آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

قناة «الجزيرة»..

أعلنت قناة "الجزيرة" في قطر أنها ستلبس حلة جديدة مع أول أيام الشهر القادم (نوفمبر2009) بمناسبة مرور 13 عاماً على انطلاقتها، والحق أن "الجزيرة" تبدع في تجديد أثوابها بشكل مستمر وتتفنن في إظهار اللمسات الآسرة التي تشده أنظار الملايين من عشاق اللمسات..

غداً تلبس "الجزيرة" في قطر حلة جديدة، من حيث الشكل.. ويظل سؤالنا الكبير: وماذا عن المضمون؟

مازلنا نتابع "الجزيرة"، أو فلأقل: مازالت الأغلبية تتابع "الجزيرة"، لكن أكاد أجزم أن هذه الأغلبية تجد الآن صعوبة حقيقية في أن تدعي أنها لا تزال تحمل لـ"الجزيرة" ذات الحب، أو تتحدث عنها بذات الحماس..

حتى لقد بدأ البعض يحدث نفسه بما كان يسمعه من شبه وحكايات عن مشروع غامض يقف وراء القناة، لا يصب في صالح العرب ومهمته حرف أنظارهم عن المكان الذي يجب أن تصوب إليه.. ثم لا يلبث هذا البعض أن يتعوذ من شر الشيطان وهمزه ولمزه ونفثه ..

ذلك أنه من الصعب أن نخسر حلة الفخار التي ارتديناها بسبب "الجزيرة" أوائل الأمر.. لكن مفاجئات تترى هنا وهناك صدمت الكثيرين وهزتهم في الصميم.. وأتى تدافع السنوات ليكشف عن أن ثمة سياقاً خلاباً وآسراً، لكنه غير مجد..

لقد فرضت "الجزيرة" قوتها، بحيث أصبح من الصعوبة على من يجد في نفسه ضرورة نقدها أن يتحدث عنها بشكل خال من التهذيب والتأدب مع أن في الصدر الكثير مما ينبغي أن يقال، خصوصاً وأن "الجزيرة" أصبحت صنو مصائبنا الكبيرة، وطالع نحس .. عبثاً نأمل أن يستدير جهة اليُمن..

باختصار:
تبدأ المقاومة من بناء الذات.
وتبدأ الحرية من العلاقة السوية بين المجتمعات والأنظمة.
ويبدأ الفرد من توافق المجتمع.
ويكون المجتمع حينما تكون الدولة.

لقد أصبح ممجوجاً ومثيراً للغثيان أسلوب الوقيعة بين الشعوب والأنظمة المنبثقة عنها أي كان وضع الانقسام والعناد والتضخم، أو كيفما كانت حدود الكبت..

كذلك: خلق مظلومية الشعوب (لا تنويرها) مرض لا يفضى إلا إلى العجز،
وجعل الناس تقول نصف ما تريد تضليل آثم..
والعزف على وتر "الممانعة" والعروبة والإسلام بطرائق توافق هوى العامة والهوام وسواد الناس.. وهو ما يجعل من هذا المنبر طبل تحريض على قدر عال من جمال الصوت وبديع الزخرفة..

تمتلك "الجزيرة" كل الفنيات والتقنيات النادرة قياساً بمثيلاتها، لكن أداءها في المحصلة، أو قل جزءاً كبيراً من أدائها، لا يفضي إلا إلى "التدويش" والتشويش إن لم ينجح أصلاً في بلورة السخط غير الملائم في الوقت غير الملائم، وضد أطراف ليست هي العدو.

و"الجزيرة" لم تطرح نفسها كمنبر إخباري محض، لكنها طرحت نفسها كمعادل حضاري لأشواق الأمة وكمتنفس لكل مختنق مقهور، وعلى هذا الأساس نحاكم أسلوبها في الوصول إلى ما تدعيه.. ومن الضرورة أن نقسو لأنها أصبحت، وبكل معنى الكلمة "سلاحاً ذا حدين"..

مؤسف أن تخسر "الجزيرة" ذوي النظر العميق وأصحاب الخبرة والدراية.. حتى وإن كسبت الملايين من المشاهدين الذين لا يفقهون أسرار المهنة.. أما اليوم فإني -على الأقل في اليمن- أشاهد نزيفاً حاداً في شعبية "الجزيرة"، وصدمة ألهمت الكثير أذناً ناقدة..

هذه الأنظمة العربية على علاتها هي آخر السياجات، ويقول التاريخ أن شعوباً بأسرها قد تزل.. وأحياناً يساق الملايين إلى خرابهم ظانين أنهم دخلوا للتو، بوابة الانعتاق الكبير..

التحريض دائماً سهل، ولا يحتاج لكل هذه الإمكانيات وكل هذه القدرات.. فلقد كانت قناة "الزوراء" بأناشيد بسيطة أبلغ من غياب "الجزيرة"، ولقد كان إرهاب الحوثيين في اليمن أبلغ من "اتفاقية الدوحة"، وصمود السودان أفصح من "حصاد اليوم".. ودماء العراق أظهر من معركة الرسوم المسيئة.. و"الفتنة أشد من القتل"..

يتطاير الكلام في الهواء، ويسكن الشيطان الحقيقي في الشريط المتحرك "أسفل الشاشة"، الذي لا يستقيم سوى سويعة واحدة في الهزيع الأخير من الليل..

قبل "الجزيرة" لم يكن السلاح الفلسطيني يوجه باتجاه الصدر الفلسطيني، وقبل "الجزيرة" لم يكن التمرد قضية رأي ولا القتل وجهة نظر.. وحبل التمويه أقصر من خيوط الدم العربي المسفوح على امتداد الروح، وانتصار حزيران كان هزيمة للاستراتيجيا وإهانة للعقول.. وغزة نقطة الشجن المضيئة في زحمة الغبش..

مع هذا كله، لم نزل على أمل صادق أن قناة "الجزيرة" في قطر مشروع عربي علينا استعادته من مخالب طهران.. تلك التي لا تحسن الكذب، رغم كونه جزءاً من الدين في اعتقادها..

لا نريد "الجزيرة" نسخة من تلفزيونات الحكومات، على أن الأخيرة مضارها أقل، قياساً بالهوان الذي بهرجته كثير من برامج "الجزيرة" بشكل يجزم البعض على أنه مقصود ومدروس..

"لقد خُدعنا"، سرعان ما انتبه الزحام البريء، ذلك الذي أصبح وعيه يتشكل على غير ما يهوى دهاقنة الكلام..

خُدعنا.. ولم نزل نحب خادعنا الذي قرر أن يستبدل حلته لا أكثر.

زر الذهاب إلى الأعلى