أرشيف الرأي

الوطن يصرخ في وجه أيوب "مهلنيش"

الوطن الذي يصحو وينام على ألحانك ونبرات صوتك لم يعد بحاجة لأن يسأل عن سبب غيابك الآن. ولم يتألم لخروجك الاضطراري من رقعته. ربما لأن بئر إبداعاتك شارف على الاضمحلال. أو أن نفحات شجوك ربما قد احتفظت معظمها في هناك في خانات المكتبات السمع بصرية لعشاق الوطنية الجدد، فلا خوف من سقمك أو حتى من غيابك الأزلي.

أنت أيضاً لم تعد تأبه لنوع الجفاء وسببه، لم تعد بحاجة لتفسير وقراءة أهدافهم المستقبلية. باعتبار حربك العاطفية الجميلة لم تعد مع طرف واحد اسمه اليمن، وإنما توسطها وجهاء المسئولية المزيفة عن سعد ورفاهة المعشوق الوطن بكل طموحاته وواقعيته.

أكاد أجزم أنك الآن ب"مهما يلوعني اليمن.. شصبر وراعي لك سنين" تحاول أن تتشبث بالأمنيات وبالذكريات كمؤنة طرية لمكافحة محاولات طردك من ذاكرتهم وأنت لم تزل حي. كما يوماً ب" مقدر لي ومكتوب أعيش العمر متعوب" حاولت مسبقاً أن تخفي بعض ملامح امتعاضك الافتراضي من النكران المبكر لجميل عطائك.

أيوب طارش، الاسم الآخر لصوت الوحدة والوطنية واليمن، قبل أيام كان ألمه ولا زال يبلل بالأسى صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية، وكاد لولا اقتضاب حروفه أن يؤجج الحزن في أعمدة الكتاب وذوات المثقفين والمتابعين الذين يدركون جيداً مأساة أن يركل بك العشق المبالغ في جنونه صوب المجهول.

الخبر الذي فحواه أن الفنان أيوب طارش رافقته محنتين اثنتين في رحلته العلاجية الأخيرة، إلى الأردن. لم يكن بدون تفاصيله قادراً، قادراً على إحداث صدمة أسى في نفوس المتابعين والمعجبين في ربوع الوطن. ربما لأن الحديث عن مشفى يجلي الآلام من على رونق صحة الآدميين بمختلف مستوياتهم. ويحد من انتشار الأمراض في أجسادهم، بات أمراً عادياً، في ظل بيئة حياتية محكومة بالقضاء والقدر في تسيير أمور الناس.. لكن.. أن تكون المحنة المرافقة لألم وسقم شخصية وطنية بقدر ومكانة الفنان (أيوب طارش) هي محنة مادية صرف. فذلك أمر مقلق بل ومقرف للغاية.

إن موجة "زكام" تلم بأحد مسئولي الدولة، كان وكيلاً لوزارة ما أو مديراً عاماً لأي مؤسسة لم يقدم شيء للوطن سوى إشعال فتيل الكراهية ضده عند أبناءه. تنتفض إثر ذلك، الخزينة العامة للدولة وتطيره لأكبر مشافي أوروبا أو آسيا أو أمريكا. فلم لم تنتفض خزينة الدولة لوقف تداعي أزمة الوطن الفني الكبير أيوب.

عن تفاقم حالة الفنان أيوب طارش المرضية، أشارت معلومات صحفية إلى أن محاولات من بعض النواب استقطعوا مبلغ عشرة ألف من رواتبهم رغم معارضة البعض لذلك، ومعلومات أخرى، أوضحت أن بعض المجالس القبيلة تقدمت بتبرع كمساهمة في علاج الفنان الكبير أيوب طارش. وأن هناك شخصيات قبلية أيضاً كانت قد أعلنت في تدهور حالة الفنان أيوب الصحية قبل أشهر، أنها ستتكفل بعلاجه وزوجته مدى الحياة، غير أن شيئاً على الواقع لم يكن.

وفي الحديث المشئوم عن الرفض القاطع - بصوره المتعددة- لمساعدة الفنان أيوب سواء من الدولة التي تسعى فقط لعلاج الذين يلعنونها بأفعالهم وتصرفاتهم اللاوطنية. تبادر إلي سمعنا معلومات تقول أن فرنسيون شغوفون بصوته وفنه وألحانه - حد الكاتب اليمني "حميد عقبي" - قررا أن يجمعوا له مبلغ مالي ويرسلوه ليستفيد منه في رحلته العلاجية المدقعة الفقر. في حين اقترح آخرين أن يؤسسوا ما يشبه الجمعية الخيرية ويجمعوا من خلالها تبرعات من المثقفين والمهتمين بالأدب والفن والغناء في باريس. وذهب آخرين إلى مقترح يقضي بالنزول إلى شوارع باريس لجمع تبرعات من الناس بعد أن يسمعوهم مقاطع من ألحان الفنان طارش. إنه لخبر مؤسف. والوطن بمسؤليه ورجال أعماله ومثقفيه يتمتون بأنه خبر مؤلم وحسب. ياللعار.

قد يرى البعض أن هناك نوعاً من المبالغة في التماهي مع خبر تدهور الحالة الصحية والمادية للفنان أيوب. ربما قد أجد لدى البعض منهم حق فيما يتعلق بكثرة الناس الذين يجابهون شتى صنوف المعاناة، وهم بحاجة أيضاً لأي لفتة كريمة ليتجاوزوا محنتهم.

حقاً، لقد أضحى العملاق الذي ينتفض نغمه مع كل أفراح الوطن وإنجازاته، ويؤجج صوته الحب للوطن في كل أزماته التي تتمدد رقعتها كل يوم. العملاق الذي ينتفض نغمه مع كل أفراح الوطن وإنجازاته، يبدو اليوم أنه بحاجة لرد بعض عطاءاته، ليس من العدل أن يزج بك وطن أحببته في زاوية ضيقة من الحرج والحاجة، إن لم يضعك بمكرٍ مبتسم في فوهة الموت لمجرد أنك (شريف) وخجول، ولا تمتد يدك، كبعض شياطينه، إلى نحر خيراته.

ليس من الإنصاف أن يحاول أيوب طارش الذي دوما تسلح ب" قدري دوما يدُ تبني غدا ويدٌ تحرس مجد الوطن" أن يقترض أو يبيع سيارته ليقبض مبلغ مالي يتعالج به، كما فعلها في المرة الأولى قبل أشهر حين ذهب للأردن للعلاج رفقة زوجته. واتصل لأحد أبنائه كي يقول له أن يبيع سيارته ويرسل له بقيمتها. في حين يبدو أن المدعو الوطن مشغول بإقناع بعض أبناءه في مهمة تغيير دمهم من حين لأخر وفي أرقى مستشفيات أوروبا.

ورغم المبادرة المتأخرة لرئيس الجمهورية في التوجيه بنقل الفنان أيوب من الأردن للعلاج في ألمانيا على نفقة الدولة، إلا أننا نؤكد أنه ليس من الحكمة أن نحاول جميعنا، ارتداء معطف الصمت تجاه مأساة قامة فنية ترنم بمواله الفلاحون والمزارعون ورعاة الأغنام، ولمعت وما تزال من على شرفة ألحانه بيارق الصيف وانتفضت معها الغيوم. سل العشاق بأنبيائهم وشياطينهم، الذين تهادوا إلى كهف أشجانه المبلل بالنقاء والنغم، وسامرتهم ألحانه كصفير بلبل محايد.

ونجزم بالمقابل، أنه لم ولن يتناسى البؤساء من تفوه لذة بشقاوتهم وغنى لكفاحهم، لن يثمل حلم الأوفياء من أبناء هذا الوطن المعطاء أمام محنة من جعل" تليم الحب" للوطن وللناس بمختلف مستوياتهم وطبقاتهم، في ذاته أشبه بمهمة يومية تطوق خصر لحظاته وإبداعه.

زر الذهاب إلى الأعلى