يسرد الروائي اليمني محمود ياسين في باكورة أعماله "تبادل الهزء - بين رجل وماضيه"، قصة روائي دفعته الظروف للعمل في الصحافة فقرّر ذات ملل، أن يستبدل العيش وسط تداعياته الذهنية، بحياة أخرى ملموسة فقرر العودة إلى القرية باحثا عن شغفه القديم ومستثمراً شهرته التي حصدها من مقالات صحفية ينتقد فيها رأس النظام بجرأة.
وقبل وصوله إلى قريته، كان قد عرّج على قصة حدثت له أثناء استضافته في قرية حارس الصحيفة، حيث تعرّف على سائحة يونانية مختطفة لدى نفس الأسرة التي استضافته تكريما لكونه أنقذ احد أفرادها من حريق شبّ في مبنى الصحيفة. وفي الحقيقة كان "العِزِّي" (بطل الرواية)، هو من أضرم النار في الصحيفة.
وفي صنعاء، تتقافز الأحداث من رُهاب المؤجِّر إلى تفخيخ فرص الملذات وفنادق العُري المحتمل، في متوالية نتعرف خلالها على شخصية "العزّي" كمثقف متوتّر، متلصّص ملذات، يعاني بؤس الإمعان، ويكره التصنّع والنذالة، ولا يكف عن أن يبتكر لنفسه حلولا تخفّف من وطأة قلقه الوجودي في رحلة استثمار المآسي وتحويلها إلى أدب.
نعيش في معيّته صفحات تتحدّث عن مضامين مداخلة قدّمها في ندوة ثقافية حول واقع الرواية والروائيين. ابتكر محمود قصة الندوة ليعبّر عن فلسفته الخاصة تجاه الرواية، وليقدم أوراق اعتماد تظهر مدى إلمامه وتحجز له مقعداً في صالون الكبار. ومن وجهة نظره فقد حلّت الخِبرة حديثا، محل الإدهاش، غير أن "لكلّ زمن قالبه الروائي وعاهروه المشمولون بروح التفهّم لشجاعة فنّانٍ تبوّل على قبر أبيه وانصرف بعدها لكتابة التفاصيل". وليكن ما بين الأقواس، من الآن ونازلاً، هو من "تبادل الهزء".
وقبل الوصول إلى قرية "العزّي"، يتحتّم علينا المرور على سوق السبت، ثم الإصغاء لمدينة إب، مركز المحافظة التي ينتمي إليها العزّي، وصولاً إلى سينما اللواء الأخضر، وفي حديثه عن السوق والمدينة والسينما، يعكس ياسين مقدرة فائقة بأنسنة المكان وتوثيق التحوّلات مستثمراً عنصر التشويق الكامن في دهشة القروي في دنيا "لا تكفُّ عن نصب الفخاخ".
ومن صداقات طلاب ثانوية يسكنون غرفة قديمة على سطح مقر حزب "البعث" في إب، بعد فرارهم من تبعات المبيت في مقر حزب "الإصلاح" الإسلامي، تتجلّى مهارته في تعرية لعبة الايديولوجيات الحزبية.
وصل العزي إلى القرية، "وهو الذي قرّر أخيراً الإفلات من فوضاه والحياة في تداعياته الذهنية بحثا عن دنيا ملموسة في القرية، دنيا مكتظة بالعطش والعرق والاحساس بالريح". وما إن يصل إليها حتى تبلغ الحبكة ذروتها حينما تتداخل المذكرات بالوقائع والماضي بالحاضر والجنس بالسياسة.. شخصيات عديدة استطاع من خلالها الكاتب تقديم قرية العزّي للعالم باعتبارها "ماكوندو" جديدة. "لكن من يشبه ماركيز؟!".. (تساءل محمود خارج غلافي الرواية).
ويترتّب على جزئية قيامه بمغامرة ليلية مع رفاق الأمس لسرقة قات من أحد حقول القرية، أحداث مدهشة يستعرض من خلالها الكاتب صراع "الأيديولوجيا" وذنوب "الأنثروبولوجيا" في قرية تعتاش على زراعة الذرة وريع المغتربين وتبادل الهزء. هنالك حيث يلتقي بنساء الأمس اللواتي ألهبن غريزته في الطفولة، مفصحاً عن أزمة الكبت والصراع الدائم بين الرغبة والضمير. وكل ذلك يحدث في تناوب مدروس وسلس، بين الحديث على لسان العزي ورواية السارد، وبين الحكي والتحليل النفسي للأحداث والنوايا، ومصارحة القارئ بمفاتيح بحثه الطويل للتعبير عن هذا كله.
"كنَّ يلهبن رغبة العزّي، العائداتُ من حقول الذرة، بسراويل خضراء أسفلها معجون بالطين، لدرجة الحصول على روائحهن، والتجسيد الأمثل للمرأة التي كانت في الكتب، بينما هو يعرف أن المرأة العائدة من الزرع والجهد تحمل عيدان الذرة الخضراء لأجل البقرة. كن يثبّتن حزمة الزرع على رؤوسهن رافعات الأيدي لحماية الحُزَم، وكانت الأثداء تهتزّ وتبدو وتتفاقم".
وبدوره كان العزّي "فخّاً مموّهاً بخفّة الظل، سخيّاً وقريباً من القلب، متهكّماً وخفيفاً وكامل الضربات، وكأنه الشيطان في رواية «المعلم ومارغريتا»، قوّة من لا يريد شيئاً".
ليست سيرة
نجح محمود ياسين إلى حد كبير في تقديم مقطع زمني شديد الكثافة ليمن العقود الأربعة الأخيرة، وتحديدا ريف إب وأجواء صنعاء الجديدة، ولأن بيئة بطل الرواية، وتنقلاته، تشبهان إلى حد ما، بيئة محمود الحقيقية، فقد ظن البعض أن "تبادل الهزء" هي سيرة لجزء من حياة الراوي، لكن الأدقّ هو أن الكاتب أوكل لخياله مهمة إعادة توزيع الأدوار في تجربة بالغة الثراء والتشويق.
وعلى عاتق كون البطل روائياً؛ استعرض ياسين صداقاته الحميمة مع كثير من الأسماء الكبيرة التي قرأ لها، قصّاً، وشعراً، وفلسفة، مع ابتكار "ذريعة حدثيّة" لإيصال فكرة ما، وعادة ما يقع القاصّ المتمكّن في باكورة أعماله، في فخ تقديم نفسه دفعة واحدة، وهو ما لن يحتاج له محمود كثيرا في روايته الثانية تحت الطبع، "قبل أن أقتل رويدا".
تقنيات سرد متنوعة، وزّعها الكاتب بتناسب واعٍ على صفحات الرواية، وهيمن أسلوبه الخاص على كل ذلك. يحشد خبرة متنوعة عن الأجناس والثقافات والمواقف في فقرة واحدة: و"لا شيء مقلقاً في أن يشاهدك العالم بفانيللة بيضاء نصف كُم، و«مَعْوَز مقلّم» (مئزر يمني)، تصغي لما ينبغي أن يكون شوربات. أما أن أحدّق هكذا، بعينين مفتوحتين، إلى الأعلى أكثر، فذلك يعني أنني ربما قرأت بعض الروايات قبل هذه اللحظة. غير أن الأكيد أنني سمعت حقيقة جوهرية لا علاقة لها بشوربات. سقطت السيجارة من يدي لحظة انكشافي، بلا هوية للألم. حتى ألم أقليّة، هذه ليست تحديقة كردي تحت راية وكالة الغوث، ولا تلائم حتى بنغالياً فاجأه السيل. لطالما أمعنت في تحديقات ضحايا العنف العرقي ومرض الإيدز. رأيت بورتريهاً لرجل يشعر بالخزي، وجعله الفنان يحدّق بعين يسرى دائرية وصورة رجل فضحته العدسة يحدّق في شذوذه".
وأحيانا يكون الحشد في جزئية بعينها، نلحظ ذلك على سبيل المثال، حين ردد "العزّي" في نفسه، متوعدا إدارة الأمن: "سأفتح ملفاتهم، من نهب الأراضي إلى مساندة قطّاع الطرق وبيع الكُدَم والفول للتجار، رواتب الجنود المقضومة وكشوفات الجنود الوهميين، الدكتور الذي سحقوه بأعقاب البنادق، الرعوي الذي تعفن في زنازينهم الخاصة، مدراء العموم المذعورين، الإتاوات، نزق الانتخابات... لا إحالات تاريخية، ولا استخلاصات انثروبولوجية. ستكون قضية رأي عام وصوراً وبيانات مؤثرة تنتهي إلى ملفات المنظمات المحلية والتقرير السنوي للأمم المتحدة".
تتحرّش "تبادل الهزء" بذكرياتنا كلّاً على حدة، للخلوص إلى لحظة يتقبّل فيها القارئ ذاته كما هي. وكما هو حال الأدب الحقيقي، تعمل صفحات الرواية الـ150، على تقوية إحساسنا بالآخرين. وكاتب الرواية هو في الواقع، مثقف ممتلئ بإبداعات بيئته وروائع العالم، يجيد رقصة "البَرَع"، ويطرب لـ"موزارت" و"فيروز" و"فيصل علوي"، ويقف ساعات أمام لوحة لـ"رامبرنت"، مؤسس ورئيس مجلة "صيف" وهي مشروع خلّاق ومتعثّر بعد عدة أعداد، كاتب مقروء لجيل بازغ يحلم بمجاراته، سارد حصيف.. من أسرة صوفية، درس الفلسفة، واكتشف مزايا اليسار وثمّن ما لم يثمّنوه.
وقد عكس شغف الكاتب بالفانتازيا والصور القافزة والمفارقات والتكثيف، نفسه على "تبادل الهزء".. توظيف موفّق للأسطورة "أبو كلبة، حاج النسور، سُمْأة الديدة، شمس المعارف". مع اهتمام لائق بالتراسُل وفرادة الصيغ "إيماض الهويات المتطفِّلة"، "وجهان لخسارة واحدة"، "النوم إلى جوار إهانة"، و"هناك دائماً من سيقتل عبدالرحيم". وجنوح للتلوين "لون الاياب الدافئ". عدسةٌ خاصة في التقاط الملامح، وتمكّنٌ في وصف المشاعر والأمكنة والازمنة والحيوانات والوجوه واللكنات والنوايا والروائح وحتى تداعيات أفلام الكارتون على الوجدان الطفولي في قرية وجدت نفسها أمام التلفزيون لأول مرة.
مزاج قلِق دائم الطواف، متشبّث بروائح المكان "مِجْران القرية، خبْت الجوف، إب الستينات، قاهرة زمان، وأزقة لندن القديمة"، ضمن حياة المتوجّس الوجِل في بحثه الدائم عن تدفّقٍ "آمن"، لذةٍ "آمنة"، جانبٍ "مأمون"، ومخرجٍ "أمين".
ومع وصفه الدقيق للأحداث والهواجس، لا ينسى محمود أن يترك للقارئ مساحة للتكهّن في بعض الأحداث والمواقف؛ إذ ثمة تفسيرات يوردها على سبيل الظن، وأحداث لا يتذكرها على وجه الدقة. على أنه في المقابل، يمرّن ذهن القارئ على الاحتفاظ بالتفاصيل؛ إذ قد يعود للجملة ذاتها في نهاية فقرتين متتاليتين، وكذا العودة لجزئية متناهية في الصغر، كان قد أوردها قبل ثلاثين صفحة.
وليس ملحّاً التأكيد على كونه أحاط بأساليب الآخرين، وصولا لأسلوبه الخاص. وبرغم وجود بعض التشابهات مع روائيين عديدين، تظل لمحمود لمسته الخاصة، وروح دعابة لا يجاريه فيها أحد. وسيلحظ القارئ أنه بين كل بسمة وأخرى ترسمها طرافة الموقف أو براعة السرد، ثمّة غصّةٌ تنعقد، وسؤالٌ يضيء.
ورغم تأثّر لغة الرواية بالصيغ المترجمة إلى حد واضح، وخصوصا في روابط الفقرات، إلا أنها (لغة الرواية) في المقابل تعكس إلمام الكاتب بالوظائف الدقيقة للألفاظ المترادفة حيث "يجفل" غير "يخاف"، و"يوجل" و"يفزع".. لكلّ لفظ مكانه الأنسب، فالرؤية والنظر والمشاهدة والإبصار والتحديق، (مثلا)، مترادفات متفاوتة الوظائف، يخلط الكثير من كتّاب الحكي، بينها.
أخيرا: يتعذّر علينا وصف "تبادل الهزء"، بأنها "تغور في أعماق النفس البشرية"، ذلك أن محمود قد سخر، مسبقاً، من هكذا وصف، "إذ إن الفن كله لا يقوم بشيء آخر عدا ذلك الغَوْر".
ولقد كتب محمود في مقال يبتهج فيه بذهاب مولوده الأول إلى المطبعة: "أياً تكن ردة الفعل تجاه روايتي الأولى.. لا يهمّ، لقد قلت شيئاً ما أدرك صميمه الجواني كصوت لقلقي الوجودي الذي لم يكن منذوراً يوماً للمجد، بقدر ما هو متيقّن من أنه سيكون هناك آخر المطاف". وبدوري أجدني كيمنيّ، لا أتردّد في الإفصاح عن أن بلدي أهدى العالم، بكل اعتزاز، كاتباً حقيقياً، لن ينتظر اسمه طويلاً كي يصل إلى قلب القارئ المتميّز، ومنصّة التقدير اللائق.
شكرا محمود ياسين وشكرا دار نينوى.