في الشهرين الماضيين عانيت من عارض صحي مزعج ومؤلم جدا كاد ان يشلني عن العمل، فاضطررت للسفر إلى قطر عربي للعلاج، فماذا حصل ؟
قبل كل شيء استشرت اكثر من سبعة اطباء حول المرض وأخذت رايهم في طريقة معالجته، فوجدت اختلافات في الراي اكثر من مؤذية، تراوحت بين اجراء عملية جراحية، في اخطر منطقة في جسم الانسان، وحقن المنطقة بمادة لم اعلم ماهي بالضبط، انتهاءا بالعلاج الطبيعي! وقد رسخت مراجعاتي لهؤلاء الاطباء في ضميري حقيقة اعرفها واؤمن بها لانها متجذرة في وجداني وروحي، وساقولها فيما بعد، لان بعض الاطباء تصرف كأنه تاجر في احدى بورصات أمريكا أو سمسار يحدد اسعاره وفقا لتغيرات السوق! اوصيت بمراجعة طبيب مشهور جدا وعندما شاهد اشعة الرنين المغناطيسي قال، بعد ان شرح حالتي، بان عليك ان تجري فورا عملية جراحية والا فان الشلل سيضرب يدك اليسرى، اجريها اليوم قبل الغد!
ولمعرفة قسوة الحكم على يدي اليسرى بالشلل لابد من القول بانني اكتب باليد اليسرى لانني يسراوي! والاغرب انه فقد رصانة وحصانة الطبيب وشرف الطب حينما قال له صديقي الذي ذهب معي بانه يعاني من نفس الحالة فقال بالحرف الواحد : اذن نعمل كوبي لك، فسأله : ماذا تعني؟ قال نستنسخ الحالة، قال ذلك دون فحص صديقي وطلب منه اجراء العملية ايضا وفورا ايضا! شكرته ودفعت له اجر الفحص الباهض جدا وخرجنا انا وصديقي ونحن ندمدم بكلمات استغراب واستنكار لوضع هذا الطبيب. وذهبنا لطبيب اخر، وشرحت له ما قاله الطبيب الاول فقال : كيف يريد اجراء عملية والبديل موجود ومضمون من حيث سلامة المريض؟ وقال ان ما تحتاجه هو ابرة في مكان المرض تزيله ربما إلى الابد. وفرحت وسألته وكم ابرة احتاج وماهو ثمنها؟ قال مجيبا ذلك يعتمد على مدى تجاوب حالتك، وربما تحتاج إلى ابرة واحدة أو اربعة. ربما يظن البعض ان هذا البديل الطبي ارخص من سابقه وهذا الظن غير صحيح لان سعر الابرة هو بين الف دولار والف وخمسمائة دولار!
ومن حسن حظي ان لدي اطباء كثيرين في عائلتي واصدقاء من الاطباء المتمرسين، الذين قالوا لي منذ البداية انت لا تحتاج لعملية جراحية على الاطلاق لان حالتك في بدايتها ولذلك فانك تحتاج إلى العلاج الطبيعي فقط والتقيد بنصائح الطبيب، واهمها التقليل من استخدام الكومبيوتر إلى اقصى حد وضبط جلستك عند استخدامه. وزاد حسن حظي لانني اكتشفت ان احد الرفاق البعثيين من اصدقائي هو طبيب متخصص في حالتي، فذهبت اليه في عيادته في ذلك القطر العربي واذا به يملك نسخة من الاشعة اوصلها اليه رفيق مناضل اخر قبل وصولي إلى ذلك القطرالشقيق، قال لي ما تحتاجه هو علاج بالليزر وهو مثل العلاج الطبيعي لكنه افضل، وتكفيك عشر جلسات مع حبوب لمدة شهرين. وهكذا انتهت المشكلة ببساطة ودون اراقة دماء من جسدي!
سألت نفسي : هل يصل الانسان في جشعه حد ايذاء الناس بعمليات جراحية غير ضرورية قد يموتون بسببها؟ وهل اخذ ثمن باهض للعمليات من المريض مع انه لا يحتاج للعملية امر ينسجم مع رسالة الطب الانسانية؟ في حالتي قال الطبيب، الذي سماه اصدقاء حينما تحدثت معهم عنه بالجزار، ان عمليتي تكلف على الاقل سبعة الاف دور مع تكاليف اضافية قد تظهر اثناء العملية فيصبح المبلغ عشرة الاف دولار، وكان ذلك الرقم كابوسا بالنسبة لي لانني لا املك الا عشره!
لنفترض ان مريضا كان يحتاج فعلا للعملية وان عليه دفع عشرة الاف دولار وكان لا يملك المبلغ فماذا يعمل؟ طبعا سيموت أو يتعرض للشلل مادام الطب صار تجارة كاي تجارة اخرى. وهنا داهمتني حقيقة كنت اتجنبها لانها تؤلمني وهي ان العراق تحت ظل الحكم الوطني قبل الغزو كان يوفر للعراقيين بل لكل من في العراق من عرب واجانب العلاج المجاني والدواء المجاني أو شبه المجاني لذلك لم يكن الانسان العراقي يقلق من المرض.
اتذكر انني كنت في عام 2007 في زيارة لبلد اوربي رائع فيه ضمان صحي لجميع مواطنيه تغطى تكاليفه من الضرائب، وكان احد الاطباء من ذلك البلد فخورا بالرعاية الطبية، واثناء الحديث بيننا شعرت بالمرارة وقلت له : الرعاية الطبية في عراقنا قبل الغزو كان افضل من امتيازاتكم في جانبين مهمين الاول هو ان العراق كان يرسل المرضى الذين لا يمكن معالجتهم في العراق إلى دول متقدمة وتقوم الدولة بتغطية النفقات، وهذه الميزة لا توجد لديكم، والثانية ان العراقيين كانوا لا يدفعون ضرائب مثلكم لذلك فان خدمات الدولة العراقية كانت مجانية بصورة حقيقية. دهش الطبيب الاوربي حينما علم بالرعاية الطبية في عرق ما قبل الغزو.
في سنوات الغزو رأينا حالات لدى الكثير من العراقيين الذين اضطروا للعلاج خارج العراق لان حملة فرق الموت الأمريكية والاسرائيلية والإيرانية والبيشمركية الكردية، ركزت على تصفية الاطباء والعلماء والضباط والطيارين جسديا، وأدى ذلك إلى انهيار الطب العراقي، فبعد اغتيال الكثير من الاطباء، لانهم اطباء فقط، وهرب الاف الاطباء إلى خارج العراق لم يعد هناك طب حقيقي في العراق، فاصبح العراقي مضطرا للعلاج في الخارج اذا كان يملك مالا. وهذه الحقيقة وضعت الانسان العراقي امام حالتين : حالة المريض الذي لا يملك مالا ولذلك يواجه خيارا واحدا فقط وهو المعاناة حتى الموت من المرض، وحالة العراق الذي فقدناه بالغزو والذي كان قبل الغزو يضمن لكل عراقي الحق الكامل بالطب المجاني والتعليم المجاني والخدمات المجانية أو شبه المجانية، وقبل هذا وذاك كان يحفظ الكرامة التي تمتع بها العراقي طوال 35 عاما من الحكم الوطني التقدمي، نتيجة عدم حاجته لطلب العون من احد عند المرض مادامت الدولة تعالجه بالكامل. لقد جلب الغزو الأمريكي – الإيراني للعراق ولشعبه الموت والذل والعوز والعذاب اليومي لدرجة ان العراقي الان يقول بالفم المليان بانه لم يواجه حالة مشينة ومهينة ومدمرة خلال تاريخه الطويل كما يواجه بعد الاحتلال.
لماذا تحول الطب من ضرورة اجتماعية وانسانية وخدمة مقدسة إلى تجارة مربحة تطغى عليها انانية اطباء يريدون تحقيق الثراء السريع ومواصلة زيادته، رغم ان ذلك يؤدي إلى عذابات لا نهاية لها للبشر وموت اخرين؟ الجواب ببساطة هو ان الانسان بشكل عام حينما يواجه حالة صراع من اجل البقاء، في ظل اضطرابات الفقر ومعاناة فوراق طبقية مشينة، وفي بيئة غياب المعايير الانسانية وسيادة معايير اقتصاد السوق، يجبر على الانخراط في سباق لا ينتهي من اجل الثروة والمال أو من اجل الحصول على لقمة العيش! ان الراسمالية نتنج شرورا لاحصر لها حينما تسود أو تطبق في بلدان العالم الثالث التي لم تمر بنفس مراحل تطور البلدان الراسمالية المتقدمة، لذلك يتحول السعي للمال إلى حروب قاسية بين الجميع من اجل ضمان العيش اليوم أو غدا، وهذا يشمل حتى البورجوايين الكبار الذين يعرفون ان ثروتهم قد تتبخر غدا في سوق لا يرحم، احدى آلياته الاساسية هي انتاج المزيد من الجشع والانانية.
والطب لا يستثنى من هذه القاعدة فالطبيب يشعر انه في سباق مع غيره من اجل العيش الافضل، وبما ان الرأسمالية تقوم على اطلاق النزعات الانانية فان الطيبيب يتحول من فاعل خير إلى منتج شر. ماهو الحل؟
ان الحل الوحيد لضمان ابقاء الطب خدمة وضرورة انسانية هو تطبيق الاشتراكية التي تجعل من الطب مجانيا ولكل الناس، فتجررهم من الخوف من الغد بما ان المرض حالة طبيعية في المجتمع الانساني. اذا تذكرنا فان العراقي كان يتطبب مجانيا في العراق، واذا تعذر علاجه فيه فانه يوفد من الدولة إلى أمريكا أو بريطانيا أو الاتحاد السوفيتي الخ، لذلك لم تكن مسألة العلاج تشكل اي تحد للعراقي قبل الغزو. كان العراق في ظل حكم البعث يعتمد على نظام يتجه نحو الاشتراكية وكانت موارد النفط تسخر لضمان صحة المواطن وحياته وتحريره من العوز والفقر، اما بعد الغزو فقد اصبح العراق بؤرة للفقر والجوع والمرض والفساد والتراجع الشامل، وتلك هي البيئة التي تعمدت أمريكا، ومعها الكيان الصهيوني وإيران، خلقها في العراق من اجل تدميره ومحو هويته العربية والغاء دوره وازالة المثال الجذاب الذي بناه متمثلا في الطب المجاني والتعليم المجاني والخدمات المجانية أو شبه المجانية.
في المشهدين العراقيين، مشهد ما قبل الغزو ومشهد ما بعده، نواجه التناقض بين شرور الراسمالية وفضائل وخيرات الاشتراكية. وهنا يجب التذكير ايضا بان المعسكر الاشتراكي الذي زال، كان يقدم الخدمات المجانية لمواطنيه في الطب والتعليم والسكن، لذلك لم تكن المراة الروسية أو البغارية أو الرومانية مثلا مضطرة لممارسة العهر من اجل العيش كما يحصل الان، حيث نشهد بعض نساء اوربا الشرقية وقد صرن عاهرات متجولات في اسواق العالم، بينما اضطرت اخريات للخضوع لشروط مافيات جديدة نشأت في ظل الراسمالية والدخول إلى بيوت العهر داخل البلدان التي كانت اشتراكية من اجل لقمة العيش!
ان احد اهم دروس غزو العراق درس يتعلق بنوعية النظام الاقتصادي – الاجتماعي الصحيح، وهذا الدرس يقول بوضوح تام بان الراسمالية اينما حلت تجلب كافة انواع الشرور وفي مقدمتها تحويل الانسان إلى سلعة تباع وتشترى وذلك هو العار الاساسي للراسمالية، لذلك فان الضمانة الاساسية لجعل الانسان غير مضطر لبيع ضميره أو جسده من اجل العيش هي في بناء نظام اشتراكي يزيل الفقر والامية ويبعد ازمات العوز الدورية عن اي انسان ويمنح القدرة على اختيار عمله وأصدقاءه ونمط حياته دون ضغط من يملك سلطة المال.
لا لعار الراسمالية ولشرورها ونعم للاشتراكية توأم تحرير العراق من الاحتلال لانها البديل الوحيد لشرور المجتمع التي ينتجها النظام الراسمالي، فالعراق المحرر يحتاج لاعادة امتيازات ما قبل الغزو، خصوصا في مجالي الطب والتعليم، واضافة امتيازات اخرى وليس قبول الردة التي قام بها الاحتلال في مجال الخدمات الاجتماعية. ان العراقي اليوم هو خير شاهد وافضل دليل على ان الاشتراكية وليس غيرها هي الحل لمشاكلنا الاجتماعية والاخلاقية والثقافية.
*كاتب وسياسي عراقي
[email protected]