أرشيف الرأي

كنا موحدين قبل الوحدة فلما اندمجنا فصلونا! *مروان الغفوري

اطلب الباطل لتحصل على الحق؛ هل يسعى الحراك الجنوبي إلى بلوغ هذه الغاية، كما توقّع فيصل بن شملان قبل أقل من عامين؟ أم أنها مجرّد فقاقيع غير ذات دلالة يطيّرها جماعة من الذين فقدوا مصالحهم، كما ذهب الرئيس صالح؟ الوقائع الجديدة لا تؤيد مرشّح الرئاسة المهزوم فيما ذهب إليه، كما تكشف عن قصور شديد في خيال مرشّح الرئاسة المنتصر.

يمكن القول إن المواطن الجنوبي كمَن في بيته عقب انتهاء حرب 94م، وانطوى إلى الداخل في انتظار أن يخف الغبار وتظهر الرؤوس. وكعادته الهادئة، على سبيل المثال، هزّ المواطن الحضرمي رأسه موافقاً على لعن قائمة الـ16 تماماً كما يفعل التاجر اللئيم، واكتفى بالدعاء القلبي بأن يحفظ الله هذه القائمة من الرأس إلى القدم. ففي لحظة ما، كان الوقت بداية المساء، وكان التاريخُ بعدَ الحرب بعامين: يجلس أبناء غيل باوزير، حضرموت، في الشارع الرئيسي لمدينتهم بطريقتهم الأثيرة " ضم الفخذين إلى البطن باستخدام الغترة، والاتكاء على المقعدة" وأمامهم شاشات تلفزة، ونادلو قهوة، وأبواب عديدة. فجأة تقفز صورة علي سالم البيض إلى شاشة قناة الإم بي سي، في مناسبة لم أعد قادراً على أن أتذكر سياقاتها، بيد أني أتذكّر تلك الصيحة المهولة التي هزّت المدينة العبقرية، غيل باوزير. لا أزال أتذكّرها في مثيلاتها الأشهر في مصر" هدف للأهلي في مرمى الزمالك". قال لي صديقي: لا يزالون انفصاليين. قلتُ له: بل يحبّون أبناءهم ويبرّرون خطاياهم، إن اعتقدوا بها أصلاً..

وفي وقتٍ قريب من تلك الساعة، حدث خلافٌ ما في المكلا، فاحتشد أبناء المدينة واعتلا الرؤوس شخص لا أعرفه، وهو يصيح : سيظل الشمالي شمالياً والجنوبي جنوبياً حتى قيام الساعة. صدمتني الصراحة، فساعدني صديقي لفهمها: أعرف بائع آيسكريم من تعز يشتكي من مقاطعة طلبة المدارس لبضاعته نزولاً عند إشاعة رددها مجهولون تحذّرهم من آن الآيسكريم خاصته يحتوي على مواد سامة تسبب العقم عند الأطفال.

بين هذه الحادثة، مقاطعة بائع الآيسكريم، وحادثة إحراق محل الآنسي في مدينة المكلا 13 عاماً. التبرير الجديد ، للعنف ضد المواطن الشمالي، الذي طرحه أبناء مدينة المكلا يتبنى فكرة أن العامل الشمالي هو مخبِر في الأساس، مهمته رصد أبناء المدينة والتجسس على طموحاتهم. بل لقد كانوا أكثر وضوحاً من كل هذا، فمن ضمن التبريرات الصارخة التي يسوّقون بها العنف الجديد: أن نظام صنعاء وظّف مخبريه ليعملوا "مجانين" في مدينة تعز قبل الوحدة، ثم أرسلهم بعد 22 مايو ليشتغلوا "سلفيين" في عدن، وباعة متجوّلين في المكلا!

وهكذا فإننا في المحصلة النهائية لجرد السلوكيات العنيفة سنصل إلى استخلاص مريع: ألف اعتداء على "جواسيس" من الشمال، كانوا يرصدون عورات الجنوبيين وأسرارهم. ولدينا نص نبوي يحفظه أبناء حضرموت قاطبة " لو أن امرأ اطّلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه فليس عليك حرج!" فضلاً عن ذلك، فأهل حضرموت يتباهون بذاتهم الخاصة باعتبارها ذاتاً مؤمِنة بالله، تراعي سنة الرسول في المنشط والمكرَه. وهكذا، فإنها لن تتوقف طرفة عين عن حذف أعين أولئك الذين يتحسسون أخبارها!

ارتفعت الأصوات الآن، في الشمال والجنوب: احذروا التطهير العرقي. ويبدو أن هذه الأصوات ستتكئ إلى حد بعيد على حادثة إحراق محل الآنسي، لتجعل منها أيقونة الموت، عظمتين وجمجمة. بيد أن الصوت المسموع الآن في الجنوب هو : أخرجوا جواسيس الاستعمار " من أرض الأحرار". وهكذا يخسر الفعل العنيف جزءً أصيلاً من بشاعته، وصولاً إلى الارتقاء به لدرجة الفعل المحمود. وسيسري هذا الصوت ليشمل تحت إبطي لعنته أولئك الجنوبيين الذين اختيروا لأنهم "بمواصفات سنحانية" كما يخمّن منير الماوري، أو لأنهم ليسو جنوبيين بصورة كافية، كما يعتقد علي ناصر محمد. ولدى الجنوب، كما لدى الشمال، تجربة عريقة في القتل على البطاقة الشخصية. حدث هذا بعد يناير 86م، كما حدث في الشمال في أحداث أغسطس 1968م.

في الشمال: ما ذنب صاحب المطعم، والمقوّت. وفي الجنوب: حكم الجاسوس الرجم حتى الموت. أما في قناة اللوزي: فمرحى مرحى، يا صانع الوحدة! وفي المقوات، في وسط مدينة عدن، يصرخ مواطن شمالي: لقد فعل علي عبد الله صالح بالوحدة ما لم ولن يفعله ألف احتلال بريطاني!

قال لي بروفيسور في كلية الزراعة، منذ 9 أعوام تقريباً، جامعة القاهرة: اليمن معكوس العالم. قلتُ كيف؟ قال: في كل الدنيا، تجد شمالاً حديثاً وجنوباً متخلّفاً، وفي اليمن العكس هو الواقع. هذا بالضبط ما يقوله أبناء الحراك. أعني هذه هي الذريعة الرئيسة. إننا نستطيع أن نلمح التركيز على أيقونة "الحكم المتخلّف، القبلي، الهمجي" في معظم الخطابات واليافطات التي تعلو رؤوس" الفقاقيع"! ويستشهد كثيرون منهم بأول حكومة وحدة، بعد 22 مايو، من خلال التركيز على المؤهلات العلمية "المدنية" لوزراء الشطرين، المشتركين في إدارة الدولة الجديدة. وتكتمل الصورة عبر تصريح لقيادي اشتراكي مرموق، في معرض رده على الذم الرسمي للعهد الشمولي في الجنوب: ولدت أمي في العهد الشمولي، وابنتي في عهد الوحدة. أمي تجيد القراءة، أما ابنتي فلا تقرأ!

أستطيع أن أزعم أن عام 1997م كان فاصلاً بالنسبة لوجدان الجنوبيين تجاه الوحدة. ففي هذا العام خطرت فكرة عبقرية للرئيس صالح: حكومة يديرها الجنوبي فرج بن غانم. كان الرئيس يدرك أنه سينفرد بحكومة خاصة لأول مرّة منذ الوحدة، وأن مخاطر هذا الانفراد قد تؤدي إلى كسر الساقين، فاستعان بجنوبي حضرمي ينتمي إلى حكومة جنوب ما قبل الوحدة. غير أن ما حدث بعد ذلك هو أن فرج بن غانم رفض أن يكون " محلّلاً" أو أن تعبر المجاميع الهمجية من بين ضلوعه لتهلك الحرث والنسل! واختار المنفى، لا الأكذوبة. وقال للجنوبيين، كما للشماليين، لا تصدقوا الكذب الذي سيأتي من بعدي. هل هذا ما كان يعنيه علي ناصر محمد في حديثه لصحيفة الشارع، حول فكرة أن الجنوبيين ( يقصد من أتى منهم بعد فرج بن غانم) المشاركين في الحكومة ليسو جنوبيين كما يجب؟ دعونا من تعليق د. مجور عليه، أعني التعليق الذي كتبته أيدٍ أمنية ونسبته إلى مجوّر، وكان على الأخير أن يتقبّل الأمر.

خروج فرج بن غانم إلى المنفى رافقه خروج الوجدان الجنوبي بصورة جماعية، إكسيدوس شبيه بالإكسيدوس اليهودي من مصر،الخروج الكبير إلى أرض الميعاد، دنيا الحلم القديم. لا مكان للتأويل العشائري هُنا، فالنظريات السوسيولوجية تتبنى فكرة " النفعية" في مقاربة الفعل الجماعي والفردي. وعليه يمكن القول أن يقيناً جديداً – قديماً تشكّل لدى الجنوبيين من أن الوحدة لم تعد تحمل المنفعة الكافية التي ستدفعهم لأن يتقاسموا نفطهم مع الشمال الفقير، مضافاً إليه أن تهرب أراضيهم من بين أياديهم إلى عمالقة الشمال. [ 42 ألف قطعة أرض نهِبت من عدن وأبين في خلال عشرة أعوام]. في العمود الآخر من الصفحة: يتشبث الشماليون بالوحدة، لأنها جلبت قليلاً من اللبن. وهكذا: كلّ يتشبّث بالوحدة بدرجة تتناسب طرديّاً مع كمية اللبن الذي حصل عليه، وصولاً إلى المتشبّث الأكثر: الرئيس، الذي يردد في كل مرّة أنه على استعداد لتقديم أرواح الشعب اليمني للحفاظ على جرّة اللبن، الوحدة.

وبعد الحرب بخمسة أعوام، أصرّ الرئيس صالح على أن ينتصر على الجنوب مرّة أخرى، وبالمرّة يستعير شرعية جديدة، فاقترح مرشّحاً منافساً للرئاسة. كانت المواصفات نموذجية على نحو قياسي، ذكّرت بمواصفات قاتل جار الله عُمر( علي جار الله)؛ أستطيع أن أنسب هذا الرأي لعلي الصراري. فالمنافس جنوبي، ونجل لرئيس جنوبي سابق. انهزم المرشّح الجنوبي أمام المرشّح الشمالي، وكان متوقّعاً أن يثور شغب في الجنوب كما حدث عقب هزيمة فريق حسّان، الجنوبي، أمام شعب إب، الشمالي. شيء من هذا لم يحدث، سيفسره علي ناصر محمد فيما بعد بنظرية أن نجيب قحطان الشعبي لم يكن جنوبيّاً بصورة كافية. لم يكن النصر كافياً، بالنسبة للرئيس، فانتظر أن تخطئ المعارضة في الانتخابات القادمة وتزج أمامه بمرشّح جنوبي آخر، من الفئة ألِف. كانت مواصفات المرشّح هذه المرّة أعلى من نموذجية، وكان نصراً "سمعت به العُربان".

لقد كان فيصل بن شملان جنوبيّاً وزيادة، طبقاً لنظرية علي ناصر محمد. لذلك فقد رفض الاعتراف بالنتيجة وتهنئة خصمه، فمن خلفه يقف الجنوب غير عابئ بهذه النتيجة التي لن تفضي سوى لمزيد من شمألة الجنوب، مزيد من زحف الجبال على الشاطئ، هكذا اعتقد الجنوبيّون. فمثلاً لم يزل لسان خالد بحاح، وزير النفط السابق، حين قال أنه اكتشف أن رجل أعمال " لم يحدد طبيعته" اشترى/ استأجر/ استحوذ على 600 كيلو متر بمحاذاة البحر، بغية الاستثمار! مع أن بحاح لم يكن جنوبيّاً بصورة كافية، طبقاً لعلي ناصر.

انتظر الجنوبيّون أيقونة جديدة، تلخّص اعتراضاتهم وتحفظاتهم ورفوضاتهم. ومع أن خيالهم واسع بسعة البحر والصحراء، وأبعد، إلا أنه لم يسعفهم في البحث عن الأيقونة، وهم يرون السيارات العسكرية تمخر الشوارع والقلوب على مدار الزمن الجنوبي. وفجأة ظهر قسطنطين، بأيقونته المخيفة قاهرة الجيوش: الجنوب العربي، وليس الجنوب اليمني. والاستقلال، لا إصلاح مسار الوحدة.

بدت الأيقونة غير مقنعة لكثيرين من أبناء الجنوب على مدار عامين تقريباً، إلا أنها امتلأت بقدر معقول من الإقناع فيما بعد ذلك بسبب أن أيقونة بديلة تعذر ابتكارُها. السياقات الدولية مثّلت حالة إلهام، أو لنقُل: بساطاً واقعيّاً للأمل. فاستقلال تيمورالشرقية، تقرير المصير في السودان، كردستان، دول يوغسلافيا، دول الاتحاد السوفيتي.. إلخ. أي أن الجنوبي وجد نفسه بصدد التعامل مع أيقونة لها قدر اعتباري في العرف الدولي. كانت الدولة تواصل غيابها، وعمالقتها يواصلون التهام كل شيء. القانون لا يحمي أحداً، والحقوق ترجع ب" الذراع" في الشمال، بينما لا يمتلك أحدٌ في الجنوب هذه الذراع القوية. كما انهالت التقارير الدولية تحذّر من كارثة يمنية وشيكة بسبب سوء الإدارة والفساد وغياب الرؤية والزج بذوي الكفاءة الضحلة لقيادة أمّة يمنية عظيمة قوامها 23 مليون بشر! لقد كان كل شيء يقول للجنوبيين، في الواقع لكل اليمنيين، لا مستقبل لكم فارجعوا.. وأصبح متوقّعاً واحد من طريقين: إما أن يطالب الجنوبيون بدولتهم السابقة، أو يتحوّلوا إلى لصوص بحار. فاختاروا الأولى، المتساوقة مع مزاجهم الحضاري العالي.

مل البشر في الشمال والجنوب وكفروا بالمستقبل، بالوحدة، بالثابت، وأصبح كل شيء متغيّراً موّاراً قابلاً لإعادة التفكير فيه. بيد أن الأيقونة العنيفة التي ابتدعها الجنوبيون، أيقونة الاستقلال، لم ترُق كثيراً للشماليين الذين لم يكن الكثيرون منهم بأحسن حال من أشقائهم في الجنوب. واصلت السلطة في صنعاء التنكيد على اليمنيين جميعاً عن طريق إخطارهم للمرة الألف أن تحسين حال اليمن مرهون بالعثور على كنز عبقري، أن ينحسر البحر عن جبال من الذهب، أو تتحول تهامة إلى بركة عظيمة من النفط. ولأن كل هذا غير ممكن، فإن مما سوّقت له الدولة في صنعاء أن الخروج من المأزق اليمني الراهن غير ممكن لتعذر أسباب النجاة! هكذا، وبهذه الهمجية والسطحية والبلادة يجري الحديث عن الحل، أو أن هذا هو ما فهمناه نحن البلداء. وفي تصوّري فإن هذه الحقيقة – لو أمكنني تسميتها كذلك- تعد من أبرز مسببات الدعوة الجديدة إلى استقلال الجنوب. فنحن أمام جماعة من البشر فقدوا الأمل في المستقبل لأنه لا مستقبل لليمن في ظل فقرالنفط ،كما تقول الدولة ذاتها، وانعدمت ثقتهم بكفاءة القيادات وانتمائها إلى الزمن العالمي الراهن؛ خاصة وهم يواجهون واقعيات جديدة تنص على أن الزمن اليمني دخل في ممتلكات العشيرة لتديره كما لو كان " قطعة عجين" أو كعكة، كما قالها الرئيس ذاته وهو يفضح منتقديه (لم يحصلوا على نصيب من الكعكة، فغضبوا). إنها كعكة، إذن!

حدث أن لدى هذه الجماعة الجنوبية نموذجها الخاص المجمّد منذ عام 1990م، وهذا لحسن حظّها، على خلاف النموذج السائد في الشمال حيثُ يغدو النموذج الشمالي السابق حالة أبوية للسلالة الجديدة لا يختلف عنها في شيء سوى في "مستوى فقه الوالي" وهي نتيجة تصب في صالح الماضي بصورة بديهية. ما لم تقله الدولة صراحة لعموم اليمنيين هو أنه بسبب سواد المستقبل فليبحث كل منكم عن خلاصه، عن ملاذه الفردي، أو الجماعي، لكنها أدّت المعنى ذاته بألف طريقة، وعلى لسان أكبر مسؤول فيها. لذا فقد اختار الجنوبيون ملاذاً جماعيّاً، أسموه الاستقلال. نحواً من هذا كتب الراحل " الأعسم" في صحيفة الأيام، مخاطباً رئيس الجمهورية: الانفصالي يا سيدي الرئيس ليس هو من يهتف للانفصال، بل ذلك الذي يدفع الناس إلى أن يهتفوا للانفصال. وباختصار شديد: يقف وراء رغبة الانفصال متلازمةُ الإحباط واليأس، ويقف وراء هذه المتلازمة كل تلك الأسباب التي أفضت إليها، ومن خلفها يأتي اللاعبون العمالقة، صانعو الأحداث التي أفضت إلى اليأس والإحباط. حتى صار المشهد، بالنسبة للجنوبي، متطابقاً مع مقولة المتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك روم، فعلى أي جانبيك تميلُ. ومن جديد، سأكون سعيداً وأنا أستدعي العبقري آينشتاين لكي يقول لليمنيين في الشمال والجنوب: (أيها اليمانون) إننا لا يمكن أن نحل مشاكلنا بنفس العقليات التي أنتجت هذه المشاكل!

* مروان الغفوري
* [email protected]
* صحيفة المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى