آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

حصر الولاية في قريش أو بني هاشم في المنظور القرآني (2-2)

للإطلاع على الحلقة (1-2) أضعط أسفل الموضوع على "مواضيع أخرى من هذا القسم"..

و نخلص مما سبق بخلاصة منهجية الإستدلال التالية:

1- لفهم النصوص فهماً لا يخل بوحدتها الموضوعية لا بد من الربط بين مقاصد الشريعة وكلياتها وجزئياتها ربطاً يؤدي إلى تساوق وتناغم هذه المحاور الثلاثة وتولد بعضها عن بعض لا فهماً يضرب بعضها ببعض.

2- لا بد من التفريق بين نصوص الوحي كتاباً وسنة من حيث حجيتها وقداستها وبين فهوم البشر لها التي هي عرضة للخطأ في الفهم وعرضة للتأثر والتأطر بخصوصية الواقع الظرفي زماناً ومكاناً.

3- في إطار نصوص الوحي لا بد من التفريق بين ما هو نص قرآني ونص لحديث نبوي فالنص القرآني قطعي يقيني سنداً والنص النبوي في أغلبه آحادي ظني بما فيها كتب الصحاح ونصوص السنة الآحادية متفق على العمل بها عند علماء الحديث مالم تصطدم بنص قرآني أو مقصد من المقاصد الشرعية فإذا حدث هذا التعارض والإصطدام فيعمل للتوفيق بين النصوص بالمبدأ الأصولي المعروف (مبدأ التعارض والترجيح)، بمعنى اللجوء لتقديم الفهم المرجوح على الفهم الراجح لنص الحديث إذا عارض نصاً قرآنياً أو مقصداً شرعياً حتى يتحقق الإنسجام مالم فيُردّ الحديث.

4- في إطار نصوص الوحي أيضاً ينبغي التفريق في متن النصوص من حيث الدلالة بين الدلالة القطعية والدلالة الظنية فيتم فهم النص المتعدد الدلالات في ضوء محكمات النصوص ومقاصد الشريعة.

بعد بيان معالم منهج الإستدلال وأهمية الصدور في التعامل مع النصوص عن رؤية كلية شمولية تدخل جزئيات الشريعة ضمن كلياتها وتدرج كليات الشريعة تحت مقاصدها ليتشكل من هذا الترابط نسيج محكم يتحقق من خلاله التساوق الموضوعي للنصوص، ومحاذير الإستدلال المجزأ للنصوص الذي قد يؤدي إلى تعارض النصوص بعضها مع بعض وإلى فهم بعض النصوص الجزئية فهماً سطحياً مباشراً يطوح بمقاصد الدين وغاياته ومراميه.

بعد هذا البيان لنحاول إنطلاقاً من هذه المنهجية فهم النصوص التي وردت بشأن القرشية وكيف يجب معالجتها وتخريجها، وكذلك كل ما ورد من أحاديث وأخبار توحي بحكر السلطة للنسب الهاشمي.

إنطلاقاً من منهج الإستدلال نقول إن العالِم المُلم بالشريعة الغراء مقاصداً وكليات وجزئيات محكماً ومتشابهاً ناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً مجملاً ومقيداً، عندما يقف أمام حديث الرسول –ص- (الأئمة من قريش) وحديث (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي) وبقية الأحاديث الواردة بهذا الموضوع فإن عليه إبتداءاً أن يشرع في التأكد من سند الحديث صحة وحسناً وضعفاً.. الخ، بالطرق المعتبرة عند أهل الحديث (علم الجرح والتعديل) فإذا ما تأكد من سند الحديث واتضح له أنه صحيح سنداً فإن عليه أن يشرع في التأكد من متن الحديث وذلك بعرضه على مقاصد الشريعة ونصوص القرآن المتعلقة بموضوعه للتأكد من عدم وجود التعارض، وهو عندما يفعل ذلك بالنسبة للأحاديث الواردة بشأن النسب القرشي أو الهاشمي سيدرك أن متن هذا الحديث وبقية الأحاديث تصادم وتعارض جملة من المقاصد الشرعية والنصوص القرآنية القطعية والأحاديث النبوية على النحو التالي:

1- الخلافة العامة والولاية العامة تقوم على أساس العقيدة والإيمان:
للنظام السياسي الإسلامي أسس وقواعد قرآنية راسخة محكمة ينبغي أن تفهم أولاً ثم تفهم المعاني المتشابهة في ضوئها.

أولها أن القرآن الكريم جعل أساس الخلافة والولاية العامة هو الإيمان والعقيدة وليس العصبية السلالية والعنصرية الشيطانية الجاهلية بصريح قوله تع إلى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}النور55، فهذه الآية القرآنية العظيمة صريحة الدلالة في جعل الخلافة والتمكين للدين للمؤمنين والعاملين للصالحات (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) وعلى هذا الأساس القرآني المتين فالوعد بالخلافة والولاية العامة قائم على معيارية الإيمان والعمل الصالح لا على معيارية السلالة والنسب والعصبية الجاهلية.

فليس في هذه الآية وعد لقريش ولا بني هاشم ولا للعرب دون غيرهم بالخلافة والحقوق السياسية وإنما للمؤمنين جميعاً.

ولم تكتف الآية ببيان معيار إستحقاق الخلافة بأنه الإيمان والعمل الصالح لا العصبية القرشية أو الهاشمية، بل أوضحت أن الإستخلاف من الله لمن كانوا قبلنا سار على نفس المعيار – معيار الإيمان والعمل الصالح-.

وعلى هذا الأساس ينبغي فهم كل الآيات المتعلقة بالخلافة في الأرض لمن كانوا قبلنا مثل قوله تع إلى {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}الأعراف69، وقوله تع إلى {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}الأعراف74، ويتعزز هذا الفهم بقوله تع إلى {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}هود57، أي إن تولوا عن رسالة الله وعن الإيمان والعمل الصالح فسيستخلف الله غيرهم وبهذا يتضح أن مدار الخلافة في الأرض عبر التاريخ وتعاقب الرسالات على أساس الإيمان والعمل الصالح لا النزعة العنصرية الشيطانية والعصبية الجاهلية.

2- القرآن يرفض أي خلافة أو ولاية عامة تقوم على أساس عصبي جاهلي ونزعة عنصرية إستكبارية إستعلائية واعتبر ذلك كفراً وحكم طاغوت شيطاني:-

إن المتدبر للقرآن سيدرك أنه لم يكتفي بجعل أساس الخلافة في الأرض هو الإيمان والعمل الصالح بل النهي القرآني الصريح عن أي نظام سياسي أو ولاية عامة أو خلافة تقوم على أساس عنصري سلالي إستكباري إستعلائي بحيث يحتكر الخلافة والولاية العامة في عنصر أو سلالة معينة ويقسم المجتمع إلى طبقتين:
- طبقة السادة المستكبرين.
- طبقة العبيد المستضعفين.
هذه المعاني يمكن فهمها بجلاء من خلال قصة آدم واستخلافه في الأرض وموقف الشيطان من هذا الإستخلاف هذه القصة التي أخذت مساحة واسعة في القرآن لنأخذ منها الدروس والعبر في سياق الخلافة والحقوق السياسية والولاية العامة على النحو التالي:

لو تأملنا في قصة إبليس وآدم عليه السلام لوجدنا أن غضب الله على الشيطان وطرده من رحمته لم يكن بسبب كفره بالله بل بسبب كبره واعتداده بأصله وعنصره ونسبه وقد اعتبر الله الكبر المتولد عن النزعة العنصرية والإفتخار بالنسب سبباً لكفر إبليس.

- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:34).

- ولو بحثنا عن سبب كبره لوجدناه كبراً يرتبط بدعوى أفضلية الأصل والعرق والافتخار بالنسب والمحتد: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ{12} قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ{13} (الأعراف: 12-13).

- وقد جاء تمرد الشيطان وكبره واستعلائه واعتداده بأصله وعنصره ونسبة في سياق الرفض للقرار الإلهي بتعيين آدم خليفةً في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة:30).

- ومفهوم(خليفة) بالمصطلح القرآني مفهوم سياسي يقصد به الزعامة أو الرئاسة أو الإمامة لأن الإمامة في القرآن مشتقة من الإمام أي الشخص الذي يتقدم الناس وهو الزعيم أو الرئيس والإمامة في القرآن هي إمامة هدى وإمامة ضلال نقول ذلك لأن الأئمة في اليمن قد شوهوا هذا المصطلح فهم أئمة ضلال ولكن هذا لا يمنعنا من استخدام هذا المصطلح القرآني (إني جاعلك للناس أماماً) في سياق إمامة الهدى.

ومما يؤكد أن مصطلح (خليفة) يقصد به الإمامة السياسية قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص: 26).

كما أن مصطلح خليفة يقصد به إلى جوار الزعامة والإمامة السياسية معنى إضافي وهو الإشارة إلى تداول السلطة لأن الخليفة يأتي بعد مخلوف فسياق القرآن المتعلق بالخلافة والاستخلاف يدل على هذا من ذلك قوله تعالى{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (133) الأنعام.

- {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً}هود57
- (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ) (169) الأعراف.
- {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (55) النور.
- (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوح) (69) الأعراف.
- {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} (74) الأعراف.

فالآيات السابقة أكدت ما ذهبت إليه بصريح القرآن لأنني أؤمن أن منهجية تفسير القرآن بالقرآن هي أقوى مناهج التفسير وهذه المنهجية تساعدنا في فهم القرآن موضوعياً وتساعدنا أيضاً في فهم القرآن حتى لغوياً أقول هذا لأن هذا المصطلح (خليفة) مصطلح مهم قرآنياً وقد أخطأ في فهمة كثير من العلماء والمفكرين فاعتبروا الخلافة في الأرض وكأنها مصطلح لتنظيم علاقة الإنسان بالأرض أي الطبيعة وبالتالي تحدثوا عن علاقة التسخير والاستعمار وأنا لا أنكر ذلك ولكن المعنى الرئيسي هو مصطلح سياسي لتنظيم العلاقات السياسية والخطأ الأخر في وجهة نظري الذي وقع فيه بعض العلماء والمفكرين هو اعتبار هذه الخلافة خلافة عن الله في حين أن سياق الآيات يدل على أنها خلافةً بالله فلو جاء هذا المصطلح (خليفة) خاص بآدم لاحتملنا هذا الفهم القائل أنها خلافةً عن الله لكن سياق الآيات كلها المتعلقة بهذا المصطلح (خليفة – خلفاء – يستخلف) يؤكد أنه استخلاف بالله لا استخلاف عن الله.

أذن فمصطلح خليفة تدل قرآنياً على ثلاثة أبعاد لغوية:-

1- أنها زعامة ورئاسة سياسية لتنظيم العلاقات السياسية.

2- أنها تشير إلى تداول السلطة (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوح) لأن كلمة خليفة تدل على مخلوف وخالف.

3- وأنها خلافة بالله لا عن الله بدليل أن كل الآيات تشير إلى أن الله استخلف آدم وداود واستخلف قوماً عن قوم ووعد بإستخلاف المؤمنين في كل أطوار الصراع السياسي التاريخي بين المؤمنين والكافرين.

- من خلال المعاني اللغوية لمصطلح خليفة للقرآن فإننا نفهم قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )

- أن خلافة آدم هنا هي خلافة بدلاً عن الملائكة والجن بزعامة الشيطان أي أن الشيطان كان هو الخليفة قبل آدم والقرائن التي تعزز هذا الفهم هي:

أ‌- احتجاج الملائكة على قرار التعيين الإلهي لآدم خليفةً بقولهم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (30 البقرة).

ومما يؤكد شعور الملائكة على رأسهم الشيطان أن هذا الأمر (جعل آدم خليفة) فيه دلالة على انتزاع الخلافة منهم وارتباط هذا وتعلقه بهم هو هذا الاحتجاج الملائكي وهذا الحوار السياسي الرائع بين الله والملائكة الذي سعى الملائكة من خلاله بقيادة إبليس الذي كان طاووس الملائكة إلى التشكيك في كفاءة آدم وجدارته بهذا المنصب:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

ب- ثم يأتي المشهد الثاني لقصة أول صراع سياسي شهدته الخليقة بين الملائكة والجن وبني آدم وقصة أول حوار سياسي يدور حول تداول السلطة السياسية مشهد أن الله سبحانه وتع إلى لم يغضب من الملائكة والشيطان على هذا الحوار الساخن وإنما حاورهم وعندما شككوا في كفاءة آدم وأظهروا أنهم أجدر منه بقولهم:(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)

رد الله عليهم بما يثبت أنه أكفأ منهم ولم يكن رد الله رداً نظرياً وإنما لكي يقتنعوا قناعة كاملة أنه أكفاء منهم أدخل الجميع في اختبار عملي: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{33} (31-33) البقرة.

والآيات السابقة أوضحت لنا عدة أمور:
1. أن معيار ومواصفات هذا المنصب الأساسي هو العلم والكفاءة.
2. جرى الاختبار العملي بين آدم والملائكة متعلقاً بهذا المعيار (العلم).
3. أثبت لهم عملياً أن آدم أكثر علماً منهم.

4. لو حاولنا معرفة سر تفوق آدم العلمي لوجدناه في قوله تعالى:(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) فالكل تعلم من الله تع إلى لكن ما تميز به علم آدم يكمن في قوله تعالى(الأَسْمَاء كُلَّهَا) فكلمة (كلها) إشارة إلى العلم الكلي الذي هو علم السنن وهو العلم الذي يقود إلى الفهم الشامل ويتولد عن هذا العلم الكلي خاصية التنبؤ واستباق الأحداث ولا يصل إلى هذا الفهم إلا من امتلك خاصية التعلم الذاتي وملكه فهم قوية تحلل وتستنبط أما علم الملائكة فهو علم جزئي وليس لهم خاصية العلم الذاتي ولذلك لا يعلمون إلا بقدر التلقين الإلهي لهم مباشرة وإن في هذه القصة دروس بليغة في علم السياسة وفي علم الإدارة أشرنا إليهما ولم نفصلها.

ج- ومما يدل على أن خلافة آدم جاءت بدلاً عن رئيس الملائكة (إبليس) والملائكة أيضاً هو أنه بعد إثبات كفاءة آدم العلمية على الملائكة تم إصدار التوجيهات الربانية إليهم بالتسليم لخلافته وإعلان طاعته من خلال الأمر الإلهي بالسجود والسجود هنا سجود الطاعة والاعتراف {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}

د- من الأدلة أيضا على أن خلافة آدم كانت بدلاً عن الشيطان رئيس الملائكة هو قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً{61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً{62} قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً{63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً{64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً{65} (الإسراء:61-65).

قوله تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) فقد اعتبر الشيطان تعيين آدم بدلاً عنه بدليل قوله (هذا الذي كرمت عليّ)وبهذا يتضح لنا أن قصة آدم وإبليس هي قصة أول صراع سياسي في الأرض وفيها العديد من الدروس السياسة أهمها:

أ‌- الحوار السياسي الرائع بين الله والملائكة وإن في هذا الحوار بين الخالق ومخلوقيه لدرس بليغ لكل الطغاة والمستكبرين الذين يأنفون من استشارة أو محاورة تابعيهم فضلاً عن محاورة مخالفيهم.

ب‌- أن تداول السلطة من أهم الأسباب للحروب والصراعات السياسية عبر التاريخ وأن الوصول إلى تداول السلطة سلمياً تجنيب لحياة الدول والمجتمعات من حروب مدمره وهدر كبير للطاقات والإمكانات في سبيل أرضاء قيادات سياسية تتنافس على السلطة.

ت‌-
ث‌- أن فتنة السلطة كانت سبب ارتداد الشيطان ومروقه وتكبره {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}الحجر39. وأن المرض الذي أصاب الشيطان هو حب احتكار السلطة السياسية في البطنين الملائكة والجن ورفض تداول السلطة سلمياً مع آدم وبنيه وجعل المبرر لرفض تسليم الخلافة لآدم هو وضاعه أصله ونسبه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}الأعراف12

د- أن الإسلام لا يقيم وزناً للأنساب فعلى الرغم من أن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا من نار وبني آدم خلقوا من طين إلا أن الله فضل آدم عليه السلام وجعل معيار التفاضل بين الناس هو الكفاءة لا العنصر والنسب بل يشعر المرء أن الله أختار آدم من طين عمداً لأن الطين محتقر عند الآخرين ليعطينا درساً في عدم الاعتداد بالأنساب والأحساب وفي كراهية الكبر والاستعلاء وجعل معيار التفاضل بين الناس المعايير الكسبية لا المعايير القسرية فالعلم والتقوى معايير عملية وفي نفس الوقت يمكن أن يتسابق جميع الناس عليهما أما اللون أو العرق أو الوطن أو القوم فهي معايير قسرية ليس بيد الأنسان اختيارها.

ه- إن قصة الشيطان مع آدم في القرآن الكريم بينت لنا حقيقة هامة غابت عن أذهان كثير من العلماء وهي أن مشكلة الشيطان العقدية الكبرى ليست في كفره بالله فهو مؤمن بالله بصريح القرآن في قوله تع إلى {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}ص79 وقوله تعالى{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}الحشر16، ولكن مشكلتة في كبره وتمرده واعتداده بأصله ومحتده وفي رفضه التسليم بحقوق آدم السياسية (حق الخلافة في الأرض) (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) بحجة وضاعة نسب آدم لأنه خلق من تراب والشيطان من نار.

فالكبر في المنظور القرآني هو الخطيئة الكبرى التي استوجبت تكفير الشيطان ولعنه وطرده من رحمة الله لقوله تع إلى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}البقرة34.

ومن هذا المنطلق القرآني الواضح نقول أن من اعتد بنسبه وأصله لصلة قرابة بنبي من الأنبياء أو رسول من الرسل معتبراً أنه من نسب مقدس والأخرون من نسب مدنس فزعم نفسه سيداً والآخرون عبيداً فقد استكبرومن استكبر فقد كفر لصريح قوله تع إلى (اسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ومن اعتقد نفسه عبداً لسادة من البشر فقد أشرك بالله وكفر لأنه لا يمكن أن تجتمع عبودية الإنسان لخالقه مع عبوديته لبشر لأنّ جوهر التوحيد هو إطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان وإعلان مبدأ المساواة بين البشر (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ).

والقرآن بصريحه ذم سيادة بشر على بشر واعتبر ذلك مظهراً من مظاهر الشرك والضلال {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}الأحزاب67، فلا رب ولا سيد إلا الله
وذم القرآن الذين يفسرون الدين تفسيراً عنصرياً ويزكون أنفسهم زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه أو أبناء رسول الله وأحباؤه
فقال تع إلى في سياق ذم اليهود خاصة ومن سار على نهجهم في التفسير العنصري (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً{48} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً{49} انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً{50}) [ النساء ].

وكما لعن الله الشيطان وطرده من رحمته لأنه زكى نفسه عنصراً وأصلاً فقال تع إلى (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ{76} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{78})

نجد القرآن يلعن اليهود الذين زكّوا أنفسهم افتخاراً بنسبهم الإبراهيمي في نفس السياق من سورة النساء بقوله تع إلى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}النساء52.

و _ الخيرية في المنظور القرآني خيريتان خيرية الرحمن وخيرية الشيطان.. خيرية الرحمن هي خيرية الأخلاق والقيم وخيرية الشيطان هي خيرية العنصر والدم(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ{76} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{78}) فالكبر والاستعلاء والتفاخر بالأصل والعنصر والنسب هو عنوان هذه المدرسة وبالتالي فمن استكبر واستعلى على بني آدم وفسر الدين تفسيراً استعلائياً استكبارياً عنصرياً فهم تابعون لمدرسة الشيطان وأن لبسوا لبوس الدين، وهم (آل الشيطان وذرية إبليس) لا آل الرسول. ويقول تع إلى في بيان خيرية المؤمنين لا المتعصبين المنافقين (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)آل عمران(110) فخيرية الأسلام هي خيرية القيم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر لاخيرية الأعتداد بالأنساب والأحساب (دعوها فإنها منتنه) كما قال الرسول (ص).

ز- على إثر الخلاف بين الله والشيطان برفض الشيطان لتداول الخلافة سلمياً انقسم العالم إلى ساحة للصراع السياسي بين الله والشيطان وبموجب حرية الإرادة التي منحت من الله للجن والأنس بخلاف الملائكة أمهل الله الشيطان إلى يوم القيامة لقيادة التمرد ضد الله وأديانه السماوية التي ما تنزلت إلا لتحقيق مصالح البشرية دنياً وآخره (يخرجهم من الظلمات إلى النور) وتحرريهم من الأنظمة الطاغوتيه الاستبدادية التي تراعى مصالحها الأنانية وتلغي مصالح المجتمعات والشعوب (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة:257).

- حيث طلب الشيطان من الله إمهاله إلى يوم القيامة قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{78} قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{79} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ{80} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ{81} (ص).

- قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{40} الحجر:(39-4).فأكد الشيطان أنه سيغوي بني آدم من نفس غوايته وهي النزعة العنصرية الاستكبارية

- بعد هذا الخلاف انقسم العالم كما أسلفت إلى ساحة للصراع السياسي بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

- أولياء الرحمن هم أتباع النظام السياسي الإلهي وهو النظام الذي تكون فيه الولاية العامة قائمة على أساس العقيدة لا على التفسير العنصري والعصبية الجاهلية فالولاية العامةوالخلافة في المنظور القرآني هي حق لجميع المؤمنين لصريح قوله تع إلى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}النور55.

فالوعد في القرآن بالخلافة السياسية والتمكين للمؤمنين وليس لعصبية جاهلية هاشمية أو قحطانية (ليس منا من دعا إلى عصبية).

والولاية العامة في المنظور القرآني حق لجميع المؤمنين والمؤمنات في المجتمع الإسلامي انتخابا وترشيحاً ومنهم تنبثق السلطة السياسية التشريعية والتنفيذية والقضائية وتخضع لرقابتهم تعييناً وعزلاً لقوله تع إلى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) وصريح قوله تع إلى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) والوعد الإلهي القرآني بالتمكين والاستخلاف خص المستضعفين دون المستكبرين وجعل العلامة الفارقة بين المؤمنين الحقيقيين والمنافقين المخادعين هي الاستكبار والاستضعاف {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}القصص5.

هذه الأصول السياسية القرآنية الجلية الواضحة غابت عن أذهان الكثير من علماء السنة فضلاً عن غيرهم ووقع علماء السنة الصادقين تحت تأثير الدعاية الشيعية من حيث لا يشعرون فجاء الفقه السياسي التاريخي وفي طياته تأصيل سياسي مشوب بالانحراف السياسي التاريخي الذي حصل في الواقع بعد سقوط الخلافة الإسلامية والدخول في مرحلة الملك العضوض فتم التأصيل للعصبية القرشية والعصبية الهاشمية ولحكم المتغلب وكلها أشكال سياسية مجافية للأصول السياسية القرآنية التي بينتها وقد آن الأوان للعقلية الإسلامية المعاصرة أن تجدد أمر دينها وتتجاوز ثقافة ومخلفات عصور الانحطاط والتخلف وتنفي عن هذا الدين ما علق به من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين والرسول –ص- قد نبه إلى الانحراف السياسي المبكر بقوله (لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ) وقوله –ص- (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ)

{وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:56).

- واولياء الشيطان وهم أتباع النظام السياسي الشيطاني القائم على التأويل العنصري الأستكباري الأستعلائي للدين الذي يحتكر الولاية العامة والعلم والثروة في الفئة التي تدعي النسب المقدس وتنظر إلى الآخرين أنهم من نسب مدنس فتقسم المجتمع إلى سادة مستكبرين وعبيد مستضعفين وهذه الفئة هي ذرية الشيطان بخيرية العنصر والدم لابخيرية الأخلاق والقيم لصريح قوله تع إلى ({وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}الكهف: (50).

- فقد جاء النهي الصريح عن إتخاذ الشيطان وذريته أولياءوذريته هم أتباعه بالمنهج الاستكباري الطاغوتي (استكبرت وكنت من الكافرين)

- وجاء التحذير القرآني من عبادة الشيطان أكثر من التحذير من عبادة الأصنام الحجرية
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{61} وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ{62} هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{63} (يس: 60-63).

- وليس المقصود بعبادة الشيطان هنا عبادة الشعائر وإنما عبودية الولاء والتبعية لمنهجه الإستكباري الطاغوتي العنصري

- وأبرز أتباع الشيطان هي الفئة المنافقة التي تتسرب إلى الأديان وتسعى لتأويلها بما ينافي مصالح مجموع الأمة عبر ادعاء احتكار السلطة السياسية والثروة والمعرفة بمنهجية عنصرية استكبارية (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) آل عمران: (7).

- ومما يؤكد أن الفئة المنافقة تسعى لتفسير الدين تفسيراً مصلحياً على فئة محدودة من دون بقية الناس وأنهم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً هو قوله تع إلى في وصف المنافقين {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} البقرة(16)، فقد جعل القرآن أبرز صفة للمنافقين هو تحويل الدين إلى صفقة تجارية بتفسيره تفسيراً نفعياً استكبارياً طاغوتياً يبرر لهم احتكار السلطة والثروة.

- هذه الفئة المنافقة وصفها القرآن بأنها فئة شيطانية بقوله {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}البقرة(14). {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}
- فجنود الشيطان عبر التاريخ هم الفئة المنافقة الذين يتسربون إلى الأديان ويكتمون حقائق الوحي بتأويل الكتب السماوية بمنهجية شيطانية طاغوتية استكبارية استعلائية عنصرية تحتكر السلطة والثروة وتقسم المجتمع طبقياً إلى مستكبرين ومستضعفين.وسادة وعبيد
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{174} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ{175} البقرة (174-175).

- وبهذه المنهجية في الفهم سندرك عندئذ كيفية تأثير الشيطان الذي يصل إلى حد قوله تع إلى {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وقوله:(لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 62).

3- قاعدة المساواة (وحدة الأصل البشري)
تعتبر قاعدة المساواة مقصداً شرعياً رئيسياً من مقاصد الشريعة الإسلامية بإتفاق علماء الشريعة ومن خلال النصوص الصريحة القطعية الدلالة من ذلك على سبيل الإستدلال لا الحصر:

- تقرير قاعدة المساواة من خلال التأكيد على وحدة الأصل الإنساني حيث يقول تع إلى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء).

- التاكيد على قاعدة المساواة في القرآن من خلال الرد على اليهود والنصارى عندما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه فجاء القرآن مؤكداً أنهم بشر كبقية الخلق حيث يقول تع إلى ({وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}المائدة18) فجاء هذا النص القرآني الصريح (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ) قاطعاً لكل لسان يدّعي التفوق السلالي والتميز العرقي أو الزعم بأن هناك نوراً إلهياً يسري في الأصلاب يتوارثه الأخلاف عن أسلافهم وبهذا يتميزون عن غيرهم.

ومن مقتضيات هذا المقصد الشرعي مقصد المساواة أن يتساوى الناس في الحقوق وفي الواجبات ومن أبرز الحقوق الحق السياسي.

4 - قاعدة العدل:
إن الله سبحانه وتع إلى متصف بصفة العدل (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) ولذلك جعل الله سبحانه وتع إلى معايير التفاضل بين الناس معايير كسبية يمكن أن يتسابق الناس جميعاً لتحصيلها لا معايير قسرية ليس في وسع الإنسان السعي إليها كمعايير الدم واللون والوطن أو القوم فجعل الله سبحانه وتع إلى معايير التفاضل بين الناس معيارين أساسيين هما:

- التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
- والعمل الصالح أو ما يمكن أن نطلق عليه قانون السعي (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى{39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى{40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى{41}) [النجم] (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}) (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

ومن هنا فإن أي إدعاء لفضل قائم على أساس عرقي هو إدعاء يصادم قاعدة العدل الإلهي ويصادم الفطرة الإنسانية القائمة على أساس وحدة الأصل.
2- قاعدة الشورى:
قاعدة الشورى في القرآن أصل صريح قطعي (وأمرهم شورى بينهم) (وشاورهم في الأمر) فهذه نصوص صريحة في تقرير قاعدة الشورى في أمور المسلمين ولا شك أن من أبرز أمورهم الأمر السياسي، وعليه فإن أي فهم لحصر الحق السياسي في نسب قرشي أو هاشمي هو فهم مصادم لنص قطعي السند قطعي الدلالة فيجب تأويل هذا الفهم وإلا ردّ الحديث على القواعد المنهجية المقررة سلفاً

إن العالِم الذي يسير بهذه المنهجية ويرى التعارض الصريح بين مدلول الأحاديث التي تنص على حصر الحق السياسي في نسب معين قرشياً كان أو هاشمياً بما يوحي أن هناك إعتباراً شرعياً للتفاضل السلالي عندما يرى هذا التعارض مع المقاصد التي أشرنا إليها، وهناك الكثير من الأدلة أيضاً لم نسقها من ذلك على وجه الخصوص ذم الإسلام للعصبية والتحيز لعنصر معين (ليس منا من دعا إلى عصبية) (دعوها فإنها منتنة) إن العالِم لا يسعه أمام هذا التعارض ولا شك إلا الإنحياز لمقاصد الشريعة وللنصوص القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالمساواة في عدم حصر الحق السياسي (اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).

ولذلك فإن عليه كما أشرنا في منهج الإستدلال أن يشرع في العمل بمبدأ التعارض والترجيح كما أشار إلى ذلك علماء الأصول بحيث يقوم بالتوفيق بين النصوص حتى لا يتغلب فهم دليل من السنة أضعف سنداً ودلالة على مقاصد شرعية قطعية ونصوص قرآنية محكمة مالم يستطع إجراء هذا التوفيق فإنه لا يسعه في نهاية المطاف إلا رد الحديث وهو عندما يشرع في إعمال هذا المبدأ الأصولي (مبدأ التعارض والترجيح) يمكن أن يخرج بعدة دلالات لهذا الحديث (الأئمة من قريش) على سبيل المثال ويقاس عليه بقية الأحاديث والأخبار التي توحي بنزوع عرقي أو حصر للحق السياسي مما يؤدي إلى إنسجام هذه الدلالات مع مقاصد الشريعة المؤكدة لمعاني المساواة والعدالة والشورى كما يلي:

1- يقول علماء الأصول أن الأحكام الشرعية مرتبطة بعلل ومناطات لأحكامها ترتكز عليها و لذلك قالوا إن الحكم الشرعي يدور مع العلة وجوداً وعدماً وإذا إعتبرنا هذا الحديث (الأئمة من قريش) أمراً تشريعياً فيمكن أن يحمل على علة أن قريشاً وقتها كانت تمثل العصبة القوية التي تمثل رضا العرب لا سيما إذا أخذنا في الإعتبار أن أبا بكر الصديق في السقيفة لم يستشهد في أحقية قريش بحديث الأئمة من قريش وإنما قال (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش) فهذه هي العلة وهي كون قريش محل رضا العرب وقتها، وبهذا يتضح أن هذا الحكم ظرفي إستثنائي منزّل على واقعة بعينها وليس أمراً تشريعياً دائماً لمصادمته للمقاصد العامة للشريعة.

2- بعض العلماء كالمقبلي وغيره إعتبر هذا الحديث (الأئمة من قريش) حديثاً إخبارياً لا يترتب عليه أمر تشريعي وهذا وجه من الوجوه التي يمكن أن يحمل عليها هذا الحديث، وهكذا عندما يضبط منهج الإستدلال يمكن أن نفهم النصوص منسجمة مع مقاصد الإسلام ومع النصوص القرآنية القطعية.

3- حديث الرسول –ص- (كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وجعله في قريش وسيعود إليهم) (صحيح) تحقيق الألباني أنظر حديث رقم (4463) في صحيح الجامع. فهذا الحديث الصحيح الذي يؤكد عودة القيادة والإمارة لليمنيين دليل على أن الولاية العامة تقوم على أساس الشورى واختيار المؤمنين بدليل تجويزه تحول الأمر من قريش إلى اليمنيين ولو كان الحديث (الأئمة من قريش) حكم شرعي لما صح تحول الإمارة إلى اليمنيين آخر الزمان، وهذا الحديث نفسه المنبئ عن تحول الإمارة إلى اليمنيين هو حديث إخباري أيضاً ولا يصح أن يفهم منه إحتكار اليمنيين لقيادة المسلمين لأن هذا لفهم يخالف أصول النظام السياسي القرآنية.

___________________
مسؤول التخطيط السياسي سابقاً في التجمع اليمني للإصلاح

زر الذهاب إلى الأعلى