ينبغي أن تأخذ جريمة نضال مالك حسن وتصريح أنور العولقي المؤيد لهذه الجريمة حيزهما من التأمل والاهتمام والتحليل.. سواء على المستوى الإعلامي أو على مستوى النخب المفكرة وفقهاء الدين وخطباء المساجد..
كيف يقوم الطبيب بقتل مرضاه، وكيف يقوم الجندي باغتيال زملائه، وكيف يقوم العامل أو الموظف بخيانة جهة العمل، وكيف يجرؤ المواطن على طعن موطنه من الظهر؟؟!!!!
أياً تكن المبررات والظروف، فإن ما قام به الضابط الأمريكي المسلم (الفلسطيني الأصل) نضال حسن هو جريمة بكل المعاني الإنسانية، وهو عمل غادر لا يستحق فقط مجرد الإدانة والشجب، وإنما يستحق كذلك أن نمعن في تفنيد المنطلقات التي دفعته لارتكاب جريمة القتل الغادر بحق زملائه الثلاثة عشر الذين اقتطف أرواحهم بمسدسين في إحدى المستشفيات التابعة لقاعدة "فورت هورد" بولاية تكساس الأمريكية..
لقد كان يقتلهم بكلتا يديه، ولقد كانت رصاص الموت الغادر تنطلق من يمناه ومن يسراه، ولقد أراد قتل المزيد، إذ الجرحى والمعوقون برصاصاته يفوقون عدد القتلى..
ولعل في كونه طبيباً نفسياً في القوات المسلحة الأمريكية ما قد يغرينا بالاعتقاد أنه ممسوس بعدوى مرضاه، الذين كثرت مشاكلهم النفسية بعد حرب أفغانستان وغزو العراق. كذلك، لعل في كونه من أصول فلسطينية ما قد يخفف عنا، وبنسبة جد ضئيلة، وطأة الصدمة حيال هذه الجريمة..
أقول إن كان هناك من ملابسات ظنية لنضال مالك حسن، فلا شيء يبرر التأييد الذي أعلنه الإمام اليمني أنور العولقي لجريمة نضال.. ("الإمام" هكذا وصفته كافة وسائل الإعلام العربية والعالمية) والذي كان يتواصل مع مرتكب الجريمة عبر الإنترنت، بعد أن جمعتهما معرفة بسيطة على إثر خطبة تأثر فيها نضال بكلام أنور الذي كان هو الآخر داخل الولايات المتحدة. وهرب منها قبل 5 أعوام.
لقد أكد العولقي أنه لم يحرض نضال على قتل زملائه، وقال، في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية عبر صحفي يمني، بأن أخر تواصل بريدي بينهما كان قبل عام على وقوع الحادثة التي هزت الشارع الأمريكي في 5 نوفمبر الحالي.. لكنه قال إن ما فعله نضال هو أمر بطولي، حتى وإن كان غادراً لأن نضال –حسب تأصيله المغلوط- لم يقتل مواطنين عاديين، إنما جنوداً يتأهبون للذهاب إلى أفغانستان والعراق وقتل المسلمين هناك.
أنور العولقي ليس شخصية معروفة في اليمن لكن يبدو أنه من شاكلة الكثير من الإسلاميين "الجهاديين" الذين يحملون صدق العاطفة، وجمرة الغيرة، وينقصهم الفقه ومعرفة الخيوط الفاصلة بين المقاومة وبين الغدر والإرهاب.. ونسبة كبيرة منهم لم يتعرفوا على مبادئ لها موقعها العظيم من الدين، تتعلق بقيم الوطنية وواجبات المواطنة.. الأمر الذي يجعلهم يفسدون على أنفسهم غاياتهم، ويصبحون أعداء لأوطانهم الأصلية ولأوطان أخرى فتحت لهم أبوابها، وأقاموا فيها مساجدهم، وكسبوا فيها أنصارهم، وجمعوا منها أموالهم.. بصرف النظر عن سياسة حكومات تلك البلدان تجاه العرب والمسلمين.
هذه الجريمة تستحق منا أكثر من مجرد الإدانة والشجب، وهذا التأييد العولقي يستوجب منا أكثر من وقفة بغرض الربط والتحليل والتفنيد والتوضيح.. ولهذا الأمر شواهده العديدة، فالأرهاب الحوثي في شمال اليمن والمدعوم من إيران هو الآخر اكتسب أنصاره عن طريق شتم الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى هدى هذا الشتم واللعن راح يمارس القتل ضد عملاء أمريكا في اليمن، الذين هم في نظره جنود الدولة ومن ليس معهم من المواطنين..
القصة تطول.. ونقاط التأمل فيها لازالت مزرعة خصبة لغرس شتلات الحكمة والموضوعية والفهم السليم، فما أسهل التحريض، وما أصعب زرع الاعتدال، ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن أمريكا، بل بصدد الدفاع عن إسلامنا الذي لا يقر هذه الأعمال..
على من يجد في نفسه ذرة من غيرة على هذا الدين أن يسهم في التخفيف من قدرة هذا الخطاب التحريضي على الحشد، ذلك أن معاداة الغرب، تجمع اليوم مقاتلي الحوثي مع فصيل من مقاتلي القاعدة، الذين يدينون بفضل كبير للحوثي، لأن تمرده أكل جزءاً من اهتمام الدولة بملاحقتهم..
والقتل هو القتل، لا دين له ولا مذهب، ولهذا نجد في كتاب الله العزيز فرقاً واضحاً بين القتل والقتال..
هنالك اختلال في موازين التفكير وفي أولويات النهوض، وهنالك اضمحلال لمفهوم الحضارة في أذهان الكثير من الغيورين، الذين لم يتتلمذوا جيداً على أيدي علماء كبار، وإنما تلقوا محاضرات تحريضية تجعلنا في أعينهم بلا غيرة ولا عزة ولا كرامة ولا إحساس ولا فهم..
كذلك لم يجلس هؤلاء طويلاً مع كلام الله عزوجل، وبعضهم اليوم يجد صعوبة في الاقتناع أنه كان طيلة السنوات الماضية على خطأ..
وفي المقابل هنالك تقصير مشين من قبل حكوماتنا العربية في استيعاب الشباب، وبلورة المشاريع الوطنية الجامعة التي تذوب في ظلها كل الدعوات الكسيحة وكل الحركات الضارة.
ولهذا يجتمع ضياع الرؤية لدى المجتمعات مع غياب المشروع لدى الحكومات، لتكون المحصلة في النهاية سلسلة من الأخطاء لأفراد وجماعات يحاولون أن يعوضوا بمفردهم هذا الغياب فيعكسون نظرة خاطئة عن بلدانهم وديانتهم.. وتأتي الملابسات من هنا وهناك لتزيدهم إيماناً بما هم عليه وتزيد الآخرين قناعة بأنهم أصبحوا حالة ميؤوساً منها.
وأختم بقصة مقطع فيديو شاهدته صباح أمس لمذيعة بريطانية سالت دموعها وهي تسمع الآذان في إحدى مدن المملكة العربية السعودية .. كانت الصورة أبلغ من كثير من رقائق الدعاة وحماسيات الجهاديين. فالدين لا يعرف الجغرافيا، والإيمان لا يدخل إلى القلوب عن طريق شفرة لون العين..
هنالك خلل كبير..