ذكرى انتصار الثورة الإيرانية التي اعتاد النظام الاحتفال بها كل عام بحفاوة بالغة لا يضاهيها احتفال آخر؛ حيث العادة أن تجري لمدة شهر كامل تقريبًا، ابتداء من منتصف نوفمبر و لغاية 11شباط، فإن هذا العام والذي يصادف الذكرى الثلاثين لانتصار الثورة لم يكن أحد يتوقع أن يكون الاحتفاء بها يمر بهذا الشكل الباهت الذي فاجأ الإيرانيين قبل غيرهم، حيث تعود العالم على سماع الشعارات والخطب النارية التي أدمن النظام الإيراني على إطلاقها في هذه المناسبة.
ومن خلال البحث للعثور على الأسباب التي دفعت بالنظام الإيراني للتقليل من صخب الاحتفاء بهذه المناسبة التاريخية، التي ربما تكون أهم حدث يستوجب من الملالي الاحتفال به؛ لكونه كان السبب لتحقيق حلمهم في الوصول إلى السلطة، وجدنا أن هناك ثلاثة آراء مختلفة تعلل الأسباب التي تقف وراء عدم إحياء النظام الإيراني للذكرى الثلاثين لانتصار الثورة بالشكل الذي كان عليه في الأعوام السابقة.
الرأي الأول هو ما يراه أصحاب النوايا الطيبة من أن عدم إقامة الاحتفالات الخطابية والمسيرات الكرنفالية لهذه المناسبة يعود لانشغال المؤسسات الإيرانية بالاستعداد لإحياء ذكرى أربعينية استشهاد الإمام الحسين التي تزامنت هذا العام مع ذكرى انتصار الثورة، ولهذا وجد النظام أن الأولوية في هذه الحالة تكون لمناسبة الحزن لا لمناسبة الفرح. غير أنه فات هؤلاء البسطاء أن هذه ليست المرة الأولى التي تتزامن فيها المناسبتان معًا، ولم يكن ذلك مانعًا للنظام الإيراني من الاحتفال بذكرى انتصار الثورة بطريقته الكرنفالية المعهودة. الرأي الثاني يعتقد أن الشارع الإيراني قد أصيب باليأس وأن النظام بات موقنًا أن شعاراته لم تعد تفي بالغرض المطلوب لتحريك مشاعر 14مليون إيرانيٍّ يعيشون تحت خط الفقر، بالإضافة إلى ملايين آخرين كانوا قد بنوا آمالاً على الثورة والقيادة الإيرانية الجديدة، ولكنها لم تجلب لهم طوال الثلاثين عامًا الماضية سوى ما نراه اليوم من أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية مزرية؛ حيث تعيش إيران منهكة داخليًا ومعزولة خارجيًا وتحاول من خلال، حزب الله وحماس والجهاد والمنظمات الطائفية في العراق وغيرها، إثارة الحروب وزعزعة أمن واستقرار المنطقة، لتحقيق مكاسب سياسية هنا وهناك، وهذا طبعًا لا يمكن أن يكون فعل دولة تحترم نفسها وتعمل لجلب الخير لشعبها. لذا وجد المواطن الإيراني أن ما يقوم به نظامه لا يتناسب مع مكانة إيران التاريخية، ولا يقدم له ما كان يطمح به من رخاء وسعادة تجعله يعيش كما تعيش الشعوب في الدول التي همّ أنظمتها وحكوماتها استخدام ثرواتها وتسخير علاقتها مع الدول الأخرى لإسعاد شعوبها وجلب رضاها.
فإيران لا تنقصها الثروة أو الإمكانيات العلمية حتى يضطر نظامها لخلق المتاعب للآخرين لكي يوفر لقمة العيش لشعبه. أضف إلى ذلك أن ما ينفق على المنظمات الإرهابية وما ينفق على السياسات الصبيانية التي يمارسها النظام في المنطقة لو أنفقت على تلبية احتياجات المواطن الإيراني وبناء المشاريع التنموية والعمرانية لأكسبت النظام شعبية واسعة ولأصبح المواطن أشد حرصًا على نظامه من النظام ذاته. فالعبرة ليست في أن يقبّل السيد حسن نصر الله يد علي خامنئي ولا بمبايعة أمين عام حركة الجهاد لمرشد الثورة الإيرانية، أو رفع صور الخميني في مكاتب حماس، فهذه الأفعال التي قام بها السيدان شلح ونصر الله وغيرهما من أتباع نظام الملالي قد تم دفع ثمنها من قوت المواطن الإيراني الذي أسقط الشاه لكي يتمتع بثرواته ويعيش حرًا كريمًا في بلاده، لا لكي يتسلم الملالي السلطة ويوزعوا المال على من يقبّل أياديهم ويرفع صورهم هنا وهناك.
لهذا يرى المراقبون أن يأس المواطن الإيراني وعدم مبالاته بذكرى الثورة كان السبب وراء عدم إقامة الحفلات والمهرجانات المعهودة في مثل هذه المناسبة، ولذلك لخص النظام احتفاله بهذه المناسبة على إطلاق صاروخ من صنع روسي يحمل قمرًا صناعيًا (أميد)، جل ما أريد منه حمل رسالة ذات أهداف سياسية وإعلامية لا أكثر. فهذا الصاروخ والقمر الاصطناعي مهما كان طوله أو مداه، ومهما كانت مهمته فبالنهاية لا يمكنه بناء ملجئ لآلاف من الأطفال والنساء والرجال المشردين في شوارع العاصمة والمدن الإيرانية الأخرى، والذين يموت العشرات منهم يوميًا في شوارع طهران وحدها من شدة البرد وسوء التغذية،كما أنه ليس باستطاعته بناء مدارس جديدة لمئات الآلاف من أطفال الأكراد وعرب الأحواز والبلوش الذين بحسب اعترافات وزير التربية الإيراني السيد "علي محمد آزاد پيش " قبل أيام أن في مدينة زاهدان عاصمة إقليم بلوشستان وحدها يوجد أكثر من مائة وخمسة وستين مدرسة بنيت من خيام و أكواخ طينية، وتفتقد لأبسط مستلزمات المدارس العادية. هذا ناهيك عن اعترافه بوجود نقص في الكادر التعليمي في إقليم الأحواز يبلغ تسعة آلاف معلم ومدرس، وهذه الحالة يمكن تعميمها على سائر المناطق الأخرى في إيران لاسيما مناطق الشعوب والقوميات الغير الفارسية منها على وجه الأخص. إذًا ليس بالقمر الصناعي أو الصاروخ الباليستي وحده تحيى الشعوب وتتقدم،كما أن مثل هذه الصناعة لا يمكنها جلب الشعبية والولاء لنظام طالما تم بناؤها على حساب قوت الشعب وحريته التي ثار من أجلها، فلو كان الأمر كذلك لما اضطر النظام بين فترة وأخرى ليعلن عن اعتقاله مجموعة جديدة من النخب الإيرانية تعد لإسقاطه.
أما الرأي الثالث فيوعز عدم احتفاء النظام الإيراني بذكرى الثورة هذا العام بالشكل الذي كان عليه في الأعوام السابقة، يوعزها لأسباب سياسية خارجية أكثر منها داخلية؛ حيث إن المناسبة ترافقت مع أحداث إقليمية ودولية غاية في الأهمية فرضت نفسها على النظام الإيراني بقوة. فوصول الديمقراطيين بقيادة الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض وحرب إسرائيل على غزة وسياسة المحاور الجديدة التي أدخلت تركيا (الند التاريخي لإيران) كمنافس حقيقي لطهران على النفوذ في المنطقة،جميع هذه الأحداث والتطورات أجبرت النظام الإيراني على القيام بتغيير مناوراته السياسية.
فمبادرة الرئيس أوباما التي أعرب فيها عن استعداده لفتح حوار مع إيران أوجبت على النظام الإيراني التغيير في خطابه الثوري المعهود، كما أن حرب غزة قد وضعت طهران، التي طالما زعمت أنها المدافع الحقيقي عن القضية والشعب الفلسطيني، وأن صواريخ " شهاب " وغيرها صنعت لهذا السبب، في موقف محرج للغاية جعلها بين الأمرين، مرارة انكشاف كذب شعاراتها الخادعة، ومرارة الدخول التركي على خط المنافسة والذي سوف يكون ندًا لا يمكن العبور من فوقه بالمزايدات الشعاراتية، خصوصًا بعد أن برهن السيد أردوغان أن تركيا تعمل بالأفعال لا بالشعارات. لذلك رأى النظام الإيراني أن التهدئة وتوقف الشعارات الثورية في هذه المرحلة ضرورة تفرضها التطورات الجديدة؛ حيث لا يمكن الحديث عن الثوريات وغزة معقل حلفاء طهران تحت النار، ولا يمكن إطلاق الشعارات الثورية والند التركي يجتاح المنطقة كاسبًا القلوب والعقول بفعله السياسي البراغماتي.
لهذا فإن إطلاق القمر الصناعي (الأمل) في هذا التوقيت وما صاحبه من خطاب سلمي من قبل الرئيس الإيراني (وهذا على غير العادة طبعًا) يعد جزءًا من مناورة سياسية خارجية، ولكن مع ذلك يبقى هذا قمرًا مخسوفًا ولا يمكن أن يضيء سماء ملبدة بغيوم سببها دخان الأعمال والسياسات العنجهية لنظام الثورة الإيرانية.