آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

عذابات سوداء!

أشعر بالخزي من الحياة في بلادٍ لا يزال فيها الإنسان الأسود مجرد "خادم" مرتبط ذهنياً بكل ما هو قذر. القذارة هي ربط الإنسان الأسود ذهنياً بكل ما هو قذر.

مضى زمن بعيد ولم تتزحزح حقوقهم قيد أنملة. لم يحققوا شيئاً البتة. كانوا أخداماً أيام الدويلات اليمنية. في جبلة كانوا أخداماً وكانت السيدة أروى بنت أحمد تطل من نافذة مخدعها لترى رعاياها يتجولون وبينهم بعض الأخدام.

قرأ الناس، وأثرى فقراء الماضي، وأصبح في اليمن مثقفون كثر وجامعات، وتجارب حزبية مدهشة، وتحول قصر السيدة أروى في جبلة إلى خرابة، ولم يعد المتجولون قرب القصر الخرب رعايا أروى، غير أن السود قرب أطلال القصر لا يزالون أخداماً.

ستون عاماً تقريباً بين تمسك امرأة سوداء في أمريكا بمقعدها في الباص رافضة التمييز حينما صرخت: لن أقوم من مقعدي، سئمت هذا كله.

ستون عاماً بين سأم السيدة السوداء على مقعد الباص ومقعد البيت الأبيض الذي جلس عليه أسود اسمه "أوباما". تتحرك ذهنية القاطنين في أكثر بقع العالم تعرضاً للقسوة والتمييز، فيما لم أسمع شيئاً عن إمكانية دفع السود في اليمن عن طريق الاحتقار ومحاولة تجنيبهم قذارات ذهنية لم تقم بخطوة واحدة في طريق القبول بالأفكار الإنسانية منذ زمن بعيد.

الذين يقومون لكل صلاة، والذين يعطفون على اليتيم بصدق، والذين يمجدون أخلاق الفرسان، والذين هم على درجة من الشهامة، قيّمو المساجد، وعاهرات الأزقة القديمة، طلبة ثالث إعدادي، وكتّاب الأعمدة الأسبوعية، وكل الذين سمعوا سيرة عنترة العبسي، وشاهدوا بتأثر مسلسلة الأخير.. لا يزالون جميعاً يحتقرون الرجل الأسود في بداية الألفية الثالثة.. كم كان "الحُمَّدي" -ليس الرئيس- شغوفاً وهو يتلقى مني في سيارته الصالون توصيف الأخدام على أنهم "السود"، وبقي يقترح أشياء كثيرة يمكنني القيام بها لأجل مستقبلي السياسي مطمئناً من جانبي لدعم السود الكامل والمطلق لأي معركة "انتخابية" قد أخوضها، كان يردد: اترك السود عليَّ.

حتى أنه سرد كل الذي كان في ذاكرته من حكايا عن تجمعات قومية في أطراف مدينة إب بلهجة: اتجمعوا السود، راحوا السود، وفي الزواجة ازدحمت آليات السود وقرَّح السود.

ناهيك عن أن التي كان يقول عنها، فلانة، عادة ما يكون اسمها معروفاً ودالاً على انتهائها اللوني، أصبح يوردها في ذات المروية التي لطالما رواها، ولكن هذه المرة تحت مسمى "سوداء" وكيف أن جاهل أسود ضرب ثلاثة جهال بيض.

أعتقد أننا نتجشم عناء في الاعتداء على الأدب مع هذا اللون الإنساني، إذ تتحول المبالغة في التكريم التي يقوم بها مثقف إنساني لأجل رجل أسود هي في الأخير ضرب من التمييز.

يمكننا النظر إلى جورج واشنطن على أنه فنان ملهم، يمكننا احترامه بنفس الطريقة التي نحترم فيها توم هانكس.

هنا قد نشفق غير أننا لا نمتلك الشجاعة الكافية لندرك كم إننا مهترئي المشاعر، وبلا أخلاق تذكر.

أبذل جهداً وأنا أحدق في وجه "شمس"، كانت نائمة بحضن متسولة سوداء، أداعبها بجملة "لو كنتِ في أمريكا لكنتِ مَرَةَ الرئيس"، وأبذل جهداً لأشفق على صغيرتها شمس بدون مبالغات، فيتعذر الأمر وأدرك عمق الأزمة.. ومن ردات فعلهم أدرك أن ألمهم يتجاوز ما نظنه اعتياد السود للأمر.

ذات يوم، أخرجت طعام إفطار لثلاثة عمال سود جلبتهم لتنظيف المجرى المسدود، وبقيت إلى جانبهم أنادي: افعل يا عمر، هات يا عمر. وأروي نكتة، وأقسم أنني هنا لا أستعرض مواقفي (الإنسانية) فالأمر لا يعدو كونه مجرد محاولة.

المهم أن ردة فعلهم أفصحت عن احتقان كائن أسود يتألم جداً.

ويدرك الفارق البسيط بين مستويين للتمييز، أحدهما أقل قسوة ربما.

رفضوا أخذ مقابل بداية الأمر، وأصروا، ورددوا كلمة "إنسان"، وأشياء عن احترام الناس.

أقول إنهم يعرفون، يعرفون تماماً. السود عندنا على دراية كاملة بكل الذي نقوم به ضد كرامتهم.
يمكن تفكيك القصة المهذبة للمجرى أكثر.. إذ كنت في البداية أسأل المارة عن مكان "الأخدام" متحفظاً بمصطلح "السود" في أناي الثقافية.

وهم بدورهم "السود" فطنوا للأمر في غمرة التهذيب. إذ رد أحدهم: احنا ما ننظفش المجاري بس على شانك.

تدرك مع مرور الوقت حالة الفصام التي نعيشها من خلال ربط "السود" بالمشكلات القذرة، ومن ثم محاولة جعل الأمر أقل قسوة بمنحهم وجبة إفطار ونكتة.

وأخيراً رواية الحكاية على هذا النحو، أهذا هو ما كان يقصده ميلان كونديرا بالتعايش الأبدي بين التفاهة والدراماتيكية!

زر الذهاب إلى الأعلى