أدبيات، لا يريان حاجة في شرحها أو مراجعتها، على اعتبارها بديهيات، بما أن القوي هو من يحدّد المعاني ويضع التعريفات، وإن موقتاً وإلى حين. أمكن تتبّع موسوعة المفاهيم التي تعتمدها جماعة الحوثيين في اليمن، منذ بدء الفصل الأخير من انقلابها العسكري ذات سبتمبر/أيلول الماضي، وطوى صفحته الأخيرة يوم الجمعة بما سماه "الإعلان الدستوري"، وقد لاقى حزب الله حليفه منذ أول الطريق، عبر تهليل إعلامي عبّر عنه تلفزيون "المنار" التابع للحزب اللبناني.
يبدأ الحديث من ذلك البيان الانقلابي الحوثي الذي أريد تسميته دستورياً، وهو نصّ مقتضب، جرى الترويج له بكل أدوات التشويق الإعلامي و"التشبيحي" (الاستعراضات التي لم تتوقف قناة المسيرة عن عرضها منذ صباح يوم الجمعة). تشويق توسّل وسائل القطاع الخاص التابع مباشرة للجماعة، وذلك العام الذي بات خاصاً تحت سلطة سلاح "أنصار الله".
كان الأجدى تسمية الإعلان الدستوري المؤلف من 16 بنداً، بمانيفستو الحكم العسكري الفردي، فهو نصّ وضعته ميليشيا مسلحة ليكون فوق الدستور اليمني "الطبيعي"، بدليل أن الشاب المجهول (بربطة عنق لا تكفي لإبعاد الأجندة الإيرانية عن تنظيمه) الذي تلا البيان الثوري، أوضح أن النصّ يحترم الدستور بشرط ألا يتعارض الأخير مع بنوده الـ16، أي بكلام آخر، أبطل مفعول الدستور برمّته انطلاقاً من تعريف أي دستور في العالم، على اعتبار أنه القانون الأساسي الذي لا يسمو عليه ولا يناقضه نصّ ولا اتفاقية ولا معاهدة. النصّ الحوثي الذي تُلي من القصر الرئاسي الواقع تحت سلطة التنظيم المسلح تحت شعار مواصلة ثورة الشباب 2011، يسخر من العقول بما أنه كانت تتم قراءة بنوده بموازاة اعتقالات في شوارع صنعاء لمتظاهرين منددين بالانقلاب من صفوف تيار الثورة، وإطلاق النار عليهم، وعلى وقع اقتحام صحف معارضة للحوثيين. سخرية أخرى حفلت بها دقائق تلاوة نص البيان الانقلابي المسمى "إعلاناً دستورياً"، ترجمها إحضار وزيري الداخلية والدفاع المقيمين منذ أسبوعين في الإقامة الجبرية، لإجلاسهما في الصفوف الأمامية من دون النيل من عبوسهما، ومن دون السماح لهما بالحديث لا للإعلام ولا على المنبر طبعاً. باختصار، كان مشهد القصر الرئاسي، يوم الجمعة، أسوأ من مشاهد ما قبل ثورة 2011، بما اختزنه من عدم حاجة التنظيم الحوثي إلى ديكور تعددي ليحكم باسمه، مثلما كان علي عبد الله صالح يبرع في ممارسته طيلة ربع قرن حكم فيه منفرداً حيناً، وبمظلات أحزاب حليفة وجبهات أحياناً. كان المشهد أسوأ مما قبل فبراير 2011 لأنّ الانقلاب الحوثي، ومحاولة إسباغ الشرعية عليه، يأتي من خارج الدولة لتحل محلها أطر موازية رديفة، بأسماء مختلفة: الدستور بات "الإعلان الدستوري". الجيش أصبح اسمه "اللجان الشعبية" التي باتت تسيطر على كل ذخيرته وسلاحه الثقيل والمتوسط والخفيف. البرلمان صار "المجلس الوطني". رئاسة الجمهورية استحالت "المجلس الرئاسي"، وزارة الداخلية أمست "اللجنة الأمنية العليا" وجميعها بتعيين من السلطة العسكرية، اي اللجان الشعبية (العسكرية)، التي يقودها محمد علي الحوثي. أمام هذا المشهد، يمكن للحوثيين طبعاً توجيه التحيات التي لا تنتهي للجيش اليمني، وهي تحيات موجهة لأنفسهم عملياً.
قد يعتبر كثيرون أن لا داعي للعجب، إذ إن للانقلابات العسكرية قوانينها، وإنه من الطبيعي أن تسعى الجهة المنقلِبة إلى الترويج لممارستها على اعتبار أنها عملية جراحية إنقاذية للبلد، أو تصحيحية لما هو سائد ومصوًّر على أنه الشر الأكبر، وخصوصاً في مكان كاليمن، الفاشل على جميع الصعد رغم الأمل الذي بثّته ثورة شبابية ظلت سلمية في أكثر بلد ينتشر فيه السلاح غير القانوني على الصعيد العالمي. قد يكون كل ذلك طبيعياً، إلا أن غير الطبيعي، لا بل المستفزّ لليمنيين عموماً، هو طريقة تعاطي الإعلام المحسوب على إيران مع أحداث اليمن. فمساء الانقلاب، قررت قناة "ألمنار" التابعة مباشرة لحزب الله اللبناني، المحسوب طبعاَ بشكل مباشر على إيران أيضاً، إخراس كل الأصوات التي لا تزال تحاول أن تثبت وجود مسافة ما بين الحوثيين وحزب الله من جهة، والنظام الإيراني من جهة ثانية. خرجت "المنار" عن ادعائها الرصانة، واعتبرت نفسها "أم الصبي" حيال ما يحصل في صنعاء خصوصاً، واليمن عموماً، حيث الأكيد أنه فقط "بفضل" الحماسة "الثورية" لقناة حزب الله في التعاطي مع الشأن اليمني، أصبح بعض شيعة لبنان يعرفون أن الحوثيين في اليمن شيعة أيضاً، من دون أن يدركوا أن شيعية الزيديين مختلفة عن شيعيتهم هم، إلا إن كانت طهران قد أسقطت نموذجها المذهبي الخاص على حلفائها في اليمن، مثلما فعلت حيال عدد كبير من شيعة لبنان.
ولما حان موعد نشرة الأخبار المسائية، الجمعة، جاءت كل مقدمة نشرة المنار (التي تعبر عن سياسة تحرير كل وسيلة إعلامية مرئية ومسموعة) عن أحداث صنعاء بلغة احتفالية لا شبيه لها إلا الاعلام الحربي الذي يبرع فيه الحزب أيام العدوانيات الإسرائيلية. وضعت مقدمة نشرة الأخبار "الإعلان الدستوري" في مرتبة "مقاومة الاحتلالِ البريطاني والتدخلِ الخارجي". لا أحد يعرف كيف بالتأكيد وما الرابط ومن هو الجهة المحتلة في الحالة اليمنية المعاصرة؟ تتابع مقدمة النشرة بالقول إن "الشعبُ (اليمني) قالَ كلمتَه: نعم للدولةِ الحرة، الحاضنة للجميع، لا للإقصاءِ والتبعية والتدخلِ الاجنبي، الشعبُ مصدرٌ للسلطاتِ وغايتُها"، وهي "مفرداتٌ على افتراقٍ مع أدبياتِ وممارساتِ بلاطاتِ دولِ المحيط" على حد تعبير قناة حزب الله الذي يبدو أنه بات وكيلاً شرعياً للحديث بالنيابة عن إيران في حالات الرغبة بتفادي "الإحراج الدبلوماسي"، مثلما ظهر جلياً عندما خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بخطاب عن البحرين شبّه فيه قيادة المملكة بالقيادة الصهيونية، مهدداً بذلك بحصول كارثة اجتماعية اقتصادية على عدد كبير من العمالة اللبنانية في المملكة النفطية الصغيرة.
خرجت نشرة "المنار" بمقارنة غريبة تشبّه الإعلان الحوثي عن حكمهم الفردي العسكري (ممثلاً باللجان الشعبية التي تعين كل مؤسسات ما بعد الانقلاب)، باتفاق عقده الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وزعيم التيار الوطني الحر، أكبر التيارات المسيحية في لبنان، ميشال عون، عام 2006، في مثل أيام الانقلاب الدستوري للحوثيين، أي في 6 فبراير/شباط أيضاً، لإرساء تحالف طائفي شيعي ماروني يخلف تحالفاً تاريخياً ثلاثياً بُني لبنان على أساسه، هو التحالف الماروني السني الدرزي.
تواصل مقدمة نشرة الأخبار المسائية التصعيد إزاء خصوم الحوثيين جرياً على شعور حزب الله بالقدرة على الاستقواء في كل مكان، داخل لبنان وخارجه. يصل الحال بإعلان موقفٍ من قناة حزب الله، لم يكن ينقصه سوى التهديد بالتدخل العسكري في الضالع والحديدة والبيضاء ربما، فتقول مقدمة النشرة: "لا بدَ أنه (الاعلان الدستوري) سيُرجَمُ من بعضِ المتضررينَ الحانقين، وما أكثرَ من لا يريدونَ لليمنِ أن يكونَ ذلكَ اليمن السعيد، اليمنَ القويَ الموحَّدَ الغنيَ بمواطنيه".