ذهبت منذ أيام إلي اليمن في زيارة عمل لتدريب الإعلاميين اليمنيين علي «مهارات التواصل»، بالتنسيق مع المجلس العربي للطفولة وذلك في إطار البحث عن تناول إعلامي جديد وفعال ومغاير لظاهرة العنف ضد الأطفال والمنتشرة في البلدان العربية.
ومن مظاهر الظاهرة: ختان الإناث، أطفال الشوارع، عمالة الأطفال، التحرش الجنسي، العنف الأسري والعنف المدرسي.
وكانت في زيارتي الأولي لليمن عدة ملاحظات وبعض التأملات أردت أن أشارككم إياها.
مهارات التواصل تقوم علي مبدأ الاختلاف حيث تواصل كل إنسان مختلف عن الآخر مثل بصمة الأصابع، وأهميته كبيرة لكل إنسان حتي لا يعيش حياة العُزلة بداخله ويفتحه التواصل علي عوالم أخري وأحاسيس أخري فيعيش حياته متواصلاً مع حياة الآخرين ينهل منهم ويعطيهم.
أما مهارات التواصل بالنسبة للإعلامي فلابد أن تكون في نمو مستمر، حتي يتسني له أن يصل لجمهوره وبالتالي يعرف احتياجاتهم فيما يفكرون؟ وفيما يستشعرون؟!
فيصل إليهم فكرياً ووجدانياً.
وبالتالي نقوم بتدريبهم علي فن الإنصات وكيفية تنمية مهاراته، وفن الحوار، وفن المناظرة وفن التقديم والإلقاء.
هذا باختصار ما أحاول أن أشارك به الزملاء الإعلاميين به من خبرات.
والملاحظة الأولي التي لاحظتها هناك هو أن هناك عطشا لمعرفة هذه الملكات التي خلقها الله لنا ووهبها لنا ولم نكتشفها بعد!
عطش للخروج من داخل أنفسنا والعُزلة التي فرضتها علينا أنظمتنا وتقاليدنا وأعرافنا وعاداتنا.. إلخ.
فقد وضعنا المجتمع « ON TRACK» علي قضبان سكك حديدية في اتجاه واحد.. لا نري اتجاهات أخري، ولا نعرف في أي اتجاه نحن نسير.. اتجاه اجباري.
فحالة التواصل مع الآخرين وشعورك بالآخرين، وتأثرك وتأثيرك بالآخرين.. حالة إنسانية مذهلة ولكني أرجعت أيضا - وهذه هي الملحوظة الثانية، سبب عُزلتنا، هي تلك الأساليب التي يتم بها تغييب الشعوب.
فقد وجدت الإعلاميين أنفسهم يجرون بعد الدورة التدريبية حتي «يشتروا» القات ويجلسوا لتخزينه في أفواههم، ويراكموه في الفم - جهة الخد اليسار أو اليمين ما تفرقش - ثم يشربون عصيره.. وهو ما يصنع لهم المزاج العالي «علي حد تعبيرهم».
وعندما أخذوني في جولة وجدت الشعب اليمني بكامله أو قُل في معظمه منتفخ الخد «بيخزن القات» ويسير في الشارع، حتي المراهقين وربما الأطفال، وحتي النساء، وإن كان لا يبدو عليهن بسبب ارتداء الخمار كزي يمني، ولكنهم أكدوا لي أن النساء أيضا يخزن القات.
سألت: وما تأثيره.. يعني بيعمل إيه في الدماغ؟
قالوا: هو عكس الحشيش.. أي أنه منبه وليس مخدرا، وهو يجعلك تستشعر هدوءاً فظيعاً وتسهر الليالي.
هه وإيه كمان؟ هكذا سألت.
قالوا: وبيخفض الكوليسترول.
ثم وجدت ظاهرة في الشارع اليمني أيضا.. عندما تصطدم سيارة بأخري.. كنت أتصور للوهلة الأولي أن هناك معركة ستدور لا مثيل لها.. وأنه سيتم استدعاء الشرطة.. ولكن وجدت هدوءاً غير طبيعي من الاثنين الصادم والمصدوم. ونظرا لبعض وقال المصدوم روح الله يسهل لك.
فقلت: إن هذا الشعب متسامح للغاية.
ولكن الواقعة تكررت أكثر من مرة في يوم واحد قضيته هناك وخلال ثلاث ساعات - وقت جولتي - وفي كل مرة نفس الهدوء لإدارة الأزمة.
فسألت شخصا يمنيا بجواري: انتوا موضوع حوادث السيارة وتسامح الناس بالشكل ده عادي؟
فأجاب: عادي.. الشعب اليمني شعب هادي الطباع.
فقلت علي الفور: ده أكيد تأثير القات.
هذا الشعب - عفواً - غيبه القات.
أو قل غيب بطريق القات.
ولا تندهش.. فلقد تم تغييب الشعب المصري أو نسبة ليست قليلة منه، خاصة الشباب، عن طريق الحشيش، فقد تختلف الوسائل ولكن الغرض واحد.
وهناك - بلا شك - المسئول عن وصول شبابنا إلي هذا الحال، وجعلهم - دعني أقول نسبة منهم يبحثون عن الحشيش بجنون، وهذا ما أظهره اختفاء الحشيش في مصر الفترة الماضية، وتجد هؤلاء الشباب حالمين، خمولين، لا مبالين.
هل هذا هو شباب مصر الواعد؟!
ولا أنكر أنني أري شباباً ناجحاً في أماكن كثيرة، ويتقدمون في وظائفهم بشكل ملحوظ، وهمه بالفعل شباب يفرح.. لكن ما هي نسبتهم؟!
ليس هذا فقط بل إن «الحشيش» يمتد إلي فئة الحرفيين من نجارين إلي ميكانيكية إلي باقي الحرف، وتجد العامل المصري الذي كان يتميز بالحرفية العالية والهمّة والنشاط والذكاء والفن، تجده في الجيل الحالي عاملا غير نشيط وخامل ولا يركز في عمله، ويحتاج إلي التوجيه والرقابة الدائمين حتي تأخذ منه شغل.
وهذا ما فعله النظام بمختلف اتجاهاته في مختلف البلاد العربية بشعوبه.
هذا التغييب العقلي والوجداني اصطاد الإنسان من داخل هؤلاء الشعوب، وأصبحوا مٍسيرين بالريموت كونترول، وإن ظل الوضع علي ما هو عليه لن نجد يوماً جيلاً تقوم علي أكتافه هذه الدول. ومن سييء إلي أسوأ.
في اليمن غيب القات شعبها، وأصبح بلداً من العصور القديمة وسارت به عجلة الزمن للخلف.
وفي مصر توه الحشيش شعبها، وأصبحت بلا رغبة حقيقية في التقدم.
فهل يستحق شبابنا هذا المصير؟
وماذا ننتظر منهم؟
وعلي رأي نزار قباني:
أيها النبع الذي يمطر ماس
وحشيشاً.. ونعاس
أيها الشيء الذي ليس بصدق
دمت للشرق.. لنا
عنقود ماس
للملايين التي عطلت فيها الحواس