عندما نكتب خواطرنا وبعض ذكرياتنا المتعلقة في وطننا واليمن وقادته فإننا نكتبها لأبنائنا الذين لم يكونوا بالأمس معنا ولم يرو ما أبكانا وما أفرحنا..
لذلك نحن نقدم إليهم خلاصة ذكرياتنا لتكون لهم الضوء والمرجع في غدهم وليفعلوا هم مع أبنائهم ما فعلناه نحن معهم فذلك ما تعلمناه نحن من آبائنا واستفدنا منه كثيرا في حياتنا من بعدهم.. لهذا السبب وحده وليس من اجل إرضاء زيد أو إغضاب عمرو.. فهذا تاريخ ويجب أن يظل مجردا كما هو بأحداثه السعيدة منها والحزينة.
في عام 1972م يا أبنائي كنت في - الصف الثالث الابتدائي احرص مثل بقية أقراني على قراءة وتبادل مجلتي (ميكي وسمير) في تلك المرحلة من العمر وفي ذات مرة كنت واقفا بجانب مكتبة " الشيباني " الشهيرة أمام مسجد النور في " الشيخ عثمان " وفجأة توقفت سيارة (لاند روفر) طربال مكشوفة الجوانب.. عليها أربعة جنود بسلاحهم يجلسون في الخلف ورجل واحد يجلس بجانب السائق ، نزل السائق وأخذ يتكلم مع صاحب المكتبة / عبد الله إسماعيل الشيباني يرحمه الله..
في تلك اللحظة بقيت أنظر في وجه ذلك الرجل الذي لم ينزل ، اقتربت منه أكثر لأطابق صورته الموجودة في رأسي من التلفزيون مع ما هو أمامي ، الرجل شاهدني وأنا اقترب منه خطوات وأتوقف محملقا فيه بانبهار.
نظر إليّ وحياني بابتسامة ودودة ، تشجعت فاقتربت منه أكثر ومددت إليه يدي وصافحته قائلا : أشوفك كل يوم في التلفزيون.. فتبسم الرجل أكثر وفتح باب السيارة إلى النصف بما يكفي لتقريبي إليه وضغط علي يدي وسحبني إليه أكثر ثم مسح على رأسي بحنان أبوي لن أنساه ما حييت وسألني : عن اسمي واسم أبي وبأي فصل دراسي أنا وماذا يعمل والدي وهل أنا شاطر بالدراسة أم لا..
ثم عاد السائق بمجموعة كبيرة من الجرائد والمجلات الأسبوعية التي كانت تأتي من لبنان ومصر والكويت في ذلك الزمن الجميل ، وما إن استوي السائق على مقعده ووضع الجرائد بجانبه في المقعد الشاغر بينه وبين الرجل وأغلق بابه حتى رأيت الرجل يخرج من جيبه ورقة نقدية من فئة واحد دينار (عشرين شلن) ويدسها في جيبي الصغير..
حاولت أن ارفض وأعيدها فضغط على يدي وجيبي معاً لمنعي من إخراجها ودفعني برفق من جانب الباب وأغلق الباب وحياني مودعا بالقول كن شاطر في دراستك يا بطل.. شعرت لحظتها وأنا في جيبي الصغير عشرين شلن أنني أغنى واحد في العالم ، فقد كان المبلغ كبيرا على طفل مثلي في تلك الفترة حيث كان مصروفي المدرسي نصف شلن وكان يكفيني بالزيادة..
انه رئيس الوزراء يومها ، الرجل المحبوب ذو الشعبية الجارفة والابتسامة الودودة ، الشديد التواضع واللطف مع الجميع فخامة الرئيس / علي ناصر محمد (أبو جمال) حفظه الله ورعاه.. هذا الرئيس بالذات كان العنوان الحقيقي الأبرز في تجسيد اتفاقيات الوحدة في عهده على قصر المدة التي قضاها رئيسا.. 80 / 86 م ففي عهد هذا العلم الوحدوي الأصيل الشامخ تسارعت الخطى الوحدوية بشكل غير مسبوق قياسا مع قبلها ، ولم يحدث أي صدام عسكري في عهده بين الشطرين..
حيث تم الاتفاق على وقف الأعمال العدائية بين الشطرين أولا ثم تعززت الثقة بزيارة الأخ الرئيس إلى عدن عام 81م وتمخضت عنها وقف دعم (الجبهة الوطنية) لوجستيا أو إمدادها بالمال والسلاح والتي كانت تقوم بأعمال تخريبية في الشطر الشمالي وتحديدا في المناطق الوسطى مثل دمت ،جَُبن ومريس ، وأيضا شرعب ، ريمة ، جبل رأس ، مأوية وغيرها..
كذلك تم تنشيط حركة تبادل السلع ذات المنشأ الوطني مثل السجائر وغيرها عبر نقطة كرش/ الشريجة ، وأيضا السماح بتجارة الترانزيت عبر ميناء عدن إلى الشطر الشمالي عبر طريق مكيراس/ البيضاء ، وتم خلال هذه الفترة تكثيف زيارات المسئولين إلى الشطرين وفتح خطوط التواصل الهاتفية للمواطنين عبر مكاتب الاتصالات وكذلك تطورت الخدمة البريدية بين الشطرين إلى الأفضل ، كما تم تأسيس المجلس اليمني الأعلى للوحدة الذي عقد أكثر من دورة في عدن وصنعاء وتعز برئاسة الرئيسين ناصر وصالح ، وشارك المسئولون في كلا الشطرين في حضور الاحتفالات الوطنية في الشطر الآخر وعلى أعلى المستويات...
وفي هذه الفترة بالذات تعززت الثقة وتبودلت المعلومات بين الشطرين في الداخل والتنسيق الواحد في المحافل الدولية على أعلى المستويات واستطاعت العائلات في الشطرين تبادل الزيارات مع الأهل بشكل أفضل بكثير مما كان عليه الحال في السبعينات ، باختصار كانت مرحلة الرئيس / علي ناصر محمد هي المقدمات والبشائر الحقيقية الأولى للوحدة التي عشناها في تلك الفترة ، ولولا أحداث 13/ يناير المؤسفة لكانت تحققت الوحدة في عهد (العليين) ناصر وصالح كما كان يشاع شعبيا بقوة يومها أن الوحدة ستتحقق في عهد العليين وهذه مقولة سمعتها أول مرة في العام 1978 بعدما تولي فخامة الرئيس الحكم بشهور ،
وهناك أمور كثيرة حدثت من أجل محاولات إعلان الوحدة في تلك الفترة ولكن كانت هناك بعض الصعوبات ضمن حسابات القوى الدولية يومها في سياق الحرب الباردة الذين كانوا يقفون في وجه تحقيق ذلك الهدف الأغلى والأسمى..
لكن ما يحزن النفس لدرجة القهر أن يربط / علي سالم البيض تحقيق الوحدة بخروج الرئيس / علي ناصر محمد من صنعاء أولا كشرط غير قابل للنقاش والتفاوض !! ولأن (أبو جمال) كان وحدويا حتى النخاع من قبل كل الوحدويين في الوقت الضائع الذين أدركوا ركوب قطار الوحدة في آخر عربة فيه..
فقد أعلنها الرئيس /علي ناصر يومها من صنعاء قائلا ((إذا كانت مسألة بقائي في صنعاء وخروجي منها هو العقبة الوحيدة أمام تحقيق الوحدة فأنا مستعد للمغادرة مع أول طائرة إلى خارج الوطن من أجل تحقيق هذا الحلم العظيم الذي انتظرناه طويلا وساهمنا بما استطعنا من موقعنا في الرئاسة في عدن على تسريع الخطوات وتذليل العقبات للوصول إلى هذا اليوم التاريخي الخالد)) وفعلا كان الرجل كبيرا وعظيما عند كلمته فقبل أن يضحي بأحلامه في العودة إلى الرئاسة في عدن من اجل تحقيق الهدف الأعظم لليمن.
ولم يعد فخامته إلى اليمن سوى في النصف الثاني من التسعينات بعد خروج البيض وجماعته الانفصالية من الوطن.. وكما تدين تدان.. لكن المستغرب له اليوم هو بقاء هذا الزعيم الوحدوي والرمز الوطني خارج الوطن في الوقت الذي يكون الوطن بأمس الحاجة لوجود وقامات وهامات وطنية وحدوية مخلصة مثل (أبو جمال) تشارك في بناء الوطن الوحدوي وتنميته وتعيد له هدوئه واستقراره..
شخصيا أوجه إليه هذه الأغنية الأثيرة في نفسه كما علمت :
دعوة الأوطان.. حين يدعوك (عيبان) أو جبل شمسان.. استجيب في الآن يا فؤادي المعذب.. سيبك النسيان..
حبي في القلب راسخ.. للجبال الشوامخ.. ذي تربيت فيها وانقضى لك بها شأن.. حان الوفاء حان...
لك بها أصحاب.. يذكرونك إذا شاع القمر أو غاب.. عيشهم ما طاب.. شملهم ما تجمع.. صفوهم ما زان...
كنت فيها طير.. كنت تسرح وتضوي بالأمل والخير.. ما تهم الغير.. من روى عنك يروي.. صدق أو بهتان...
لك عليهم دين.. لك محل ما تغير في سواد العين.. أنت منه وين.. أنت في الشِعِبْ الأخضر تقطف الأغصان...
عُد إليهم عُود.. عٌد لتلك المراعي في الجبال السود.. واللقاء معيود.. وأنت ما زلت راعي ذاكر اللي كان.