الحجارة أمة... وأي أمة! قواعد أمة الناس لم تقم، وسجل تاريخها لم يستقم، لو لم تلتحم معها أمة الحجارة في البدء والمنتهى.
من دون تلك الأمة ما كان لأمة الناس غار ولا منزل ولا حصن ولا طريق ولا سد ولا جسر. ومن دونها لم يكتب البقاء لآثار صنائع الناس، فكأنها تهيأت لتكون مادة خلقهم في الابتداء، ووسيلة أعمالهم أثناء البقاء، ودفاتر تخليدهم بعد الفناء، وقرين مصائرهم بعد الانبعاث: إما إلى قصور نعيم الفردوس... وإما إلى النار التي وقودها الناس والحجارة!
والفارق بين الأمتين أن أمة الحجارة لا تملك الاختيار، لذلك فإن مكوثها في الجنة أو النار ليس سوى وظيفة. أما مكوث الناس فهو مثوبة أو عقوبة، فويل للمختار إذ يوجه الحجارة بالمنجنيق لهدم بيت الله، وطوبى له إذ يرفع بالحجارة دعائم ذلك البيت.
وأمة الحجارة محل ثناء الرحمن، لأن منها ما يهبط من خشيته، بخلاف بعض أمة الناس، ومنها ما تنفجر منه الينابيع، على نقيض الناس الذين يتنكرون لجبلتهم المائية، فتغدو قسوة قلوبهم مؤشر رفعة لأمة الحجارة.
وفي عالم الحجارة أجناس وألوان، غنى وفقر، شهرة وخمول، ملوك وعبيد، سلالات راقية وأعراق وضيعة، وقائع وأساطير، مقدسات ورذائل، ملاجئ أمن وأسلحة دمار.
ومن المشاهير في عالم هذه الأمة، يبدو لنا أول ما يبدو «الحجران» وهما الذهب والفضة، كما كانت العرب تسميهما.
أما «حجر الفلاسفة» فهو وهم محض... حبل أمل واه لبلوغ الغنى السهل بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، أو لبلوغ الزيادة في العمر، لكن هيهات، ما البقاء المديد إلا لأمة الحجارة.
حجر سيزيف أسطورة كصاحبه... لا يضر ولا ينفع أيضاً إلا إذا اتخذناه مثلاً على الاستعمار الغربي الذي كلما أخرجناه من الباب دخل علينا من الشباك.
أين ذلك من حجارة السجيل التي يسومها إله الآلهة، عقاباً لمن يسوقهم الغرور إلى الطمع بالحلول محله.
تلك الحجارة أحد ضروب المعجزات المروية في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكن بين أيدينا في الواقع حجر إلهي آخر هو «الحجر الأسود» الهابط من السماء والماثل في ركن بيت الله ذاته، منذ أقام سيدنا إبراهيم (عليه السلام) قواعده، وحتى اليوم، حيث أصبح خلفاؤه «عليهم السلاح» يستوردون «القواعد» من الخارج، لتحيط به إحاطة السوار بالمعصم.
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم» رواه الترمذي.
ومن سيسوده سواهم؟ لقد سود بعضهم سماءنا وأرضنا بالعار، وسود عيشنا بكل درجات ألوان القمع والطاعة.
وهناك على مرمى حجر... تقوم حجارة الأهرام شاهدة على هيبة شعب عملاق طاعن في الحضارة، أوقعه الحظ العاثر، في أخريات أيامه، رهينة في أيدي «هكسوس جدد» لم يحسنوا في تاريخهم القزم أكثر من صناعة أدوات القتل، ولم يستطيعوا حيلة للتعملق إلا أن يقطعوا سيقان العمالقة، لكن حين تهدمت حجارة ناطحاتهم لم يبق مكانها إلا موضع مرموز له بالصفر ولا شيء سواه... وهو «الصفر» الذي اخترعه أسلافنا، ولولاه لما وجدنا في زماننا الأغبر هذا رقماً نستطيع أن نرمز به إلى عددنا الهائل والفارغ في آن، ولولاه أيضاً لما استطاع حاسوب غزاتنا المصمم للتدمير عن بعد، أن يخطو نصف شبر إلى الأمام.
لكن أين ناطحات أولئك من حجر بسيط متواضع لائذ بأنقاض قلعة مصرية قديمة على الضفة اليسرى من النيل، قرب مدينة صغيرة تدعى «رشيد»؟
«حجر رشيد» هذا لا يبلغ طوله أكثر من متر، ولا يصل عرضه إلى أكثر من ثلاثين سنتيمتراً، لكنه كان مفتوحاً لبوابة الحضارة الواسعة الضاربة في القدم.
كانت على ذلك الحجر كتابة هيروغليفية، حظيت بعالم فرنسي ذكي اسمه «شامبليون» استطاع أن يفك رموزها... ولم يتأخر الحجر في مكافأة ذلك الرجل، إذ سرعان ما أدخله التاريخ من أوسع باب، وطمأنه بأن وفاته في سن الثانية والأربعين سوف لن تكون خاتمة أمره، لأنه سيعيش في الأذهان على مر الدهور نظير عمله الطيب.
أتملك أميركا رائحة بعيدة من هذا النبل؟ كلا فلو ظهر جحا الرومي أو الملا نصرالدين، لفغر فاه دهشة وارتياعاً، وقال: إنني بنوادري كلها لم يكن لي سوى مسمار واحد مغروز في جدار حجرة واحدة، فمن أين لهذا الجحا المفتري هذا العدد المهول من خوازيق مدقوقة في هذه الكومة العالية من البلدان؟!
مضى جحا الأميركي إلى العراق بذريعة نزع «خازوقه» المدقوق هناك، ولا بأس في ذلك إطلاقاً، بل لقد كان نزعه عملاً جميلاً فعلاً، لولا أنه استبدل به خازوقاً جديداً مريعاً، نحر في أثناء نقله أمة الناس، وأدب في حفلة تثبيته أمة الحجارة: قصفاً للملوية، وسحقاً للزقورات، وتهشيماً للجنائن المعلقة، وهدماً للمتاحف والمكتبات، ووصولاً بالعدل اليانكي إلى إهانة مسلة حمورابي... أول «قانون» على وجه الأرض سجله واحد من بني أمة الناس على صدر واحد من بني أمة الحجر.
وأحد مشاهير هذه الأمة النبيلة «حجر الانتفاضة الفلسطينية» الذي أصبح نجماً دائماً في وسائل الإعلام على رغم عزوفه عن الشهرة، وأصبح نجماً أشد بريقاً من نجوم السماء على رغم نومه في الطرقات، وأصبح نجماً ساطعاً بالكبرياء... على رغم آلاف النجوم الخابية في رماد الذل فوق أكتاف الجنرالات.
إنه صغير وبسيط وشريف، لكنه هائل الفاعلية... يقدم نفسه لوجه الله للمخذولين في بلاد ليس في قائمة وارداتها أكثر من الأسلحة!
يقدم نفسه بلا ثمن ولا عمولة ولا شرط ولا مصلحة، ويحمد ربه على شرف انتظامه في دعوة الحرية لا في ادعائها، وعلى مشاركته في تحصيل حقوق الإنسان ميدانياً لا في ترديدها إعلانياً، ويحمد ربه، من قبل ومن بعد، على أنه لم يجعله قطعة من «تمثال الحرية»، ولا قلباً في صدر طاغية عربي!
وفيما يواصل هذا الحجر المقدام صولاته بلا كلل في فلسطين، تأتينا من بلاد بلقيس أنباء حجر جديد، تبدو غرابة أمره خروجاً على طبائع أمة الحجر الطيبة.
ف إلى الجنوب الغربي من مدينة تعز، نزحت مجموعة من السكان من قريتها، قبل ربع قرن، وأقامت يبوتاً لها بحجارة مجلوبة من موقع في جبل قريع الذي استقرت على سفحه. ومنذ ذلك الوقت كان جميع مواليدهم الجدد بكما!
وتزامن ظهور الإصابة بالبكم مع انتقال السكان إلى هذا المكان، واقتصر على المواليد الجدد، ما ينفي كون الظاهرة وراثية، خصوصاً أن إحدى الأسر الباقية في القرية القديمة ابتنت بيتاً جديداً استخدمت فيه نوعية الحجارة نفسها التي بنيت منها بيوت قرية قريع، فلما رزقت بمولود جديد... ظهر أنه أبكم!
بعض السكان المسنين يقول إن أموراً خارقة وراء هذه الظاهرة والبعض الآخر يرجعها إلى أن المكان مسكون بالجن. لكن لا أحد يبرئ حجارة ذلك الجيل من هذا التأثير العجيب.
ولو نطقت حجارة قريع لقالت: ألا تعتقدون أن خطايا بني آدم هي التي سوأتني؟ ثم مالكم قلقين؟ لقد عشتم عشرين قرناً بلا ألسنة، فماذا سيضيركم مما أصنعه منذ عشرين عاماً فقط؟! ثم إن اليمن مهد وجودكم، يا أعزائي العرب، وها هي الأقدار قد أرسلتني اليكم بعد أن غادرتم المهد قائلة: هيه... لقد نسيتم «عدة السلامة». هيا إذاً، توكلوا على الله وسموني «حجارة المواطنة الصالحة»!