مع قاتهم يشتري اليمنيون سموماً تتسلل إلى مجالسهم على شكل مبيدات زراعية محظورة دولياً تتسرب إلى البلاد، رغم منع استيرادها وتداولها.
أوراق خضراء غضّة منسّقة بعناية، ضمن حزم صغيرة تتصدر مجلساً يجمع رجالاً يتفاخر كل منهم بحصوله على أفضل أنواع القات. "يخزنونه" لساعات، يقتلون خلالها الوقت، دون علم بأن "قات الكيف" بدوره يقتلهم مرتين؛ بمخاطره الطبيعية وبما يحمله من آثار المبيدات المحرمة.
داخل المجلس، أو ما يعرف ب"المقيل"، تدور في العلن أحاديث في السياسة والاقتصاد وشتى الشؤون الشخصية والعامة. خارجه ينطلق على عجل سباق محموم، لتوفير أفضل أنواع القات وأغلاها ثمنا، سعيا وراء ربح أكثر في وقت أسرع. وهذا ما توفره المبيدات المهربة.
وتكفي زيارة واحدة لمحال تجارية متخصصة في بيع المبيدات الزراعية، للتأكد من أن تشديد الجهات المعنية، سواء وزارة الزراعة أو مصلحة الجمارك، على جديتها المعلنة في محاربة المبيدات الممنوعة من التداول في الأسواق، يخالف الحقيقة على أرض الواقع.
[b]70% من محال بيع المبيدات غير مرخصة[/b]
في تقصٍّ ميداني، جال معد التحقيق في 22 محلا تجاريا متخصصا في بيع المبيدات في مختلف مناطق العاصمة. وتبين لمعد التحقيق أن 70 % من المحال التي زارها ليست مرخصة، رغم أنها تعمل في العلن، وأن 90 % من المحال الباقية، المرخصة، تخالف شرط الشهادة الجامعية، وفق قانون تنظيم تداول مبيدات الآفات النباتية، إذ لا يعمل لديها مشرف فني.
وفي ظل انتشار المحال غير المرخصة، لا توجد إحصائية رسمية تحدد عدد المتاجر المتخصصة في تداول المبيدات الزراعية. ويعمل في القطاع بصورة قانونية 52 وكيلا مرخصا، يحق لهم استيراد المبيدات من الخارج، لبيعها لمحال التجزئة.
بسهولة تمكن معد التحقيق من شراء مبيد "توباز" و"ديوكسين". كما اكتشف معد التحقيق انتشار ما يسمى ب"السماد الأسود"، وهو أيضا من قائمة المحظورات وفق إدارة وقاية النباتات في وزارة الزراعة، رغم أنه ليس مبيدا، وإنما هو نوع من الأسمدة التي يدخل في تركيبها الحديد ومكوناته. وكذلك "السماد الأحمر"، وهو أيضا من قائمة المحظورات، ويدخل في تركيبته عنصر الألمنيوم. والحديد والألمنيوم، يكسبان النبات اللون الأحمر القرمزي، ولهما تأثير على الأغشية الداخلية للكلى، مما قد يسبب مرض الفشل الكلوي، بحسب خبير العلوم الزراعية، المتخصص في الوراثة، الدكتور عبدالله الحنمي.
ولا ينكر مسؤولون في سلك وزارة الزراعة ومصلحة الجمارك، على حد سواء، تسلل مبيدات محرمة دوليا، إلى الأسواق اليمنية. ويكشفون أيضا عن أن بعض التجَار يصنعون تراكيب مبيدات محلية تحوي مواد محرمة دوليا.
وتتفق نتائج تقص ميداني نفّذه معد التحقيق، مع نتائج دراسة ميدانية أعدها أستاذ المبيدات وتلوث البيئة بجامعة صنعاء، د. عبدالرحمن ثابت، وكذلك مع تأكيدات الباحث في شؤون البيئة والمستهلك، ياسين التميمي، بأن أنواعا من المبيدات المحظورة استيرادا وتداولا تباع في الأسواق.
تضم قائمة المحظورات مبيد "توباز" إسرائيلي المنشأ، والذي يحتفظ مزارعو القات بانطباع جيد عن فعاليته، وإلى جانبه "الديوكسين"، حسبما يوثق هذا التحقيق.
ولأنها تسرّع فترة إنضاج الثمر، يقبل المزارعون على تلك المبيدات سعيا وراء ربح سريع. من بينهم محمد الفقية - من همدان في محافظة صنعاء- الذي يقول: "المبيدات تعجل ببزوغ الثمار، خصوصا شجرة القات، وذلك ما نريده، كما أنها متاحة ومتداولة بعيدا عن أية قيود".
وبحسب مزارعين، فإن استخدام المبيدات المحظورة، التي يتم تهريبها إلى السوق اليمنية، يضاعف إنتاج نبتة القات، فيتم قطف المحصول أربع أو خمس مرات سنويا، بدلا من مرتين فقط في الحال الطبيعي، ما يؤدي بالتالي إلى مضاعفة المردود المالي.
يؤكد خبير العلوم الزراعية، الدكتور الحنمي لـ"العربي الجديد": أن "التوباز والديوكسين" يحتويان على مركبات كيميائية خطرة، مثل "بروميد اليوراسيل"؛ وهي مادة تسبب سرطان الدم المعروف ب"اللوكيميا".
لكن الفقية يؤكد أن "المزارع لا يعرف مدى خطورة المبيدات، وكيفية استخدامها". ويدعو الحكومة إلى توعية المزارعين.
ويعد استخدام المبيدات بطريقة عشوائية، وانتشار المهرب والممنوع منها، وضعف رقابة الجهات المختصة، "خطرا" على مخزّني القات، وفق الدكتور الحنمي، الذي يشير إلى أن اليمن "من أعلى البلدان من حيث انتشار الأورام السرطانية، والأمراض المزمنة كالفشل الكليوي، فيروس الكبد بنوعيه، السكر وغيرها من الأمراض".
ووفقا لاستشاري الأورام والكشف المبكر، الدكتور أحمد الباردة، فإن متبقيات المبيدات التي تنتقل لمتعاطي القات، تعد سببا رئيسيا للإصابة بالسرطان في اليمن.
آخر إحصائية لوزارة الزراعة (عام 2010)، تفيد بأن زراعة القات وحدها تستهلك حو إلى 70 % من المبيدات الحشرية والفطرية المستوردة بطريقة شرعية.
[b]النبات المنبّه[/b]
القات نبات مزهر أوراقه خضراء ينتمي إلى فصيلة المنبهات، يتدرج تصنيفه في عدّة خانات تبعا لجودته وتسعيره. ينبت عادة في شرق أفريقيا واليمن. يستهلكه عدد كبير من سكان اليمن عبر تخزينه في الفم بين 4 و6 ساعات قبل لفظه بعيدا. وتحتوي نبتة القات على مواد شبه قلوية، تعد منشطة وتسبب تراجعا في الشهية. تصنّفه منظمة الصحة العالمية كعقار "مضر" يمكن أن يتسبب في حال خفيفة أو متوسطة من الإدمان أقل من الكحوليات والتبغ.
الأستاذ في كلية الزراعة بجامعة صنعاء، الدكتور مرشد الدعبوش، كان قد نشر دراسة في اعام 2013، أظهرت أن المساحة المزروعة بالقات في اليمن ارتفعت في عام 2012 إلى 12 بالمائة، مقارنة مع 9.09 بالمائة في عام 2001. وتقدر المساحة الصالحة للزراعة بنحو 4 بالمائة فقط، من إجمالي المساحة الكلية للبلاد البالغة 572.970 كليومترا مربعا.
دراسة الدكتور الدعبوش، التي تناولت "القات وأثره على الزراعة"، أوضحت أن 18 من أصل 21 محافظة يمنية تنتشر فيها زراعة القات، الذي ازدادت المساحة المزروعة فيها بمقدار 21 ضعفا منذ عام 1970 وحتى 2012، على حساب المحاصيل الزراعية الأخرى.
[b]تحايل تجاري[/b]
تتوافر في السوق اليمنية مبيدات "غير مسجلة"، إما "مهربة" أو "غيّرت شركات تركيبتها من خلال دمج أكثر من نوع لتعمل على زيادة هيجان النمو الخضري في الشجر"، وفق الدكتور ثابت.
وعادة ما يكون تركيز المادة الفعالة في هذه المبيدات "زائدا" عن الحد المسموح به، تبعا للدكتور الحنمي، الذي يوضح أن "أغلب أنواع هذه المبيدات هرمونات نباتية مصنعة معمليا، تعمل على زيادة النمو الخضري، ولها تأثيرت صحية على البيئة والتربة وعلى المستهلكين". تلك المحظورات تعد "مواد مؤثرة على عملية الأيض داخل الخلايا، مما يؤدي إلى أمراض مزمنة كمرض الأنيميا الحاد أو ما يسمى بفقر الدم".
دوليا، يتم التعامل مع هذه المبيدات التي تحتوي على هرمونات نباتية مركبة معمليا أو مواد كيميائية مصنعة من البروميد، وفقا لبروتوكول مونتريال. واليمن من بين 180 دولة وقعت عليه، بسبب احتواء المبيدات على بروميد الميثيل؛ وهي مادة معقمة بالأساس، لكنها باتت تستخدم على نطاق واسع في المزارع المحمية في اليمن، وبالأخص في محافظة صعدة.
و"بروميد الميثيل" ومشتقاتها الكيميائية، وفقا للدكتور الحنمي: "تسبب طفرات في المادة الوراثية، تؤدي إلى صعوبة انقسام الخلية أو قد تسبب طفرات بداخل جينات تتحكم في انقسام الخلايا، ما يؤدي إلى فقدان الخلايا لعملية التحكم في الانقسام فتنقسم عشوائيا بكميات كبيرة مسببة أوراما سرطانية".
وبموجب قانون تنظيم تداول مبيدات الآفات النباتية رقم 25 لسنة 1999، ولائحته التنفيذية الصادرة سنة 2002، فإن الإدارة العامة لوقاية النبات بوزارة الزراعة، هي الجهة الوحيدة المخولة في الجمهورية بتنظيم تداول مبيدات الآفات النباتية.
وتشترط المادة رقم 15 من اللائحة للحصول على ترخيص مزاولة أية مهنة من مهن تداول مبيدات الآفات، أن يكون طالب الرخصة حاصلا على شهادة جامعية (وقاية نبات)، أو التعاقد مع مشرف فني للحصول على الترخيص.
[b]خرق للقانون[/b]
لدى مواجهتها بالأدلة، ومنها مشتريات معد التحقيق من هذه المبيدات من خلال جولاته على المحال المرخصة وغير المرخصة، تقر وزارة الزراعة بوجود مبيدات مهربة ومحظورة في الأسواق. لكنها تفيد بأن فرقها تنفذ عمليات ملاحقة ومداهمة مستمرة للكشف عن بيع تلك المبيدات. على أنها أكدت في الوقت ذاته، عدم منحها تراخيص لفتح أية محال تجارية بصورة مخالفة للقوانين.
ويحول "ضعف" إمكانيات الوزارة و"قلتها" دون تحقيق "نتائج أفضل" في ضبط سوق المبيدات الزراعية، بحسب وكيل الوزارة لقطاع الخدمات الزراعية، الدكتور محمد الغشم، مما يفسح المجال أمام "عديمي الضمير" لـ"بيع الموت والأمراض في الأسواق".
وتنصل رئيس قسم الرقابة والتفتيش، مأمور الضبط القضائي في الإدارة العامة لوقاية النبات، المهندس عبدالله حمود الحاج، من المسؤولية، مرجعا تلك المخالفات إلى "ازدواجية" في قرارات الوزارة، مما أدى إلى تداخل في مرجعيات تنظيم تداول المبيدات.
القانون رقم 25 أصبح "كأن لم يكن"، في نظر المهندس الحاج، إثر قرار وزاري لمكاتب الزراعة والري في المحافظات بإصدار التراخيص لمحال المبيدات، وبذلك لم تعد الإدارة العامة لوقاية النباتات هي الجهة "المخولة والوحيدة" في تنظيم تداول مبيدات الآفات النباتية.
ليس ذلك فحسب، بل إن تقارير لجان عديدة شكلت لدراسة الحال، خلصت معظمها إلى "وجود مشاكل ومعوقات، لناحية عدم تأهيل المختصين في مكاتب الزراعة والرأي للقيام بموضوع المبيدات، وعدم وجود إمكانيات تقنية ومادية لتنفيذ القانون والقرار الوزاري، واللائحة التنفيذية"، وفق المهندس الحاج.
وفي دفاعه عن إدارة وقاية النبات، يكشف المهندس الحاج أنها لا تملك إلا مختبرا واحدا لفحص صلاحية المبيدات. وفوق ذلك "يتوقف في أحيان كثيرة عن العمل، بسبب انقطاع الكهرباء"، حسبما يشتكي.
ويبرر تجار لجوءهم للمبيدات المهربة لاختصار الوقت والجهد والمال، ذلك أن فحص مبيد واحد يعني دفع "حو إلى 10 آلاف دولار، لمختبر في الخارج"، من أجل الحصول على شهادة جودة، قبل الدخول في دوامة "بيروقراطية الوزارة" لترخيصه، بحسب التاجر رشاد مسعود.
كما أن "تقصير" مصلحة الجمارك في أداء مهامها، يساهم، بحسب رأي المهندس الحاج، في انتشار المبيدات المحظورة دوليا، سواء المهربة أو تلك التي يعمل تجار على خلطها محليا، إلى السوق اليمنية.
وخلال الفترة من آذار/مارس 2012 وحتى نفس الشهر من عام 2013، ضبطت وزارة الزراعة ما حجمه 61.221 ليتراً (الليتر يعادل كليوغراماً واحداً) من المبيدات المخالفة والمهربة، بحسب تقرير لها قالت فيه، آنذاك، "لو نفذ مسح شامل وكامل لجميع المحافظات والمنافذ الجمركية، فإن الرقم سيكون أضعافا مضاعفة لما تم ضبطه".
وتشمل العقوبات التي قد يتعرض لها المخالفون، السجن والغرامة، بحسب الفصل السادس من القانون، إذ تتعدد العقوبة بتعدد المخالفة وفي حالة العودة تضاعف العقوبة المنصوص عليها في المادة (24) كما يجوز سحب الترخيص أو التصريح وحرمان المخالف من ممارسة أي نشاط أو عمل متعلق بالمبيدات، أو إغلاق المحل نهائيا أو بصورة مؤقتة وفقا لخطورة وجسامة المخالفة حسب ما تقدره المحكمة.
[b]وكيل مصلحة الجمارك: المبيدات المحظورة تدخل بحراً[/b]
لا ينكر وكيل مصلحة الجمارك لشؤون الضابطة الجمركية، الدكتور عبد الجبار المراني، دخول المبيدات المحظورة عن طريق التهريب "غالبا عبر البحر" إلى اليمن. لكنه يقول إن "موضوع التهريب شائك ويتطلب تضافر جهود الجميع"، وتتطلب مواجهته "استراتيجية شاملة لا تقتصر على الجمارك فقط؛ بل الجيش والأمن، ومنظمات المجتمع الوطني".
وفي الوقت ذاته، يلح الدكتور المراني على "ضرورة تشديد التشريعات، وخاصة المتصلة بوزارة الزراعة، وضرورة التجديد المستمر لقوائم المبيدات، وتوزيعها أولا بأول على جميع المنافذ الجمركية".
ووسط هذا الجدال، يرى الوكيل السابق لمصلحة الجمارك، الدكتور لطف بركات، أهمية لإصدار قرار حكومي "سريع وجريء" يكلف جهة حكومية محددة باستيراد المبيدات و"من منفذ واحد فقط، ثم تبيعها إلى المزارعين بأسعار التكلفة أو بأقل من ذلك كدعم للعملية الزراعية وحماية لها في آن واحد".
وباتباع اقتراحه، يرى الدكتور بركات أنه يمكن ضمان أن "لا يدخل اليمن إلا مبيدات آمنة، تتضمن إرشادات الاستخدام، عبر مهندسين زراعيين".
كما أن مثل هذا القرار "مهم للوقاية المبكرة للحد من الأمراض التي تنتشر بشكل هائل، كالسرطان"، وفق الدكتور بركات، الذي يرى أن "كل تلك الخطوات مهما كلفت الحكومة، فإنها ستكون أقل بكثير من الخسائر اللاحقة المتمثلة بالسرطان، وتكاليف العلاج للمرضى التي تدفعها الدولة".
ويُعد مرض السرطان القاتل الأول في اليمن. ويفارق 12 ألف شخص الحياة سنويا بسبب المرض الفتاك، بحسب المركز الوطني لعلاج الأورام السرطانية. وكان تقرير لمنظمة الصحة العالمية قد توقع في عام 2010 أن تسجل إصابة ما يزيد على 22 ألف حالة سنويا بالسرطان في اليمن، وذلك يعني أعلى معدل لانتشار المرض في الشرق الأوسط.
يأتي ذلك، بعد أن أصبحت العائلة اليمنية تعتمد في غذائها على حبوب وخضار وثمار تعتمد بدورها على المبيدات الكيميائية، وفقا لاستشاري الأورام والكشف المبكر، الدكتور أحمد الباردة، الحاصل على البورد الأردني في علاج الأورام (دكتوراه)، وزميل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما أن العادات "السيئة المنتشرة في المجتمع، كتعاطي القات، من أهم الأسباب لانتشار هذه الأمراض"، حسبما يرى الدكتور الباردة، لافتا إلى أن "تعاطي القات يتسبب في سرطان الفم وقد ثبت علميا".
ويساعد "تواجد متبقيات المبيدات في عصارة القات متلاصقاً مع الجروح في اللثة، خلال فترة التخزين، وبدون شك على انتقال المبيدات عبر الجروح، لتتراكم مع مرور الزمن. ثم يفاجأ بعدها الإنسان بإصابته بسرطان في اللثة والأسنان؛ بل وأغشية الفم وحتى اللسان أو البلعوم"، وفقا للدكتور الباردة.
في غياب أية علامة على سعي جاد لمواجهة انتشار "المبيدات والأسمدة القاتلة"، يستمر يمنيون في شراء "الموت"، وإن كان بطيئا، دون أية إشارة ترشدهم إلى خطورة ما يتناولون على موائدهم من حبوب وخضروات، بعد "مقيل" تخزين يخصصون ساعاته لـ"الكيف"، فيما هي مكتنزة بمتبقيات مبيدات كيميائية قاتلة.
*تم إعداد التحقيق بدعم من شبكة (أريج) "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية"