صادف أمس الأربعاء العاشر من ربيع أول، الذكرى التاسعة والستين وستمائة في التاريخ الهجري، لولادة الإمام أحمد ابن تيمية الحراني، المولود في العاشر من ربيع أول في عام (661).
وبمناسبة هذه الذكرى، نستعرض في وقفات سريعة أهم ملامح شخصية ابن تيمية وأسباب حضوره القوي في الذهنية الإسلامية السلفية.
- لا جدال على عظمة شخصية الإمام ابن تيمية وأهميتها،وقوة تأثيرها في الثقافة الدينية العربية والإسلامية،والتأكيد هنا على العظمة لا علاقة له بتصويب مذهبه أو تخطئته، إذ يكفي للتدليل على هذه العظمة،هذا الانقسام الشديد بين مادحيه وناقديه،ويكفي للتدليل على ذلك أننا اليوم وبعد ستمائة وسبعين سنة من مولد هذا الإمام العظيم لا نزال نشعر بحضوره الكبير وتأثيره الخطير في الثقافة الدينية يستوي في هذا الشعور المادحون والناقدون.
- لا يختلف المادحون والناقدون للإمام ابن تيمية على شجاعة هذا الإمام العظيم وتحرره من ربقة التقليد،و صنمية تقديس أراء العلماء،وجراءته في إعلان ما يراه حقاً،ولو أغضب العوام وأسخط عليه الخلق ،وقد دفع الإمام ابن تيمية ضريبة قول الحق،فغضب عليه علماء عصره وأتباعهم من المقلدين وحاربوه، و ناصبوه العداء و التكفير وحرضوا عليه العوام، وكان يواجههم بالحجة والبرهان ويواجهونه بالتكفير وتأليب العوام و السلطان، وهذا دأب الكهنوتيين في مواجهة خصومهم في كل عصر ومصر،{أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون} وقد دخل الإمام ابن تيمية السجن أكثر من مرة بتحريض من العلماء المتألهين الذين يرفضون الموجهة بالحجة والبرهان ولا يستطيعون مناقشة خصومهم إلا في منابر أحادية تغيب فيها المناظرات العلمية التي يحضر فيها أصحاب وجهات النظر المختلفة،لا يستطيع هؤلاء المتألهون مواجهة مخالفيهم إلا بعد تكميم أفواه مخالفيهم وإلقائهم في غياهب السجون و عند ذلك يطمئنون على كهنوتيتهم ويبدأون الهجوم على مخالفيهم في أجواء يصدق عليها قول الشاعر"خلى لك الجو فبيضي واصفري"وحينئذٍ يستطيع أهل الأهواء تحريف كلام خصومهم كما يريدون والنيل منهم بعد نجاحهم في تأليب السلطات الرسمية على خصومهم ويتجاهل هؤلاء الأغبياء أن جنة الأحرار في صدورهم، فماذا يفعل أعداؤهم بهم، إن سجنهم خلوة، ونفيهم سياحة، وقتلهم شهادة، لو يعلم الملوك وأرباب الملوك من علماء السلاطين ،ما يغمر قلوب الأحرار من السعادة لجالدوهم عليه بالسيوف،ولكن هيهات هيهات..فالنفوس المليئة بالغيظ على الآخرين الحريصة على إقصائهم المسكونة بعقدة الثأر والتشفي بالمخالفين والخصوم، لا يمكن أن تدرك سعادة أهل الحق وأنصار الرأي الحر المتجرد لله الخالص من شبهات ممارسة الكهنوت .
- لم يكن أعداء ابن تيمية هم الفقهاء وحسب، فقد واجه ابن تيمية فلاسفة عصره من أرباب علم الكلام، وكان في نقده لهم فيلسوفاً عظيماً مع أنه كان يرفض أن يُنسبَ إلى الفلسفة لأن العقل الفلسفي كان يضع نفسه منافساً للنقل الديني لا رديفاً له، و كان العوام يعتقدون أن الفلسفة نقيض الدين ولهذا كان الفيلسوف والفقيه المسلم ابن رشد- قبل ابن تيمية بمائة عام تقريباً- يحرم الكلام مع الجمهور في المسائل الفلسفية ويرى ذلك بمكانة إعطائهم السمّ ، وإن كان غذاء لغيرهم كما قال"الإفصاح بالحكمة -أي الفلسفة-لمن ليس بأهلها ، يلزم عن ذلك بالذات إما إبطال الحكمة ، وإما إبطال الشريعة..
والصواب ألاّ يصرح بالحكمة للجمهور"ويشير أبو حيان التوحيدي- قبل قرنين من مولد ابن تيمية-إلى أن رؤوس الفلسفة في وقته كانوا حذرين من تسرب مباحث وآراء الفلاسفة إلى العوام ،مما لا يظهر توافقه مع الشائع من أحكام الدين،وكان في عصر ابن تيمية من الفلاسفة المتطرفين من يرون أن الفلاسفة خير من الأنبياء، وكان من الطبيعي أن تتصادم الفلسفة بالدين،لأن الفلسفة كانت تضع قواعد عقلية، وتؤكد صرامة هذه القواعد واطرادها، فإذا تناقضت هذه القواعد مع أصول أو فروع دينية، تضحي بالديني لصالح الفلسفي، مع أن هذه القواعد نتاج عقل بشري قاصر، ولهذا سرعان ما كانت تتهاوى هذه القواعد، ولا يجد الناس ما يلوذون به غير الإيمان بالغيب،والاعتصام بصحيح وصريح المنقول بعد استنفاذ طاقة صريح المعقول في الإيمان بالله وصدقية الوحي والتفريق بين ما هو وحي ملزم من حديث الرسول وما هو اجتهاد ظرفي وما هو تشريعي وما هو عادي بشري، و في هذا السياق قرر الإمام ابن تيمية هذه القاعدة الذهبية في التعامل مع توهم تعارض العقل مع النقل"وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظن لا يرفع اليقين"ويشير ابن تيمية إلى أن من يتوهمون تعارض العقلي مع النقلي يفترضون افتراضات يلزم منها لوازم ممتنعة،وابن تيمية ينقض هذه الافتراضات من قواعدها، فقطعية العقل لا تقوم عنده لا تخريجات فلسفية تضليلية.
- ويلخص ابن تيمية رأيه في أهمية العقل في قوله"العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، و به يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلاً بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية: كانت الأقوال، والأفعال مع عدمه:أموراً حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة" وابن تيمية هنا في إشادته بالعقل وتقليله من قدر الوجد العاطفي لا يرفض أهمية هذا الوجد بالكلية ولكنه يرفض مغالاة من يسميهم بالصوتية بالوجد وتصديقهم للوجد وتعظيمهم له، وإسرافهم في ذلك،حتى جعلوه هو الميزان، وهو الغاية، وكما ينتقد مغالاة أهل الكلام في العقل،ينتقد مغالاتهم في الإعراض عن الوجد القلبي وتقليلهم من قيمته.ويرى ابن تيمية أن كلا الطرفين بحث عن مطلوبه، فالباحثون عن المعرفة وجدوها في العقل، والباحثون عن العمل وجدوه في المحبة والإرادة.
وينتقد ابن تيمية حزبية العقليين والقلبيين-المعتزلة والصوفية- ومغالاتهم في مدح مذهبهم وذم خصومهم فيقول"صار كل فريق يعظم ما يتعلق به، ويذم الآخر، مع أنه لا بد من علم، وعمل: عقل علمي. وعمل ذهني، وحب. تمييز، وحركة. قال، وحال. حرف، وصوت. وكلاهما إذا كان موزوناً بالكتاب والسنة كان هو الصراط المستقيم"هكذا يؤكد ابن تيمية على أهمية تكامل النزعة العقلية والنزعة العاطفية وضبط هاتين النزعتين بالنزعة النصوصية حتى يتكامل الخطاب الإسلامي و يتوازن، ويرفض أن تطغى النزعة العاطفية على بصيرة النص وهداية العقل، ومن هنا جاءت معاركه مع التيارات الصوفية، وما أحوجنا اليوم إلى تكامل هدايات القلب والنص والعقل، ولن يستقيم فهمنا السليم لهذا الدين دون الاسترشاد بالمقاصد العقلية والمشاعر الوجدانية شريطة أن تنضبط هذه المشاعر والمقاصد بالمحددات النصية لتعصمنا من اعصارات الأهواء و قصور الأفهام.
- لم تكن الملكات العقلية الفذة والتحصيل العلمي هما السبيل الوحيد لشهرة ابن تيمية، فقد كان للملكات الوجدانية من قوة وشجاعة وقدرات تأثيرية دورها في تأهيل ابن تيمية لأداء دور عظيم في الثقافة الإسلامية إضافة إلى قدراته البلاغية.
- ويضاف إلى هذه العوامل دور الظروف التاريخية والسياسية في تنضيج شخصية ابن تيمية، وإشهارها،وقد كان له بصماته الواضحة في أحداث تاريخية وسياسية مفصلية في التاريخ الإسلامي، ولعل أشهر أدواره تصديه لحملات التتار ونجاحه في تحريض عوام وأمراء المسلمين على جهادهم بحنكة إدارية ودبلوماسية شجاعة،وقد تجلت هذه الشجاعة والحنكة الدبلوماسية أثناء ترأسه لوفد من أبناء دمشق وذهابه إلى الملك (قازان) ملك التتار وطلب الآمان لأهل دمشق، وتحذيره من ممارسة العبث والفساد، وذهابه إلى قائد التتار (ولاي) وإقناعه بالإفراج عن الأسرى من أهل دمشق،وسفره إلى سلطان المماليك وإقناعه بضرورة إرسال جيشه لمواجهة التتار .
- ولعل من أسباب شهرة ابن تيمية إضافة إلى ما سبق، تزامن ميلاد ابن تيمية مع سقوط الخلافة العباسية واجتياح التتار لعاصمة الخلافة بغداد وما جوارها واقتحام الشام أكثر من مرة،وكانت دمشق تعيش في عصر ابن تيمية في حالة فراغ دستوري وإداري، ونجح ابن تيمية في سد هذا الفراغ، وتحديداً بعد موت الظاهر بيبرس، وكان الناس يلوذون به عندما تدلهم الخطوب ويفزع الناس ويفر عسكر نائب السلطان في دمشق، ومن يقرأ التاريخ يجد أن ابن تيمية كان هو الحاكم الحقيقي،وأن وجود نائب السلطان كان وجوداً رمزياً، ولهذا توسع ابن تيمية في مفهوم فقه الحسبة وكان أحياناً يقود الجيش بنفسه ليحارب بهم بعض فرق الشيعة التي تواطأت مع التتار، واتهمه خصومه باستغلال هذا النفوذ في إقصائهم، وقاموا بتنظيم عدد من الفعاليات الاحجاجية للمطالبة برفع ولاية ابن تيمية عليهم، وجلب له الحضور السياسي عداوات فقهاء المذاهب الأخرى.
- ومن يتأمل الظروف التي ظهر فيها ابن تيمية،يلحظ الشبه الكبير بينها وبين ظروف ظهور الإمام محمد ابن عبد الوهاب في أواخر الخلافة العثمانية، وتشابه تداخل الدعوي بالسياسي، والاستفادة من غياب الدولة وواقع الفراغ الإداري،والاعتماد على فقه الحسبة،في إقامة الدولة ونشر الدعوة.
- مع شجاعة الإمام ابن تيمية وقوة ملكاته العقلية والروحية، وتحرره من ربقة التقليد، فإن ذلك لا يعني أنه تحرر من حزبيته الحنبلية تحرراً كاملاً، فقد ظل متقيداً في كثير من الأصول والفرعيات بمذهب الإمام أحمد ابن حنبل، ولذلك كان معظم خصومه من المذاهب الأخرى.
- يتهم البعض ابن تيمية بالنصب، ويعزو البعض ناصبيته إلى كونه سليل أسرة أموية، وهذه التهمة غير دقيقة، ولعلها من نتاج حملاته الشديدة على بعض فرق الصوفية و الشيعة التي تواطأت مع الغزو التتاري على أراضي المسلمين، ولا يستطيع الباحث الجزم بانتماء ابن تيمية الأسري إلى أي أسرة عربية،لأن لقبه ينتهي إلى اسم منطقته(حران) لا إلى أي أسرة عربية، ويرجح بعض الباحثين أنه من أصول كردية.
- ثبوت كردية ابن تيمية يعري واقع الأمية العربية، ويثبت أن أعظم الشخصيات العلمية التي أثارت الجدل الفقهي والفكري،وخدمت العلوم الإسلامية، وتشكل اليوم أهم مرجعيات التراث السني،هي شخصيات جاءت من خارج المنطقة العربية، ومن هذه الشخصيات،البخاري ومسلم وابن تيمية في حالة ثبوت كرديته.
وأخيراً فإن الحديث عن شخصية جدلية كابن تيمية، يصعب اختزاله في مقالة صغيرة وثمة الكثير من الجوانب الجدلية التي تستحق التوقف أمامها في حياة هذا الإمام الحنبلي الذي أصبح أكثر شهرة من مؤسس المذهب نفسه الإمام أحمد بن حنبل والذي لا يزال اليوم يتربع عرش مشيخة العقل السلفي، ومع أن الساحة الفقهية المعاصرة تحتضن عدداً لا بأس به من عملاقة الفقه الإسلامي، ولا نبالغ إذا قلنا أن بعضهم يتجاوز عطاءه الفقهي عطاء ابن تيمية في مجال الفقه تحديداً كالدكتور يوسف القرضاوي الذي بدأ مسيرته الفقهية بموسوعة فقه الزكاة، وعزّزها في الفترة الأخيرة بموسوعة فقه الجهاد، فضلاً عن فتاويه التي لو جمعناه في مجلدات لربما فاقت مجلدات فتاوى ابن تيمية،إلا أن مشكلة العقل السلفي هي تقديس كل ما هو سلفي، والتهوين من شأن كل ما هو معاصر ومحدث، ولو قارنا مثلاً جهود الشيخ والمحدث الكبير محمد بن ناصر الألباني في خدمة السنة النبوية لو جدنا أنها تفوق جهود الشيخين الجليلين البخاري ومسلم ولا سيما موسوعاته الضخمة سلسلة الأحاديث الصحيحة وسلسلة الأحاديث الضعيفة فضلاً عن الكثير من الكتب والرسائل والتحقيقات والدروس والمحاضرات،وهي جهود ضخمة تعجز المجاميع العلمية الجماعية عن تحقيقها، ولكن يبدو أن العقل السلفي لا يمكن أن يحترم هذه الجهود حتى تنقضي سلسلة من الأجيال، فيتحول هذا التراث إلى تراث سلفي،عندها يكون نتاج هذه الشخصيات تراثاً يستحق التقدير.
ولا غرابة في ذلك في منطق العقل السلفي الاتباعي، وقديماً قال المسيح عليه السلام" لا كرامة لنبي في قومه" وهذا ابن تيمية يطارده علماء عصره يتهمونه بالكفر، ويعتدي عليه العوام في شوارع مصر ، ويحاكم بتهمة مخالفته للإجماع في ستين مسألة، ويضرب ويدخل السجن ويموت فيه،ولا يُكتب لأفكاره وفقهه الحياة والخلود والدور التأثيري الكبير إلا بعد أن يوارى أطباق الثرى، رحمه الله رحمة واسعة، ورحم جميع من خالفوه من أهل القبلة وتورط في تكفيرهم متأولاً، وتاب عن هذا التكفير أواخر حياته،كابن عربي وغيره من الفلاسفة وعلماء الصوفية.