ترسم قصة استقالة الرئيس عبد ربه منصور هادي، المقدمة قبل أسبوعين، وبقائه رهن الإقامة الجبرية بمنزله في صنعاء بعد سقوط دار الرئاسة بيد مسلحي جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فصلاً مأساوياً جديداً في المسلسل التراجيدي المتعلق بعملية نقل السلطة في اليمن، بوصفها معضلة لا تزال دون حل.
وإن كان مصير الرئيس اليمني الحادي عشر محزناً، إلا أنه أقل مأساوية من مصير رؤساء يمنيين سابقين، بعضهم أنهى فترة رئاسته قتيلاً، وآخر سجيناً أو هارباً أو منفياً أو معزولاً بفعل ثورة شعبية. وهي قاعدة ظلت تدمغ التاريخ السياسي اليمني الحديث لأكثر من خمسة عقود. ولعل الاستثناء الوحيد منها هو الرئيس عبد الرحمن الأرياني (1967 - 1974).
[b]الانقلاب على قادة الثورة[/b]
شهد اليمن عامي 1962 و1963 ثورة ضد نظام الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب، نتج عنها قيام نظامين جمهوريين، الأول في شمال اليمن في سبتمبر/أيلول 1962، برئاسة المشير عبد الله السلال، والثاني في الجنوب في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، برئاسة قحطان الشعبي، بعد جلاء المستعمر البريطاني. ورأس السلال اليمن الشمالي في فترة بالغة الصعوبة بسبب المعارك مع قوات نظام الإمامة، الذي كان يطمح للعودة، قبل أن يُطاح به عبر انقلاب أبيض، أثناء قيامه بزيارة إلى العراق في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، ولم يعد حينها إلى اليمن إلا بعدما تداول على الحكم من بعده ثلاثة رؤساء.
ومع انقلاب "5 نوفمبر"، صعد الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني. وواجهت العاصمة صنعاء، في الشهور الأولى من حكمه، ما سمي بحصار السبعين يوماً، الذي أطبق فيه الإماميون الحصار على صنعاء، غير أنّ الجمهورية صمدت، ليكون هذا الحصار آخر معارك الجمهورية مع الإمامة. وعقد الإرياني مصالحة نهائية مع الإماميين في عام 1970 تم بموجبها اعترافهم بالنظام الجمهوري، والسماح لمن يريد منهم العودة للبلاد باستثناء أسرة آل حميد الدين التي كانت حاكمة قبل 1962.
ويعد انقلاب "نوفمبر" خليطاً من تحالف قوى بعثية وقبلية أطاحت بالتيار الناصري برئاسة السلال، لكن التيار الأخير استطاع لملمة صفوفه بعد سنوات من الانقلاب، وذلك عبر القائد العسكري الشاب إبراهيم محمد الحمدي، الذي كان جاهزاً لتولي السلطة مع رفاقه الضباط، بعد تقديم القاضي الإرياني استقالته لرئيس مجلس الشورى عبد الله بن حسين الأحمر، الذي استقال، بدوره، وقدم الاستقالتين معاً لنائب رئيس هيئة الأركان الحمدي الذي أصبح رئيساً لشمال اليمن منذ 13 يونيو/حزيران 1974.
وفي عدن عاصمة جمهورية اليمن الجنوبي، تسلم زعيم "الجبهة القومية" قحطان الشعبي رئاسة البلاد بعد توقيعه اتفاقية الجلاء مع بريطانيا في تاريخ متزامن مع صعود الرئيس الإرياني في الشمال. ولم يصمد الشعبي في الرئاسة سوى سنتين، قام بعدها جناح موال للاتحاد السوفييتي بإقصائه عن السلطة وإجباره على تقديم استقالته في يونيو/حزيران 1969، ثم إيداعه السجن في مارس/آذار من العام 1970، ومات الرئيس الشعبي سجيناً بعد 12 عاماً من تنحيته عن السلطة.
[b]اغتيال 3 رؤساء في عام واحد[/b]
خلف الشعبي في الرئاسة سالم رُبَيّع علي (سالمين) الذي قاد بدوره جنوب اليمن إلى التحالف التام مع المعسكر الشرقي بزعامة موسكو، في حين كان الشمال اليمني محسوباً على المعسكر الغربي بزعامة واشنطن، الأمر الذي جعل شطري اليمن على خط التماس في الحرب الباردة بين المعسكرين. وتبعاً لذلك، اندلعت أول حرب شطرية بداية السبعينيات، انتهت بتوقيع الرئيسين سالمين والإرياني، أول اتفاقية للوحدة في مدينة طرابلس الليبية.
وبعد إجبار الإرياني على الاستقالة في الشمال نشأت علاقة خاصة بين الرئيسين سالمين والحمدي، اللذين قطعا خطوات كبيرة باتجاه إنجاز الوحدة بين الشطرين، إذ تم توحيد المناهج التعليمية الابتدائية وتوحيد السلك الدبلوماسي وكثير من مؤسسات الدولتين، ولم يتبق سوى رفع علم الوحدة يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1977. غير أنّ الرئيس الحمدي اغتيل قبلها بيومين، وتوجهت أصابع الاتهام لنائبه أحمد حسين الغشمي الذي خلفه على السلطة. ولم يستمر الأخير في منصبه أكثر من تسعة أشهر، تم اغتياله هو الآخر في 24 يونيو/حزيران 1978، عبر حقيبة مفخخة قيل يومها إن نظام عدن هو من أرسلها إليه. وبعد يومين فقط، قام رفاق الرئيس سالمين في عدن بتصفيته بتهمة التورط باغتيال رئيس الشطر الشمالي. وهكذا فقد شهد اليمن بشطريه مقتل ثلاثة رؤساء في أقل من تسعة أشهر بين عامي 1977 و1978.
بعد مقتل الرؤساء الثلاثة، تولى السلطة في جنوب اليمن عبد الفتاح إسماعيل في ديسمبر/كانون الأول 1978، وفي صنعاء علي عبد الله صالح الذي تولى زمام الحكم بعد فاصل قصير تسلم الحكم فيه القاضي عبد الكريم العرشي، رئيس مجلس الشعب التأسيسي. وتسلم صالح الحكم رسمياً في 17 يوليو/تموز 1978 في قاعة مجلس الشعب الذي انتخبه بالغالبية.
كثيرون في اليمن اتهموا صالح بالتورط في اغتيال الرئيسين الحمدي والغشمي، كليهما أو أحدهما. وجراء المصير الأسود الذي طال ثلاثة رؤساء في أقل من عام لم يكن يُتوقع أن يستمر صالح في منصبه عاماً واحداً. غير أنّه استمر رئيساً لـ33 عاماً لتكون فترته أطول فترة حكم لليمن في القرن العشرين.
[b]أحداث يناير 1986 الدامية[/b]
في الجنوب، صعد المفكر اليساري عبد الفتاح اسماعيل (فتّاح)، خلفاً للرئيس سالمين. وقد خاض الرئيسان فتّاح وصالح، حرباً حدودية قصيرة انتهت بتوقيعهما على اتفاقية جديدة للوحدة في الكويت. وأخذ صالح بعد تلك الاتفاقية يعزّز من سلطته في صنعاء، بينما أجبرت الصبغة الجماعية للحكم في الجنوب الرئيس فتاح على ترك السلطة لأسباب غامضة حتى اليوم، وغادر بعدها إلى موسكو ليخلفه في 21 إبريل/نيسان 1980 الرئيس علي ناصر محمد. وفي العام التالي، وتحديداً في 7 يوليو/تموز، توفي زعيم "الاستقلال"، الرئيس الأسبق قحطان الشعبي، في زنزانته بعدن.
استمر ناصر رئيساً للجنوب ممسكاً بالسلطات الثلاث الهامة (رئاسة الدولة، رئاسة الوزراء، منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الحاكم). وظل ناصر رئيساً حتى يناير/كانون الثاني 1986 موعد انعقاد المؤتمر العام الثالث للحزب، والذي كان منتظراً أن يخرج بتداول سلمي للسلطة، لكن ناصر قام بتفجير الوضع عسكرياً في مقرّ الاجتماع، وتمكن فتّاح، الذي عاد إلى عدن قبلها بشهور، من النجاة من تلك المقتلة، لكنه تعرض للتصفية بعد يومين في ظروف غامضة.
وعلى إثر مذبحة صالة انعقاد المؤتمر العام للحزب، اندلعت حرب أهلية راح ضحيتها الآلاف من خيرة كوادر الجنوب من الطرفين، وجاءت النتائج خلافاً لما كان يخطط له الرئيس ناصر الذي مُني فريقه بهزيمة غير متوقعة أجبرته على النزوح مع آلاف من الموالين له، إلى شمال البلاد، وانتقلت رئاسة الدولة في الجنوب إلى حيدر أبو بكر العطاس، بينما أصبح علي سالم البيض أميناً عاماً للحزب "الاشتراكي" الحاكم.
بعد أحداث يناير/كانون الثاني 1986 المأساوية تسارعت الخطوات باتجاه إنجاز الوحدة بين الشطرين، وأعلن في 22 مايو/أيار 1990 عن قيام دولة الوحدة برئاسة صالح، والبيض نائباً له، والعطاس رئيساً للوزراء. واشترط البيض أن يغادر الرئيس ناصر صنعاء، لينتقل الأخير للإقامة في سورية، ولا يزال حتى اليوم سائحاً بدرجة رئيس سابق.
[b]رؤساء دولة الوحدة[/b]
في صنعاء، عاصمة دولة الوحدة، أجريت أول انتخابات برلمانية في أبريل/نيسان 1993، فاز فيها حزب صالح بالغالبية النسبية، بينما حل شريكه الحزب "الاشتراكي" اليمني ثالثاً، بعد حزب "الإصلاح" الإسلامي. وتسببت هذه النتيجة الصادمة للاشتراكي، في اندلاع أزمة 93 بين صالح والبيض، أفضت إلى حرب صيف 1994، وانتهت بفوز صالح وحلفائه من حزب "الإصلاح" وقوات الرئيس ناصر، ومغادرة البيض والعطاس إلى خارج اليمن.
وبعد تلك الحرب، قام صالح بإلغاء صيغة المجلس الرئاسي وعين عبد ربه منصور هادي الجنوبي نائباً له، وتفرغ من حينها لإزاحة ما تبقى من الحلفاء والمنافسين. وقد أسهمت سياسات صالح في اندلاع ثورة شعبية أجبرته على التنحي عن السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، مع بقائه داخل البلاد رئيساً لحزبه. وكان صالح قد تعرض لمحاولة اغتيال استهدفته وكبار معاونيه بعبوة ناسفة في مسجد مجمع الرئاسة في 3 يونيو/حزيران 2011، وخلفه نائبه هادي الذي صرح يوم حفل استلام الحكم بأنه استلم الحكم من علي عبد الله صالح وسيسلمه بعد عامين لرئيس آخر. ولكن هادي لم يكن استثناء عمن سبقوه؛ فقد سعى للتمديد عبر مؤتمر شامل للحوار الوطني، كان من بين مخرجاته إعداد دستور جديد لليمن تصبح البلاد بموجبه دولة فيدرالية من ستة أقاليم. وما إن تم الانتهاء من إعداد مسودة الدستور الجديد في يناير/كانون الثاني الماضي، حتى قامت جماعة أنصار الله (الحوثيون) التي توسعت في عهد هادي بمساعدة من صالح، باقتحام دار الرئاسة ومحاصرة الرئيس في منزله. وبعد يومين على سقوط الرئاسة، قدّم هادي استقالته للبرلمان، يوم 22 من الشهر نفسه. ولا تزال البلاد من يومها تعيش فراغاً دستورياً في منصب الرئيس والحكومة، وسط سعي الجماعة لتنصيب مجلس رئاسي وإصرار حزب صالح على أن يتولى البرلمان مسألة نقل السلطة.
لا تزال مسألة نقل السلطة أبرز المشكلات السياسية في تاريخ البلاد. وحاول اليمن التخلص من هذه المشكلة، عبر تشريع الانتخابات الرئاسية التنافسية كوسيلة لنقل السلطة. وشهدت البلاد تجربتين انتخابيتين الأولى 1999 وكانت ديكورية، ثم في 2006 وكانت تنافسية حقيقية فاز فيها صالح بمجموع 77 في المائة من الناخبين.
ويعزو مراقبون السبب الرئيس لاندلاع احتجاجات 2011، إلى سعي صالح التمديد لنفسه بهدف توريث نجله. وسبب هذا التحايل في خروج صالح من الحكم، لكن الرئيس هادي كرر نفس الخطأ وشرعن التمديد لنفسه عبر مؤتمر الحوار، ودفع ثمن ذلك خروجه من السلطة. وما لا شك فيه أن هادي كان سيقدم خدمة تاريخية لليمن لو أنه تقيد بالفترة الانتقالية المحددة بعامين، وخرج من السلطة في فبراير/شباط 2014، أو جدّد لنفسه عبر انتخابات تنافسية.