[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

رؤية الإنقاذ: آفاق لمواجهة الأزمة السياسية

شكل مشروع رؤية الإنقاذ الوطني الذي صدر عن اللجنة التحضيرية للحوار الوطني محصلة تفاعلات سياسية وفكرية ونضالية طويلة للقوى السياسية والاجتماعية التي ناضلت من أجل يمن حر، مزدهر ومتقدم.

. وعبر نضالها الطويل هذا قدمت التضحيات في محطاتٍ تاريخيةٍ وكفاحية مختلفة، وكان لها دور بارز وباع طويل في صياغة التاريخ الحديث لليمن بدرجات متباينة ومن مواقع واصطفافات متوافقة احياناً ومتقابلة أحياناً أخرى. وعندما نسترجع اليوم هذه المحطات باعتبارها جزءاً من الذاكرة الوطنية يحق لنا أن نفخر بما قطعناه من أشواط هامة على طريق ردم الفجوات التي ظل الجهد الوطني يتعثر فيها وينزلق اليها ملحقاً بنضال شعبنا وكفاحه وتضحياته أبلغ الضرر.

لقد كان الصراع بين أطراف الحركة الوطنية اليمنية سبباً جوهريا في إخماد التفاعلات الثورية وتعطيل مساراتها وتشتيت الجهد الوطني في استقطابات "دوغمائية" وإحداث تلك الشروخ العميقة التي تسلل منها اليأس والإحباط إلى النخب والقوى التي حملت رسالة التغيير ومنها إلى الجماهير العريضة التي غرقت هي الأخرى في هموم تضاءلت معها مساحة الاستعداد للكفاح والتضحية بعد أن رأت حلمها في النهوض ينكسر ونضالها يصادر وحقوقها تقمع بتوظيف نفس الشعارات التي ناضلت تحت لوائها ولكن بمضامين وأهداف تكرس هيمنة القوى التي خطفت حلمها وصادرت نضالها.

لقد كان من الأهمية بمكان على هذه القوى ان تستعيد شتات الجهد الوطني من الزوايا والفجوات التي توزع فيها، وتعيد بناءه بروحٍ وثابةٍ وبتطلعاتٍ منسجمة مع نضالات شعبنا وأهداف ثورتيه (سبتمبر وأكتوبر)، ولم يكن تحقيق ذلك ممكناً إلا بتهيئة العقل لإطلاق مبادرة تاريخية يتخطى فيها حواجز الأحداث والمحطات التي رسمت الفعل الوطني داخل خيارات ايديولوجية دوغمائية استبعادية فرضت حصاراً على هذا العقل ومنعته من التعاطي مع وقائع الحياة المتنوعة والمتجددة على النحو الذي يحرر الحقيقة من الاحتكار، وهذا ماتحقق عبر حوارات طويلة، وشفافة وصريحة كانت حاجة الوطن فيها حاضرة قبل حاجة الأيديولوجيا، كان الوطن مساحة أوسع لمثل هذه الحوارات من رقعة الوقائع والأحداث ومحطات الفرز في صورتها التي جعلت المتارس والخنادق أمكنة لتفريخ الوهم بامتلاك الحقيقة التي طالما قادت إلى رفض الآخر وإقصائه.

ومثّل الخروج إلى هذه المساحة الأوسع نقلة جوهرية في العمل السياسي- الوطني وأدواته، ويمكن اعتبارها أهم حدث على الصعيدين السياسي والفكري، وكان لابد منه لاستيعاب الصدمة الهائلة التي أفضى إليها انهيار تجربة الوحدة السلمية على النحو الذي آلت إليه الأمور.

لقد كان البعد الوطني للصدمة حاضراً لدرجة صغرت معها حسابات الربح والخسارة بالمعايير التي ظلت أساساً للفرز والاستقطاب والصراع في الحياة السياسية، وانعكس هذا البعد بقوة على الاستجابة التي أخذت تثير الأسئلة المحفزة على الخروج من شرك الصدمة خاصةً بعد أن تبين للجميع أن خيار القوة والعنف قد اخذ يزاحم الخيارات السياسية ويقصيها، وينشئ في المقابل معاييره الخاصة في بناء مقاليد ومكونات الحكم. تمخضت هذه الأسئلة ومارافقها من تفاعلات سياسية عن تكوين "اللقاء المشترك" وصمد اللقاء المشترك أمام كل التحديات التي واجهها وبصورة أثبتت أنه مثل حاجة وطنية وفي لحظة تاريخية استطاع منتسبوه أن يلتقطوها بمهارةٍ وجرأة ومسؤولية، والصمود هنا لا يقصد به الإرادوية المفرطة في تجاهل التحديات دون الاستناد إلى القدرة على إنتاج الأسباب المساعدة على الصمود، والتعاطي مع الوقائع والأحداث باستلهام الحاجة الوطنية للتنوع والتجديد ومعها إنضاج شروط العمل السياسي للانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى. لقد أدركت أحزاب اللقاء المشترك منذ الأيام الأول أن رسالتها الوطنية تكمن في تجديد الفكر السياسي اليمني وتقديم البرهان من خلال العقل الفعَال لا العقل المنفعل على إمكانية تحقيق ذلك بشروط الحاجة إلى نبذ الفكر السياسي الإقصائي الذي كبد اليمن الخسائر الضخمة بما فيها خسارة الفرص القليلة التي كان يمكن أن تضعه على طريق التقدم ومنها فرصة الوحدة السلمية التي تحققت يوم 22 مايو 1990.

وكان عليه أن يقدِم هذا البرهان من خلال الانخراط في هذه العملية الموضوعية التراكمية بجسارة وصبر، وفي اتساق مع مساراتها المليئة بالتحديات، قام بصياغة رؤيته السياسية كمنهج يستدل به على صحة خياره في انتاج الكتلة التاريخية القادرة على تحمل مشروع وطني للتغيير والبناء.

ولم تكن هذه المسألة بالسهولة التي ينظر بها البعض اليوم إلى هذه المهمة الشاقة والمعقدة. فلو أن المسألة كانت مجرد مغامرة لإنتاج موقف سياسي مؤقت بهدف الاحتيال على الوضع المعقد وعلى الأزمات التي تمر بها البلد لكانت هذه المسألة قد أوكلت إلى أشخاص من ذوي المهارات الخاصة في صياغة الوثيقة لتؤدي دوراً إعلامياً مؤقتاً بغض النظر عن مضمونها، لكن المسألة كانت قد أخذت بعداً استراتيجياً عند هذه الأحزاب لامفر من مواجهة استحقاقاته بمسؤولية وبفعالية لا تتركان مجالاٌ للمناورة بالموقف السياسي على حساب هذا البعد الاستراتيجي الذي قررت هذه الأحزاب التصدي له في نطاق الكتلة التاريخية التي كان المشترك نواتها بل ومشروعها المؤسسي.

وفي هذا المسار التراكمي لإنجاز هذه الرؤيا، وضع المشترك بداية برنامج الإصلاح السياسي الذي كان بمثابة المحاولة الأولى لوضع قراءة مشتركة للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي عملية لم تكن بسيطة عندما يتعلق الأمر بتحليل الأوضاع السياسية التي كانت، بما استقرت عليه من نتائج عرضة لاستقطابات سياسية واجتماعية ساخنة أخذت تبرد مع الزمن وتتحرك نحو الزوايا المهملة لتكتشف جميعها أن هذا هو الطريق الصحيح الذي أدى إغفاله إلى الكوارث التي عاشها الوطن.

وكان هذا البرنامج بمثابة الحجرة التي قذف بها المشترك إلى البحيرة الراكدة، وعلى إثره جرت نقاشات واسعة بين مؤيد ومعارض ومختلف وناقد ومهاجم. وأياُ كان الأمر فقد أدى هذا البرنامج وظيفته السياسية والفكرية في وضع اللبنات الأولى لإنتاج هذه الرؤيا التي هي بين أيدينا اليوم وذلك من خلال ما أفرزته الحوارات والنقاشات من ثغرات في تشخيص الواقع السياسي والاجتماعي وتحليل الأزمة الوطنية بصورة عامة.

ولأن البعد الاستراتيجي كان حاضراً في نضال أطراف هذه الكتلة التاريخية، فقد أخذت تصحح في ضوء ذلك منهجها التحليلي من ناحية وتعيد في ضوء ذلك بناء الوقائع والأحداث في مسارات وسياقات تنسجم مع هذا المنهج وتأخذ في الاعتبار كل ما يتوافق مع هذا البعد الاستراتيجي ليس بصورة تعسفية وإنما بالاستناد إلى كثير مما كان يعرضه الواقع الموضوعي من حقائق وتبدلات على الأرض. وعلى الصعيد العملي كان لابد أن تأخذ هذه الأحزاب موقفاً سياسياً فيما يتعلق تقديم نفسها كمعارضة حقيقية، تقدم نفسها كبديل للسلطة القائمة وهو ماعبرت عنه في الانتخابات الرئاسية والمحلية 2006.

إن هذا المكون السياسي الهام للمسار التراكمي المشار إليه كان ضرورياً للغاية لاكتشاف القدرة المجتمعية لإنتاج الحامل السياسي والشعبي للتغيير. وإذ حققت هذه الخطوة الهامة الغاية من ورائها والمتمثلة في اكتشاف استعداد المجتمع للتفاعل والانتقال من حالة الاحتقان إلى الحالة السياسية في حركتها كما عبرت عنها الانتخابات، فإنها قد أضافت إلى المسار التراكمي المزيد من الممهدات لمواصلة السير في الطريق المفضي إلى توسيع قاعدة كتلة التغيير بإنضاج شروط النضال السلمي الديمقراطي.

وفي هذه الأثناء كانت الأزمة السياسية والوطنية بمظاهرها المختلفة وتجلياتها العديدة تزداد تفاقماً. وفي حين ظلت كثير من مظاهر هذه الأزمة مكبوتة فقد ساهم المعترك السياسي الذي خاضه اللقاء المشترك بفعالية في انتخابات 2006 في فتح الطريق للتعبير عن نفسها في صور عدة من النضال السلمي. وكان الحراك السلمي في الجنوب وعلى النحو الذي انطلق فيه ابتداءً من منتصف 2007 شاهداً على أن هذا المسار التراكمي قد أخذ مداً متصاعداً، بغض النظر عن التعارضات التي حملتها بعض التعبيرات السياسية التي اقتحمت هذه العملية الموضوعية بتداخلاتٍ تجاهلت على نحو ملغوم الترابط الوثيق بين عناصر هذا المسار التراكمي في إنتاج الشروط الذاتية لإطلاق مظاهر الأزمة من مكانها وكان الحراك السلمي الذي حمل القضية الجنوبية قد دفع بهذا المسار التراكمي نحو المزيد من تجذير المشروع الوطني بإعادة قراءة التاريخ السياسي الوطني للجنوب والوقوف عند حقيقة هامة من حقائق التمسك بخيار الوحدة في أنها تكمن في حقه أن يكون طرفاً فيها على قاعدة مختلفة عما آلت إليه الوحدة الاندماجية.

وتواصلت حروب صعدة في مشهد يعكس النتائج الخطيرة للانزلاق إلى العنف، وأدى التدهور الاقتصادي إلى تزايد معاناة الجماهير مع مارافق ذلك من تبديد للموراد الاقتصادية والمالية بسياسات خاطئة وإدارة تفتقر إلى الكفاءة، والتهم الفساد الجزء الأكبر من ثروة البلاد، وقادت حملة الاختلالات والتشوهات في هذا المجال إلى استقطابات طبقية حادة بين غنى فاحش للقلة وفقر مدقع للأغلبية الساحقة من المواطنين وهو ماكان له الأثر البالغ في إعادة صياغة خارطة اجتماعية مشوهة ومختلة غابت عنها الطبقة الوسطى التي تشكل بطبيعتها عنصر التوازن المطلوب دوماً للاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، أي أن غياب هذه الطبقة واضمحلالها وضع المجتمع كله في حالة من الاستقطاب المنذر بالمواجهة والتفجر، كما أن غيابها عطل جانباً هاماً من الحياة السياسية باعتبارها الحامل الاجتماعي للمشاريع السياسية غير الصدامية، وأدى التراجع عن المشروع الديمقراطي الذي أعقب انتخابات 2006 إلى مايشبه الانسداد السياسي الذي أخذ يفقد المشروع الديمقراطي بريقه وسط الجماهير حيث جعل هذا الوضع ينشئ مزاجاً مختلفاً في وعي هذه الجماهير، يستبعد إمكانية وقدرة المشروع الديمقراطي على السير بالحياة السياسية إلى نهايات حميدة لاسيما وأن السلطة قد أخذت تعد العدة لاستخدام القوة والعنف على نحو أشد في مواجهة هذا المشروع وخياراته السلمية والوطنية وهو الأمر الذي فتح الباب أمام المزيد من الاختلالات الأمنية وبروز مشاريع التطرف والعنف على نطاق أوسع. وكان لابد من الانتقال هنا خطوة أخرى على طريق هذا المسار بالقراءة الدقيقة لهذا الوضع والتعاطي معه بمسؤولية وطنية تاريخية بعيداً عن النزق أو المغامرة أو التعسف الواقع الموضوعي والتمسك بخيار الإعداد الواعي والمسؤول للمجتمع وقواه الحية للنضال السلمي الديمقراطي أياً كان البطء في النتائج التي ترافق هذا الأسلوب من النضال من أجل التغيير فهو الأكثر ضماناً لدفع الشعب لتحمل مسؤوليته باعتباره صاحب المصلحة الأولى في هذه العملية والأقدر على حمايتها بعد ذلك، على عكس العمليات التي اضطلعت بها النخب في مراحل مختلفة وكان من نتيجتها أن بقت الفجوة قائمة مع الجماهير وهو ما أدى إلى انتكاسات مذهلة.

إن الاستفادة من التجربة التاريخية في تعزيز هذا المسار التراكمي كان ذا قيمة هامة في الوصول إلى هذا المشروع وهذه الرؤية، وهنا كان لابد من أن نطلق مشروع الحوار الوطني الشامل الذي تشارك فيه كافة القوى السياسية والاجتماعية والقوى الفاعلة في ميدان الفعل السياسي والوطني. إن المحطة التي تم فيها إطلاق مشروع الحوار الوطني الشامل كانت مزدحمة بمشاريع التمزق والصراع والحروب وكان لابد ان ينبثق من وسط هذا الازدحام مشروع آخر منقذ وهو المشروع الذي كان قد هيأ له ذلك المسار التراكمي جملة من الشروط التي جعلت إخراجه إلى حيز الوجود ممكناً.

والحقيقة أن إطلاق مشروع الحوار الوطني كان تعبيراً عن حاجة وطنية بعد ان دخلت البلاد مرحلة خطيرة من إنتاج الأزمات والمشكلات المعقدة لم تعد الحوارات بصيغتها القديمة لامن حيث موضوعاتها ولا مكوناتها ولا أسلوبها مفيدة، ولم يكن تعبيراً عن حاجة سياسية آنية.. فالبلد الذي أخذ يتجه نحو انهيارات كبيرة كان لابد أن تضطلع قواه الحية بمسؤولية المبادرة بمشروع يوقف هذه الانهيارات ويضعه على طريق الإصلاحات الجذرية بدءاً بالإصلاح السياسي باعتبار ان جذر الأزمة يكمن في النظام السياسي الذي أصبح مصدراً لإنتاج الأزمات السياسية والاقتصادية بما آل إليه من مأزق حقيقي بسبب خياراته التي تتحكم فيها العصبوية الاجتماعية والسياسية في صورة شمركزد خذل الجميع باحتكاره الحكم والثروة موظفاً كل العوامل التي هيأته لهذه المكانة، وبسبب فشله في التعاطي مع الحقائق الموضوعية المعاصرة بشان الحكم الرشيد الذي من شأنه أن يبقي البلد موحداً ومستقراً بما يساعد على التنمية والتطور، فقد أخذ يحشد ويستنفر العوامل النقيضة ويعيد إنتاجها في صور شتى لإدارة معارك الحكم على نفس القاعدة التاريخية ولكن بشعارات الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية. لقد اضطلعت هذه القوى بمسؤوليتها الوطنية التاريخية بإطلاق مشروع الحوار الوطني وكان لابد أن تبدأ بمشاورات واسعة مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، وأثناء هذه المشاورات جرت مناقشات وحوارات مثمرة مع مختلف القوى والفئات التي انخرطت في عملية التحضير، وأسفر التشاور عن تشكيل لجنة تحضيرية للحوار الوطني اضطلعت بمهمة وضع هذه الرؤية بعد حوارات سياسية وفكرية جادة وعميقة، وبذلك فقد خلص ذلك المسار التراكمي عند محطته الأولى إلى:

(1) توسيع قاعدة التحالفات السياسية والاجتماعية والوطنية في صيغة هذه اللجنة التحضيرية للحوار الوطني على قاعدة القواسم المشتركة في تشخيص الأزمة السياسية والوطنية بتجلياتها المختلفة مع تصورات بالمعالجات والحلول.

(2) إعلان وثيقة الرؤية باعتبارها وثيقة حوارية وليست برنامجاً سياسياُ. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه الكتلة الوطنية التي ضمت هذه الأحزاب والقوى والمنظمات والشخصيات السياسية والاجتماعية قد اختطت مساراً منسجماً مع الدوافع الاستراتيجية التي حملتها على خوض معركة التغيير والبناء وتأتي في مقدمة هذه الدوافع أن هذه العملية البنائية المركبة لابد ان تغادر الطابع النخبوي الذي حوصرت فيه طويلاً وان تتم على قاعدة سياسية واجتماعية واسعة وهذا يتطلب بالتأكيد مواصلة الحوار واستيعاب مختلف الآراء والرؤى والاعتراف بأن الاختلاف حق طبيعي وأن احترام هذا الحق مقدمة ضرورية ليتمكن من إدارته على النحو الذي يحوله إلى قوة منتجة لحل المعضلات الوطنية.

لقد شكل إعلان الرؤية حدثاً نوعيا في الحياة السياسية اليمنية انتقل بها إلى داخل الهم الفعلي للوطن بعد ان ظلت تلامس هذا الهم من بعيد وتتحاشى الواقع الملغوم بصلف وكبرياء الاستبداد والنخب المتنفذة، فكان تشخيص الأزمة محقاً عندما طرق المعاقل الرئيسية لجذر الأزمة في صورتها السياسية والاجتماعية والبنيوية وما فجرته من تناقضات خطيرة عجز "مركزها" من السيطرة عليها بأدواته التقليدية العتيقة، وبدلاً من أن يدرك هذه الحقيقة ويتدارك تداعياتها الخطيرة أخذ ينزلق بالبلاد نحو العنف والحروب، وكلما اتجه بالحل لأي مظهر من مظاهر الأزمة بالعنف والقوة كلما أخذ يضعف المشروع السلمي الديمقراطي ويحاصره بمزاج الحروب والصراع. إن واحدة من التناقضات الرئيسية التي أنتجت هذه الأزمة الوطنية الخطيرة هي التناقض بين الطابع السلمي للوحدة ووسائل فرضها بالقوة بعد الفشل في بناء دولتها المعبرة عن روحها ومضمونها القائم على الشراكة في الحكم والثروة. لقد شخصت الوثيقة هذا التناقض الرئيسي كمظهر من مظاهر الأزمة الراهنة واعتبرت حله مقدمة لحل وطني شامل وكانت بذلك محقة عندما نظرت إلى الأزمة في مظهرها الوطني كأساس للبحث عن الحل، إن الدولة اللامركزية القائمة على الشراكة الوطنية في صورتها الفيدرالية والحكم المحلي كامل الصلاحيات تفتح آفاقاً رحبة لمواجهة تجليات الأزمة السياسية بما في ذلك ضمان عدم تجدد الحرب العبثية في صعدة لأن الحل الوطني هنا يلجم كل المزاعم والبواعث التي تبقي أبواب الحروب مفتوحة. إن مشروع رؤية الإنقاذ الوطني هو دعوة لحوار وطني شامل وهي ليست برنامجاً سياسياً حتى الأن ولكنها إسهام مسؤول في تشخيص وقراءة الأزمة والحل، والبرنامج هو ما سيستقر عليه الجميع عند المرحلة الأخيرة للحوار. وحينذاك يجوز طرح السؤال بشأن كيفية تحقيق هذا البرنامج؟ لكن لابأس من الإشارة هنا إلى أن القوى التي ستحمل هذا البرنامج كمشروع وطني للإنقاذ ليس لديها من أدوات غير النضال السلمي الديمقراطي بأشكاله المختلفة والمتنوعة، ولابد أن يكون الرهان هنا على الشعب باعتباره صاحب المصلحة الأولى في التغيير ومن الطبيعي ان يكون حاضراً في هذه العملية ولن يكون ذلك ممكناً إلا باحترام إرادته. إن الأوضاع المختلة والمقلقة التي تتبلور في واقع الحياة السياسية وما يتمخض عنها من مشكلات معقدة وخطيرة على الصعيد الاقتصادي والأمني هي محصلة طبيعية للأزمة في مظهرها الوطني وهذا الأمر الذي يضع اليمنيين أمام مسؤولية تاريخية في ترتيب أولويات الحوار والحل لمعضلات البلاد المختلفة.

وتقدم وثيقة الإنقاذ أفكاراً هامة على هذا الصعيد من الممكن أن تشكل أساساً لحوارات جادة ومثمرة. ولن يكون مفيداً تفريغ الأزمة بإصلاحات جزئية لاتمس جذر المشكلة لأن هذا لن يعني أكثر من مجرد ترحيل لهذه الأزمة وتواطؤ مع مخرجاتها المخيفة التي أخذت تنقل المشكلة من أيدي اليمنيين لتضعها في إطار مختلف عن الحاجة الفعلية لمعالجة الأزمة ومظاهرها الأساسية، وبهذا الصدد لابد من منهج واضح ينسجم مع المسار التراكمي الذي خلص بفعالية وحكمة إلى هذه المحطة الهامة التي بات علينا اليوم أن نصون نتائجها بتشديد النضال السلمي مع الجماهير ومواصلة العمل بصورة موازية لإنجاح مشروع الحوار الوطنى ومحاصرة نزعات الانزلاق نحو العنف والإقصاء والاستبعاد وترسيخ قيم التعايش والتسامح والديمقراطية والتغيير والبناء كمنهج لإنقاذ وطننا من الانهيار والتمزق.

* نص ورقة ألقاها الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني في ندوة "مدخل لفهم مشروع لفهم مشروع رؤية الإنقاذ الوطني".

زر الذهاب إلى الأعلى