ماذا لو ان السلطان قابوس سلطان عُمان لم يتمكن من الصمود في وجه حركة الاضطرابات المسلحة التي تفجرت في مقاطعة ظفار في مطلع السبعينات من القرن الماضي والتي اتخذت طابعاً يسارياً ماركسيا أحياناً، وناصرياً قومياً أحياناً أخرى؟.
ماذا لو تمكنت تلك الحركة المسلحة، التي وجدت من يتضامن معها في طول العالم العربي وعرضه على انها أحد أجنحة المد اليساري التقدمي، من الهيمنة على جنوب الجزيرة العربية من مضيق هرمز إلى باب المندب؟.
ماذا لو قامت في هذه المنطقة الستراتيجية الهامة دولة من خارج منظومة القيم والتقاليد التي تتشكل منها الشخصية العربية الخليجية؟.
تفرض هذه التساؤلات الأحداث التي يشهدها جنوب اليمن بعد مرور 19 عاماً على الوحدة مع الشمال، وما تعانيه اليوم من تعثر ومن خطر التفكك.
فالجنوب اليمني الذي انطلقت منه حركة التمرد المسلح في ظفار لا يزال اليوم على الحالة التي كانت عليها ظفار قبل نحو أربعة عقود. غير ان ظفار اليوم هي غيرها بالأمس. ويعود الفضل في ذلك إلى حكمة السلطان قابوس وبُعد نظره. فرغم المسافة الشاسعة بين مسقط وصلالة، فقد انعدمت المسافة التنموية والاجتماعية بينهما؛ وهو على عكس الواقع المحزن بين صنعاء وعدن. ولعل هذا ما أدّى إلى التذمر الذي يبديه اليمنيون الجنوبيون من جهة، و إلى الرضى الذي يبديه العمانيون الظفاريون من جهة ثانية. حتى ان بعض القياديين اليمنيين الذين كانوا يدعمون حركة التمرد ضد السلطان قابوس، لم يجدوا بعد خلافاتهم مع الرئيس اليمني على عبد الله الصالح، غير سلطنة عمان ملجأ كريماً لهم.
فلو سقطت ظفار بأيدي حركة التمرد المسلحة لتغير مسار تاريخ الجزيرة العربية الحديث بالكامل. وبالتأكيد لما عرفت اليمن الوحدة بين الشمال والجنوب. ولما عرفت دول مجلس التعاون الخليجي النهضة التنموية الكبيرة التي تتمتع بثمارها اليوم. بل ربما كان المد اليساري اجتاح كل دول المنطقة ليفرض عليها هوية مختلفة ومصيراً مختلفاً ايضاً.
ولكن بعد اخماد حركة التمرد، تمكّن السلطان قابوس من استيعاب رجالات اقليم ظفار، كما تمكّن من الاستجابة إلى تطلعات أهل الاقليم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأعاد صهر المجتمع العُماني كله في بوتقة وطنية واحدة. وهو ما لم يحدث في جنوب اليمن مع الأسف قبل الوحدة مع الشمال ولا بعدها.
ولعل في ذلك ما يفسر الاستقرار الذي تنعم به ظفار من جهة أولى، والاضطراب الذي يعرّض الوحدة بين شطري اليمن إلى خطر التصدّع من جهة ثانية.
فالسلطان قابوس في نجاحه في المحافظة على وحدة السلطنة، وفي تطويرها وتحديثها وإنمائها، يقدم نموذجاً لليمن من المفيد ان تقتضي به. ذلك ان محاولات الانقلاب على الوحدة بعد عقدين من قيامها ليست تعبيراً عن رفض الوحدة من حيث المبدأ، ولكنها تعبير عن عدم الرضى على المعادلات السياسية والاجتماعية والتنموية التي فشلت في إزالة الفوارق والتمايزات بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد.
لقد أدرك السلطان قابوس انه لا يكفي مواجهة التمرد بالادانة ولا ينفع فرض الوحدة بالقوة الأمنية، وانه لا بد من العمل على ازالة أسباب التمرد، وذلك بالمزاوجة بين فرض هيبة الدولة وسلطتها وإزالة العوامل التي يسهل استغلالها لضرب الوحدة الوطنية العمانية. والأزمة التي تعصف اليوم باليمن تشير بوضوح إلى وجود مثل هذه العوامل القابلة للاستغلال في عملية استهداف الوحدة الوطنية. وبالتالي فان إزالة هذه العوامل ينقذ الوحدة ويحقق الاستقرار الاجتماعي على النحو الذي تعرفه اليوم سلطنة عمان.
لا بد من الاعتراف أولاً بوجود مشكلة في عدن. ولا بد ثانياً من تعريف هذه المشكلة، ثم لا بد ثالثاً من العمل على حلها. وهذا ما فعله السلطان قابوس في ظفار قبل نحو أربعة عقود.. وهو ما يفترض أن يفعله الآن الرئيس علي عبد الله صالح في عدن.
وهي الثغرات التي يخشى أن يؤدي تجاهلها إلى اتساعها بحيث تصبح فجوات يسهل من خلالها التسلل إلى قلب الوحدة وتعريضها للخطر.
ان أخطر قضية واجهت التجارب الوحدوية العربية، سواء كانت وحدة دولتين أو أكثر (مصر سوريا ليبيا أو سوريا والعراق )، أو حتى بين دولة واحدة قسّمها الاستعمار (كاليمن) هي تجاهل الاختلافات والتباينات بين الطرفين أو بين الأطراف التي تتألف منها الوحدة. فتجاهل الاختلافات ليس الغاء لها. وسياسة إخفاء الشكاوى والاحتجاجات تحت السجادة الرئاسية الحمراء لا يعني أبداً ان كل شيء على ما يرام. فقد أدّى هذا الاسلوب في السابق إلى سقوط الوحدة المصرية السورية. وهو يشكل اليوم تهديداً للوحدة بين شطري اليمن.
يشعر اليمنيون الجنوبيون بالدونية عندما توصف الوحدة بأنها عبارة عن ضمّ الجنوب إلى الشمال. وفي ضوء هذا الشعور يتعاملون مع كل تقصير تنموي أو اهمال اداري أو تعثر سياسي، أو تشدّد أمني، ويربطونه بما يعتقدون انه فوقية الشمال على الجنوب. وحتى إن لم يكن ذلك صحيح بالضرورة، الا انه يعبّر عن حالة نفسية محبطة ما كان يجوز التغافل عنها أو التقليل من آثارها. صحيح ان الوحدة ليست ضماً، وأنها تعبير عن الانتماء إلى شعب واحد و إلى دولة واحدة. ولكن الصحيح أيضاً ان تصحيح الأخطاء لا يكون بارتكاب المزيد من الأخطاء. ولا شك في ان أفدح هذه الأخطاء أو أسوأها هو العودة أو محاولة العودة إلى ما قبل الوحدة. فالوحدة، خاصة بين اليمنيين، مقدّسة. وكل خلاف يجب أن يعالَج في اطار هذه الوحدة وعلى قاعدة الالتزام بقدسيتها.
حزين هذا اليمن السعيد. حزين بحركة العصيان المسلح في الشمال التي يقوم بها الحوثيون. وحزين بحركة التململ في الجنوب التي يقوم بها كل الذين أصيبوا بخيبة أمل من جراء المتغيرات التي فرضها قيام الوحدة. وهو حزين بالنشاط الارهابي الذي تقوم به خلايا القاعدة والتي تهدد أمنه واستقراره في الصميم. ثم انه حزين بدويلاته العشائرية المسلحة.
من أجل ذلك فان الحكم في اليمن ليس كالحكم في أي دولة عربية أخرى. فالمعادلات الداخلية معقدة ومتداخلة، ربما أكثر حتى من لبنان الذي يعاني من عشائرية الطوائف. الا ان اليمن كثيف السكان وفقير الموارد. وما لم تتضافر جهود جميع أبنائه في الشمال وفي الجنوب معاً لتحقيق نهضة اجتماعية اقتصادية تنموية شاملة، فانه قد يتعرّض لاضطرابات تسيء اليه وتسيء إلى أمن واستقرار دول الجزيرة العربية كلها.
من هنا أهمية استيعاب كل الطاقات الوطنية ومراعاة المصالح المحلية المختلفة، ومن هنا أيضاً أهمية إنقاذ الوحدة ليس من أجل مصلحة اليمن وحده، انما من أجل مصالح دول شبه الجزيرة العربية كلها. فتعطيل فتيل حركة التمرد في ظفار أنقذ هذه الدول من المخاطر التي كان يمكن ان تتعرّض لها. ويخشى ان تتجدد هذه المخاطر اذا انفلتت الوحدة اليمنية من عقالها. ثم ان العالم العربي بحاجة إلى تجربة وحدوية واحدة على الأقل ناجحة وقابلة للحياة بعد سلسلة فواجع تساقط التجارب العديدة الأخرى!!.