[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

لغم الجيش المهني : من زرعه؟ ومن يروج له؟ (3)

ما أحلى النوم لو استطاع الإنسان أن يختار أحلامة (مثل)

الجيش المهني متى ينشأ؟ حالتا أمريكا واوربا الغربية

الجيش المهني يمكن أقامته في مجتمعات ودول مستقرة تحكمها مؤسسات دستورية ثابتة ومقبولة من الشعب، لذلك فان وجود جيش عقائدي ليست ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية واتحاد اوربا واستراليا وغيرها تطور وتكون نظام دستوري راسخ أزال الحاجة للانقلابات والتأمر المسلح بعد الانتقال من نظام دولة ما قبل الامة، والتي كانت تحكمها قوة القبيلة والدين والمناطقية والعرق والطائفة وغيرها، إلى نظام الدولة القومية أو الدولة الحديثة التي انصهرت فيها كل علاقات ماقبل الامة. لقد ادت الثورة الصناعية في الغرب إلى صهر مكونات المجتمع المختلفة وتفاعل ثقافاتها وتحولها إلى ثقافة الامة أو ثقافة الوطن الواحد. أضافة لذلك فان الصراعات والحروب الدموية المهلكة التي شهدتها اوربا لمدة حوالي 300 عاما بلورت ثقافتين : ثقافة التعايش وقبول الاخر وثقافة الاحتكام إلى الديمقراطية وقبول نتائجها وتبادل السلطة.

قبل هذه المرحلة كانت القوات المسلحة خاضعة للملك أو لرجال الدين في ظل غياب نظام المؤسسات، لذلك اتسمت تلك المرحلة بالدسائس والانقلابات الدموية في حالات عجز الملك عن السيطرة، وكانت القوات المسلحة بؤرة التأمر والدسائس والقوة التي تحسم الصراعات وليس الحق أو القانون أو العدالة. ان مبدأ القوة هو الذي حدد دور القوات المسلحة قبل ظهور نظام المؤسسات الدستورية.

ويرتبط بذلك ضرورة تذكر ان المجتمع الغربي (اوربا وأمريكا الشمالية فيما بعد) انتقل عبر عشرات السنين من حالة الخضوع لتقاليد وقيم الروابط العشائرية أو الدينية أو العرقية أو المناطقية أو العائلية، إلى تقاليد مجتمع رأسمالي زالت فيه التاثيرات الاساسية لعلاقات ما قبل الامة واصبح المجتمع ينظر اليها على انها بقايا نظام رجعي لم يعد الزمن يتقبله.

أذن الجيش تتقرر وضعيته وطبيعته في ضوء درجة التطور الاجتماعي والثقافي والقانوني، ففي حالة توفر مجتمع مستقر تحكمه قوانين مجتمع الامة المستقرة على اساس حكم دستوري تبرز بقوة الطبيعة المهنية للجيش وتفرض نفسها لان الجيش يكون متحررا من التأثيرات غير الدستورية وتابعا لمن يفوز في الانتخابات ومتقيدا بامر رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية المنتخب، لذلك لا يخاف احد من انحياز الجيش لطرف غير شرعي.

ان النموذج الاوربي الغربي والنموذج الأمريكي يقدمان لنا صورة واضحة عن الجيش المهني، ففي اتحاد اوربا استقر مجتمع الدولة القومية لعدة عقود وازال علاقات ماقبل الامة، وتطور الوعي الاجتماعي فيه إلى درجة قيدت المؤسسة العسكرية تماما وصارت تابعة كليا للقيادة السياسية المنتخبة، اما في الولايات المتحدة فبالرغم من عدم تبلور الدولة القومية فيها، لكونها امة في طور التكون، فان علاقات مصلحيه خاصة، فرضتها طبيعة تشكيل أمريكا بصفتها دولة مهاجرين متناقضوا الهوية الثقافية والقومية، حلت محل قوة شد الدولة القومية. ان مفهوم المصلحة في مجتمع مهاجرين جدد خلق رابطة مصلحة مباشرة بينهم حلت محل الرابطة القومية، ونجحت هذه التجربة حتى القرن الحادي والعشرين لان أمريكا كانت دولة رفاهية توفر الفرص لتغيير حالة الانسان تبعا لقدراته - دون ان ينفي ذلك الطابع الاستغلالي للدولة الراسمالية في أمريكا – فاصبح المواطن الأمريكي ملتزما بدستور اتحادي وقوانين ولاياتية لانه تعلم بان وجوده في أمريكا من اجل مستقبل افضل يفرض عليه التقيد بدولة قانون ومؤسسات.

وكان العامل المساعد على تلاحم المجتمع الأمريكي هو انحدار المهاجرين الاوائل من مجتمعات متطورة ومتبلورة ديمقراطيا ومؤسساتيا، مثل بريطانيا، فنقلوا ثقافتهم تلك إلى العالم الجديد وفرضوها ولم تكن هناك حاجة للمرور بمراحل التطور القاسية التي مرت بها اوربا لتصل إلى ثقافة مجتمع الدول القومية. ان الدولة الأمريكية تتميز بصفة فريدة وهي انها ليست دولة قومية في الواقع ومع هذا فانها تشبة الدولة القومية نظرا لصلتها باوربا ودور الهجرة في نقل الثقافة والتقاليد الاوربية اليها لدرجة ان المهاجرين من ثقاقات اسيوية وأمريكية لاتينية كانوا يذوبون في تلك الثقافة حتى نهاية القرن العشرين، ثم تغيرت الصورة وبدأت ثقافة الاسيويين واللاتينيين تفرض نفسها فادى ذلك إلى الكشف بقوة عن الطبيعة الترقيعية للمجتمع الأمريكي وكون المصلحة هي (السوبر جلو أو الكريزي جلو) – اي الصمغ الشديد القوة – الذي يربط الأمريكيين وليس ثقافة الامة أو رابطة الامة.

من هنا فان مهنية جيوش أمريكا واتحاد اوربا نتاج تطور طويل ادى إلى استقرار نظام المؤسسات الذي ازال امكانية تحرك الجيش داخل أمريكا واوربا لقلب نظام الحكم بدافع سياسي أو قبلي أو عائلي أو ديني أو طائفي.

الجيش التركي هل هو جيش مهني ام عقائدي؟

يعتقد البعض ان الجيش التركي جيش مهني محترف حفظ تركيا من التمزق منذ سقوط الدولة العثمانية، ولذلك يرى ان الجيش العراقي يمكن ان يصبح بعد التحرير مثله مؤسسة مستقلة عن الاحزاب السياسية وتحفظ الدستور. لكن هذا البعض مخطأ لان الجيش التركي جيش عقائدي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. فالمؤسسة العسكرية التركية قامت على اساس المحافظة على الاتاتوركية ومنع زوالها، فالتزمت المؤسسة العسكرية بهذا الهدف وحافظت على الديمقراطية بقدر ماكانت الديمقراطية تحترم الاتاتوركية وتعمل ضمن اطارها ولا تخرج عنها. لقد اعدم عنان مندريس عندما حاول الخروج على الاتاتوركية، وازيح نجم الدين اربكان عندما حاول مس العلمانية التركية، وحرمت احزاب ومنعت من العمل عند الشك في انها تحاول تدمير النظام العلماني الذي اقامه اتاتورك، وما يتعرض له حزب العدالة الحاكم الان من ضغوط يؤكد ان الجيش بني على اساس عقائدي من اجل حماية العلمانية التركية ومنع التخلص منها حتى بالوسائل الديمقراطية.

نعم الجيش التركي جيش مهني لكنه جيش مهني ملتزم بعقيدة سياسية صارمة ويخدم هذه العقيدة صراحة وبدون لف أو دوران، ولذلك فهو منحاز للعلمانيين ويقف ضد مناهضي العلمانية.

التجربة التاريخية العربية

اذا بحثنا في تاريخا القومي العربي أو الوطني العراقي وجدنا ان القوات المسلحة لم تكن في يوم من الايام مهنية، خصوصا في فترة الرسالة المحمدية الكريمة، اذ ان جيوش المسلمين كانت عقائدية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وكان الاستشهاد في سبيل الله ونشر العقيدة الاسلامية هو المحرض الجبار للجيوش. اما بعد ذلك فان القوات المسلحة اعتمدت على توجه القيادة السياسية – الخليفة – ولذلك كانت القوات المسلحة عقائدية في حالات عديدة، مثل مواصلة نشر الدعوة الاسلامية في العالم. لكن ما ان نشأت الدولة العربية الاسلامية واكتملت اركانها واصبحت قوة عظمى، سواء الاموية أو العباسية حتى اخذ الجيش يتغير فاصبح اداة الخليفة مباشرة في تصفية صراعاته الداخلية وتحقيق فتوحاته. كانت الدولة الاسلامية تقوم على القوات المسلحة في المحافظة على امنها واستقرارها، ولذلك كان ارتباط القوات المسلحة برأس السلطة امرا بديهيا وذلك لغياب المؤسسات والتقاليد الدستورية الواضحة. لقد حلت اجتهادات راس الدولة محل الدستور والمؤسسات، لذلك كان النظام استبداديا ديكتاتوريا طوال فترة الحكمين الاموي والعباسي.

ومن يظن ان هذا التقويم فيه اساءة مخطأ ففي ذلك الوقت لم يكن هناك بديل ناضج يحل محل الديكتاتورية والاستبداد، لان الدولة تكونت بالفتوحات والدين نشر بالسيف بالدرجة الاولى، والخليفة جاء بالسيف ثم بالوراثة، والتي اعتمدت بدورها في ديمومتها على السيف، الامر الذي جعل من يرفض يسكت أو يلجأ لاسلوب التأمر السري، والذي يتطلب اتباع (مبدأ التقية) كما فعل البرامكة، أو انتظار الفرصة للانقضاض على راس الدولة، كما فعل المماليك من قادة الجيش (المماليك قادة وضباط الجيش الاسلامي الذين اخذوا من عوائلهم اطفالا بعد فتح بلدانهم، وتربوا في مركز الخلافة على الفنون العسكرية والقتال والولاء للخليفة وكانت اصولهم القومية مختلفة فكان بينهم الروسي والاوربي والفارسي وغيرهم).

ان ما حصل للخلفاء العباسيين في اواخر فترة دولتهم من قتل واذلال على يد ضباط الجيش الذين جندوا من بين من اسر أو اخذ طفلا من بلدان اجنبية وربي فاصبح جنديا مرتزقا اي تابعا ومطيعا للخليفة، في عهد قوته دون ان تكون لديه ثقافة قومية متبلورة وقوية ومتحكمة به فحلت محلها نزعاته الخاصة ومصالحه الخاصة، ولكن ما ان تفككت الدولة وضعف الخليفة حتى قفز المماليك إلى راس الحكم بواسطة القوات المسلحة التي كانوا يقودونها وتفككت الدولة وصارت ممالك وامارات يحكمها ضباط اغلبهم من اصول غير عربية.

ان الدرس التاريخي، في مجال دور القوات المسلحة، لتجربة الدولتين الاموية والعباسية هو ان القوات المسلحة مالم تكن عقائدية واضحة الهوية فانها سوف تتحول إلى اداة بيد المغامرين والباحثين عن السلطة والمال وذلك لغياب المجتمع المدني الذي يكون الولاء فيه لدستور وقوانين وتقاليد عامة راسخة تتجاوز القبيلة والطائفة والعائلة وغيرها. وعقائدية القوات المسلحة تقترن برأس الدولة وهو الخليفة وقتها، فاذا كانت عقائدية وتابعة للرأس فانها تصبح اداة تغيير ثوري وحاسم يصنع التاريخ.

نصل الان إلى السؤال الحاسم وهو : هل تصلح مهنية القوات المسلحة للعراق وقواته المسلحة؟ ان الجواب الصحيح مستبعد مالم نتذكر السمات التي تميز العراق كقطر وشعب وكموقع جيوبولتيكي والتي شرحناها فيما سبق. ان العراق الحديث الذي تكونت دولته الجديدة بعد خضوعه لقرون للحكم الاجنبي، محكوم بقانون مطلق وهو قانون بيئته السكانية الجغرافية والثقافية والسايكولوجية والتاريخية، وهي بيئة معقدة جدا وتختلف عن بيئة اي قطر عربي اخر، لذلك فهي بيئة خاصة جدا وتحتاج لنظام خاص ينسجم مع هذه البيئة الخاصة، من جهة، ويستطيع التحكم فيها وتوجيهها لصالح شعب العراق والامة العربية، من جهة ثانية. وهنا نذكّر بما قدمه التاريخ العراقي لنا من حقائق ثابتة : -

1 – لم يتقدم العراق أو يبدع حضاريا ولم يصبح قويا الا اذا قام فيه حكم مركزي قوي جدا يسيطر على الاطراف بلا اي منازع أو عائق كما يسيطر على الوسط والقلب. ان العراق القوي والصانع للحضارات كان العراق القوي عسكريا ايضا، وكانت القوات المسلحة هي الاداة الرئيسية في التغيير لصالح التقدم الحضاري.

2 – لم يبرز العراق قويا الا حين كان يحكمه خليفة أو قائد وطني يتجاوز الاعراق والديانات والطوائف ويسلك طريقا يخدم الجميع ويمثل تطلعات الجميع بلا تمييز على اي ساس عرقي أو ديني أو طائفي أو مناطقي (جهوي).

3 – لم تصبح القوات المسلحة قوة ضاربة وفاعلة الا حينما امتلكت الخبرة المهنية العسكرية. ان الجيش المهني الذي يتقن فنون القتال هو وحده الذي يجعل العقيدة قادرة على البقاء والانتشار، فالمهنية هنا احد اهم الشروط الرئيسية للنصر والاستقرار والديمومة.

4- لقد كان نشوء الحضارات العظمى في العراق نتاج وجود قوة عسكرية مهنية ولكنها خاضعة لعقيدة ما، فالاشوريون مثلا كان طموحهم هو اقامة امبراطورية عظمى في المحيط وخارجه، ونجحوا في ذلك بفضل نزعنهم العسكرية التي اسست اعظم امبراطورية عسكرية في التاريخ.

5 – كان عنصر الجذب والتوحيد بعد العقيدة الدينية والهوية القومية هو دور الخليفة أو القائد، فالقائد القوي هو الذي يستطيع الاستفادة من القدرات الكامنة أو الظاهرة وتسخيرها لتحقيق اهداف عظمى داخلية وخارجية، لذلك فان ضعف القائد لابد ان تعقبه ظاهرة تفكك الدولة وتدهور مكانتها.

وفي العصر الحديث رأينا كيف ان العراق كان ضعيفا منذ العشرينيات وضاع دوره واصبح تابعا لبريطانيا وسياساتها، بعد ان اقامت بريطانيا فيه نظام حكم ضعيف عمدا وحرمته من فرص امتلاك القوة، لقد كانت قوة العراق تحت الحكم البريطاني مستمدة اما من بريطانيا أو من حلف خارجي هو حلف بغداد، اما القوة الذاتية للعراق فقد حجمت عمدا من قبل بريطانيا، كما حجمت عملية الاستفادة من موارده المادية والتي كانت تؤهله للتحول إلى قوة عظمى اقليميا. ان الملك كان دوره شكليا منذ فيصل الاول، وكان الدور الرئيسي للبريطانيين مباشرة أو عبر رجالاتهم كنوري السعيد، والاخير وكما اكدت التجربة التاريخية كان غير مسموح له بتمكين العراق من استغلال قوته الكامنة، والمثال على ذلك هو مطالبته الكويت ورفض بريطانيا ذلك. وبعد ثورة 14 تموز عام 1958 ادخل العراق جبرا في مأزق الصراعات العراقية – العراقية من اجل استنزاف طاقاته ومنعه من استثمار موارده المادية والبشرية الكبيرة من اجل بناء دولة قوية متقدمة.

لقد بقي العراق ضعيفا محكوما بعملية استنزاف قاتلة فهمش دوره الاقليمي والدولي وازداد فقر شعبه وتعمقت اميته وفرخت فيه شبكات التجسس إلى ان حصل التحول الكبير في عام 1968 بقيام ثورة 17 تموز الوطنية والتقدمية، والتي قلبت وضع العراق رأسا على عقب، وانهت فترات الضعف والتهميش والاستغلال والتبعية. ان العراق الجديد القوي والمتقدم الذي اسسه البعث كان متقدما وقويا ومبدعا إلى درجة اضطرت بسببها القوى الاستعمارية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وبدعم صهيوني شامل وكامل، لتحشيد قواها العامة وقوى دول كثيرة لشن سلسلة حروب ضده منذ تأميم النفط في عام 1972 وصلت حد اشتعال حرب عالمية ثالثة في عام 1991 توجت بغزو العراق في عام 2003 ومازالت مستمرة حتى الان.

ان السؤال الذي لابد من طرحه هو : لم اضطرت هذه القوى الاستعمارية التقليدية ومعها دول عديدة للتحالف وخوض حروب مكلفة جدا وخطرة جدا كما اثبتت تجربة غزو العراق؟ ان الجواب الحاسم والواضح هو ان العراق بقيادة البعث تحرر من قيود الغرب الاستعماري ووضع اسس دولة عظمى اقليميا مفتوحة للتحول إلى دولة عظمى عالميا اذا نجح عامل اغراء بقية العرب للتوحد في اطار دولة عربية واحدة.

لقد عرفت قيادة البعث سر الاسرار البسيط وهو ان العراق لا يمكن ان يتقدم ويتحرر فعلا الا اذا كان قويا عسكريا، فالقوة العسكرية هي المقدمة الضرورية والشرط الحاسم للقضاء على العامل الخارجي الذي يمنع التقدم وتفجير الطاقات الابداعية للشعب العراقي. وهنا يبرز دور القوات المسلحة في تحقيق المشروع القومي العربي وليس فقط تحقيق مشروع النهضة القطرية العراقية من خلال تأهيل القوات المسلحة عقائديا.

يتبع

*كاتب وسياسي عراقي
كتبت في تموز 2009 ونقحت يوم 16 / 10 / 2009 واجل نشرها لاسباب قاهرة
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى