عندما زرت اليمن قبل سنوات قابلت المثقف العربي الكبير والشاعر الأكبر والإنسان شديد العذوبة عبدالعزيز المقالح، وقضيت معه جلسات طويلة... ومن يومها وأنا أريد الكتابة عنه. ثم أؤجل رغبتي لأيام مقبلة إلى أن عثرت على سور الكتب القديمة بالسيدة زينب «بالقرب من وسط القاهرة» على عدد من مجلة الطليعة... صادر في ديسمبر 1969 وعنوانه الرئيسي: هكذا يتكلم الأدباء الشباب في الوطن العربي.
وقد ذهلت أمام الذاكرة وما جرى لها. لأننا نذكر فقط العدد الخاص الذي صدر عن الأدباء المصريين الشباب في ذلك الوقت الذين أصبحوا أدباء الستينات فيما بعد. وكان عنوانه: هكذا تكلم الأدباء الشبان. وقد صدر في سبتمبر سنة 1969. ويعتبر هذا العدد شهادة ميلاد جيل كامل من المبدعين المصريين. وكلما رأيته تذكرت لحظات البداية وسألت نفسي: من يذكر تلك الأيام؟
ونسينا جميعا أو تناسينا أنه بعد ثلاثة أشهر صدر عدد خاص آخر عن الأدباء الشباب في الوطن العربي. إلى أن وجدت نفسي أمام العدد. هل هي الأنانية الشخصية؟ أم الشيفونية القطرية؟ أم الرغبة في نفي الآخر حتى لو كان هذا الآخر شقيقا لنا؟ توقفت أمام الشهادات. وبالتحديد شهادة عبدالعزيز المقالح... التي مضى عليها الآن أربعون عاما بالتمام والكمال. أي أن الطفل العربي الذي ولد وقت صدور هذا العدد عمره الآن أربعون عاما. أي أنه في طريقه إلى الكهولة الأولى. فكيف نسيت هذا؟، وماذا جرى لذاكرتي وأنا الذي كنت أقول عن ذاكرتي أنها ذاكرة أفيال. لأن الفلاح يتميز عن ابن المدينة بذاكرة قوية.
هذا ما نشرته الطليعة في مصر سنة 1969... أعيد نشر بعضه حتى يسأل الأشقاء العرب أنفسهم السؤال الذي واجهت به نفسي: من يذكر ذلك الزمان الجميل الذي مضى وانقضى ولن يعود بعد ذلك أبدا؟
الاسم: عبدالعزيز المقالح
السن: 29 سنة
إنتاجه الفني:
المنشور: مجموعة من القصائد والدراسات الأدبية والقصص القصيرة المنشورة في الصحف اليمنية والمجلات الأدبية العربية في كل من القاهرة وبيروت.
غير المنشور: «في طريق الشمس» ديوان من الشعر الحديث. «الجحيم... أفضل» مسرحية من أربعة فصول.
«9 شهداء عرفتهم»... في ذكرى تسعة مناضلين ماتوا لتعيش الثورة.
«شعر وشعراء من اليمن»... دراسة عن الشعر والشعراء في اليمن.
«شعب وخمسة رجال» دراسة محايدة لخمسة شخصيات يمنية لعبت أدوارا رئيسة في العهد الجديد.
كان السؤال الأول يقول: متي قامت العلاقة بينك وبين الفن الذي تمارسه الآن؟ ومتى بدأت الإنتاج فيه؟
وكان السؤال الثاني: ما هو المناخ الذي يسيطر على ممارستك لفنك من حيث:
العلاقة بينك وبين زملائك الفنانين والأجهزة والمؤسسات المتصلة بهذا الفن.
والعلاقة بينك وبين المجال الذي تعمل فيه سواء كان مجالا فنيا أو غير ذلك.
الموقف من الأجيال السابقة على جيلك وعلاقتك بها؟
وكان السؤال الثالث يقول: ما هي المؤثرات الاجتماعية والفكرية والفنية التي تشارك في إبداعك الفني؟ وأين تقف بهذه المؤثرات من قضية التغير الاجتماعي في بلادك بشكل عام وقضية العدوان الإسرائيلي وقضايا العالم المعاصر؟
أما الإجابات فقد نشرت تحت عنوان: شهادات واقعية:
إجابة السؤال الأول:
ترجع علاقاتي مع الأدب إلى ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه سر الحرف فقادني طفلا صغيرا إلى مضارب خيام بني عبس. حيث كان «عنترة» يلهو، ويسجل ملحمة البطولة العربية. ومن هناك ذهبت في رحلة لذيذة من «سيف بن ذي يزل» لإطلاق سراح النيل الخالد من سجن الساحرة، وبعد ذلك وجدت نفسي وجها لوجه مع ألف ليلة وليلة ثم مع الأدب الغربي، وأخيرا الأجنبي.
بدأت أول إنتاجي الأدبي وهو قصيدة حب وأنا في الخامسة عشرة وكانت من وحي قراءة الليالي.
إجابة السؤال الثاني:
من حيث العلاقة بالزملاء الأدباء فقد كانت ولاتزال علاقة ود وتشجيع متبادلين، علاقة تأثير وتأثر إلى أوسع مدى، وفيما يختص بالعلاقة مع الأجهزة والمؤسسات فلا علاقة تذكر... وفي الحقيقة لا يوجد في بلادنا حتى الآن مثل هذه الأجهزة والمؤسسات.
وفي مجال العمل تقوم العلاقة على أساس من التعاون التام الذي لا يخلو أحيانا من التناقض الجزئي، وربما الكلي نتيجة لاختلاف وجهات النظر إزاء موقف غامض أو قضية لم تدرس بما فيه الكفاية.
أما الموقف من الأجيال الفنية السابقة فيعكسه في الحقيقة موقف هذه الأجيال نفسها، وفيما قدمته وتقدمه من إنتاج يساعد على إثراء التجارب الفنية وتخصيبها أمام الأجيال القادمة، ومع ذلك فالصراع بين الأجيال قانون ثابت من قوانين الحياة الثابتة، ومن دونه تتجمد الحياة، ولكن ليس معنى هذا أنه حتمي وأننا لا نستطيع أن نتحاشاه أو نجعل منه حوارا ممتعا ومبارزة لا تسيل فيها قطرة دم ولا تغيب عن أبطالها أخلاق الفروسية للحظة واحدة.
إني أتمنى وأدعو أن يكون موقفنا من آبائنا وإخواننا الكبار «تقدير لا يصل إلى حد التقدير والتقليد ونقد لا يخرج عن الموضوعية والصدق، ولا يصل إلى حد العقوق».
إجابة السؤال الثالث:
التحولات الاجتماعية العظيمة في الجمهورية العربية المتحدة، وما ينبض به قلب وعقل العالم الثالث من موجات فكرية، ثم ما يتمخض عنه عالم اليوم من تطورات فنية حديثة في دنيا الأدب والفن، سواء على مستوى المسرح والسينما والرواية، أو على مستوى الشعر والموسيقى والتصوير، كل هذه المؤثرات تشدني إليها بعنف وتستأثر باهتمامي وربما كان ذلك شأن معظم أبناء جيلي... الجيل القلق المبهور.
أما أين أقف بهذه المؤثرات؟ فإني لا أجد جواباً أفضل من القول انه لا خير في أديب أو فنان عربي لا يعيش قضايا
مجتمعه وأحداث عصره ولا يوظف فنه وأدبه في خدمة القضايا التالية:
أولا: قضية الأمة العربية الخاضعة في معظم أقطارها لواقع شديد التخلف والخاضعة بأكملها لسلطان التقاليد البالية، والإقطاع الجائر، والتجزئة الرهيبة، والتي لا تزال للأسف أبرز مزرعة تتكدس على ظهرها وفي أعماقها مصالح الاستعمار بشكليه القديم والجديد.
ثانيا: في سبيل تحرير الوطن السليب فلسطين من قبضة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
ثالثا: من أجل إنقاذ العالم المعاصر من الأوبئة الفتاكة التالية والمتمثلة في: الاستعمار بأشكاله المختلفة، الرأسمالية، الإقطاع، العنصرية، الفقر، الحروب العدوانية.
تُرى ما هو رأي عبدالعزيز المقالح الآن في ما قاله قبل أربعين عاما مضت؟!
العنوان الأصلي: مشاهد / عبدالعزيز المقالح...