"هي مملكة التناقضات بامتياز، وفي تاريخها شواهد لا تحصى عن اختلافها، بلد متمرد حين يؤمل استقراره ومستسلم حين يؤمل اشتعاله، جغرافيته تشبه مناخه مثل شعبه تماماً، أما إنسانه فهو على الدوام ضد التوقعات وادعاءات الفهم"، هكذا يصف الصحافي عبد الله الحرازي ل "العربي الجديد" التركيبة المجتمعية لليمن السعيد، والذي يبدو على عكس ذلك هذه الأيام.
اختلط كل شيء، منذ أربع سنوات تحديداً يراقب اليمنيون ما يحدث ويشعرون بحيرة واستغراب وتعجّب، ففي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 اختار سبعة ملايين يمني عبد ربه منصور هادي رئيساً للبلاد، في ما قيل عنه وقتها إنه انتخابات، رغم أن هادي كان في الانتخابات بلا منافس، وهو ما لم يحدث من قبل.
في 21 سبتمبر/أيلول 2014 سقطت صنعاء في قبضة جماعة أنصار الله "الحوثي"، وفي 21 فبراير/شباط 2015 تخلّص الرئيس هادي من قبضة الجماعة في ظروف غامضة، بعدما وضعوه تحت الإقامة الجبرية لأسابيع في منزله بصنعاء، وانتقل إلى عدن جنوبي البلاد.
ابتكر اليمنيون أسلوباً جديداً للتعامل مع الأحداث السياسية التي تفاجئهم صباح كل يوم، خصوصاً منذ سقوط صنعاء، بعدما أصبحت تصرفات جماعة "الحوثي" مادةً دسمة للطرفة والتسلية.
من خلال السخرية اللاذعة في مواقع التواصل والأماكن العامة، يعبّر بعضهم عن نشوة انتصار مزعوم، ناتج عن انتشار خبر مغادرة الرئيس هادي إقامته الجبرية في منزله بصنعاء، ولو أنه كان ولا يزال ممن يتهمه بالخيانة والفشل.
وانشغل كثير من النخبة اليمنية والمثقفين والناشطين والشباب بالتفاعل مع الخبر، كتب أحدهم من باب الطرفة: "الرئيس وصل إلى ساحل العشاق في عدن وكان يبكي، وعندما سألوه عن السبب قال إنه تذكر النهدين"، والنهدين هي المنطقة التي توجد فيها دار الرئاسة بصنعاء، لكن الأمر لا يخلو أبداً من سخرية مغلفة بإيحاءات جنسية.
في السياق ذاته يشبه الصحافي ثابت الأحمدي الواقع الاجتماعي والسياسي بأسماء الوجبات اليمنية الشائعة، والتي توحي بالخلط والغرابة مثل (العصيد، والفتة، والعريكة، والمعصوبة، والمجنونة، والدقة، والفحسة، والقلابة، والهريشة)، واستعمال أسماء الأطعمة تلك تحديداً يؤشر إلى أن الوضع في اليمن مختلط مثلها.
ومن بين ما كتب من التقليعات: "الرئيس عاد إلى صنعاء لأنه نسي الشاحن"، بينما عبّر الناشط اليمني سالم عياش، عن سخريته مما يحدث قائلاً: "الذي نام على فراش الرئيس ليلة. تكون هجرته إلى عدن".
أما المذيع الشاب محمد الربع فكتب ساخراً: "فقط حزين على رئيس البرلمان يحيى الراعي الذي كان قبل أسبوعين يجهز الملابس وينظف شعره ويتردد على حمام بخار من أجل الاستعداد لتولي منصب الرئيس".
"ارتفاع منسوب السخرية السياسية هو دلالة واضحة على ارتفاع معدّل الديكتاتورية والقمع" بحسب الشاب حسام ردمان الذي قال ل "العربي الجديد" إن تمرير السخط الشعبي بطريقة النكات ذات القبول والانتشار الجماعي يعتبر دلالة على هزلية المشهد السياسي الذي يصعب فهمه إلا من خلال السخرية، ويعدّ من أهم مكوناته المفارقة والتناقض.
ويبدو لجوء اليمنيين إلى السخرية مؤشر هام على محاولتهم هدم كل المقدسات السياسية، ولهذا هرب بعضهم أخيراً إلى أسلوب المقاومة الساخرة التي تهدم كل جموح للجماعات الدينية، كما أنه دليل على أن الخطاب السياسي التقليدي من قِبل القوى التقليدية فقدَ مفعوله وقدرته على التأثير.
وتتباين انطباعات الشارع اليمني بين مؤيد ومعارض للرئيس هادي، فهناك من يتهمونه بخيانة أحلامهم في الرفاه والتغيير، وتسليم بلادهم إلى جماعة الحوثي المسلحة، وآخرون يرون أن هروبه إلى عدن ضربة معلم لمجابهة الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة.
وحدهم الفلاحون والعمال البسطاء في أرياف اليمن منشغلون بالقتال من أجل البقاء واستمرار الحياة، أما السياسيون فقد عجزوا عن فك الشفرة وتحليل الدور الذي يمثله كل منهم، ومثلهم الصحافيون الذين غادر بعضهم بعدما ضاقت بهم العاصمة التي يسيطر عليها الحوثيون.
أحد المقرّبين من جماعة الحوثي قال ل "العربي الجديد": "هادي هرب متخفياً في زي نسائي. إنها مؤامرة مشتركة بين الخارج وعملائه في الداخل".
ويتداول الجميع الأمر على طريقة رد الفعل، ومثلما يعتبر بعضهم هادي أنسب وسيلة للنجاة، يرى الصحافي عبد الخالق عمران، من حزب الإصلاح، أن "اليمن أمام ملهاة كبيرة والرئيس ليس سوى خائن لثقة الشعب، تحالف مع الحوثيين من أجل ضرب قوى الثورة".
اليمن الذي يستمر في إرباك مجلس الأمن ودول مجلس التعاون الخليجي والعالم، بل واليمنيين أنفسهم، يشبهه عبد الله الحرازي بأنه "دكان. بضاعته الوحيدة هي تناقضات لا معقولة من الجغرافيا حتى المواقف". ويضيف "اليمن بيئة خصبة يتوفر فيه الإدهاش بكل أصنافه، وهو الوعد الأكيد الحي والجامح كحصان بريء عصيّ على الترويض".
بلد تجتمع في تضاريسه كل الأنواع، وفي يومه الفصول الأربعة، كل المؤامرات فيه تنتهي على غير ما خطّط لها، بما في ذلك خطط التنمية والأحلام الجميلة، لكأن لسان حاله ما قاله المتنبي: "على قلق كأن الريح تحتي".
ربما في هذا السياق فقط يمكن استيعاب ما يحدث في اليمن والاعتياد عليه كما هو. حالة خارجة عن المألوف وستظلّ، فحين كان أصدقاء عرب يسألون الحرازي عن اليمن وأيديهم على قلوبهم، كان يطمئنهم أن "اليمن بهلوان أتقن الحياة على الحافة منذ خلق. لا هو يسقط ولا هو يستقر".
وينهي عبد الله حديثه مؤكداً أن أحداً "لو أنتج أفلاماً سينمائية عما يحدث في اليمن، فلن يصدقها أحد وستفشل تجارياً. لأنه لا أحد سيصدق أنها قصص حقيقية".