لم يتبق من دول العالم غير عدد بسيط من الدول التي لم تفرض حدا أدنى للزواج، ويبدو أننا نتنافس على المركز الأخير في هذا المجال مع بعض الدول الشقيقة والصديقة مثل اليمن والسودان وبعض دول الخليج العربي وسلطنة بروناي وربما دول أخرى قليلة لا تتوفر لدي معلومات كافية عنها.
الأغلبية العظمى من دول العالم اقتنعت بأن الزواج في الزمن الحاضر مسؤولية تتطلب قدرا كافيا من النضج الفكري والنفسي والجسدي والخبرة والتعليم والدخل المادي تتجاوز قدرة أغلب الصغار على تحملها، ولذا حددت سنا معينا لا يسمح لمن يقل عنه من الفتيان والفتيات بالزواج. بعض المعاهدات الدولية الصادرة من منظمة الأمم المتحدة تلزم كافة الدول الموقعة عليها بتحديد سن الزواج وأخذ موافقة رسمية من الطرفين. أغلب الدول حددت ما بين الثامنة عشرة والواحدة والعشرين للذكور وبين السادسة عشرة والثامنة عشرة للإناث، مع وجود استثناءات تتم في حدود ضيقة بموافقة أولياء أمور العروسين والجهات الرسمية.
كثير من الدول تحدد مرحلة الطفولة بما دون الثامنة عشرة وقد ينخفض الحد إلى الخامسة عشرة، ولم يعد سن البلوغ، كما كان في السابق الحد المتعارف عليه للنضوج. الموضوع يمس البنات بصورة أكبر حيث تقع عليهن أعباء الحمل والولادة وتربية الأطفال ولأن زواج القاصرات هو الذي يشكل المشكلة الأعم التي سنت القوانين للحد منها.
المشكلة لدينا تبدو لي في تحرج الجهات الشرعية من منع شيء لم ينص الشرع الحنيف على تحريمه وكذلك استنادا على اقتران نبينا الكريم وقدوتنا عليه أفضل الصلاة والتسليم بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في سن مبكرة. ولا شك في أن اتباع الشرع الحنيف أهم لنا من مجاراة العالم مثلما هو الحال في أمور أخرى كشرب الخمر وسفور النساء وترخيص البغي يعتز مجتمعنا بخصوصيته فيها حتى لو كنا الوحيدين في ذلك. الفرق هو أن هذه الأمور تمس أشياء نص الكتاب الكريم والسنة المشرفة على تحريمها والتزمت جماعة الأمة بذلك، في حين أن تزويج القاصرات، حول سن العاشرة مثلا، أصبح في وقتنا الحاضر تصرفا محدودا لا تقوم به إلا أقلية بسيطة في مجتمعنا، أقول هذا بناء على الوسط الذي أعيش فيه حيث لا توجد لدي إحصائيات عن أعمار الفتيات عند الزواج في كافة أنحاء بلادنا وما يصل إلى وسائل الإعلام من حوادث متفرقة لزواج قاصرات يتضح منها غالبا وجود أسباب مادية تضطر ولي أمر الفتاة لتزويجها في سن الطفولة. وفي اليمن الشقيق احتل زواج القاصرات موقعا إعلاميا أكبر بسبب بعض الأحداث البارزة مثل حادثة الطفلة نجود، أصغر مطلقة في العالم، التي طلقت وهي في العاشرة من عمرها وطفلة أخرى توفيت بسبب المعاشرة الزوجية في سن مبكرة. ولا شك في أن هناك أعدادا لا يستهان بها من الحوادث المشابهة من زواج القاصرات الناتجة عن القسر والاستغلال والتي ينطبق عليها بالتأكيد مفهوم العنف الأسري.
الحرج من منع، أو بالأحرى تنظيم، شيء لم ينص الشرع على تحريمه لم يعد مبررا وأقرب مثال على ذلك إلغاء الرق. الإسلام كان من أكثر الأديان حثا على عتق الرقيق وحسن معاملتهم، ومع ذلك لم يحرم الرق الذي كان شائعا في أغلب دول العالم حتى سنت المعاهدات الدولية لمنعه فكان مناسبا، بل ضروريا، التمشي مع بقية العالم في تطبيق هذا المنع الذي تفخر الإنسانية بتشريعه. ثم إن تحديد سن الزواج ليس فيه في الواقع تحريم مطلق لشيء أحله الله وإنما فقط تأجيل لسنوات قليلة بعد سن البلوغ الذي هو الحد الأدنى لتفعيل عملية الزواج. وقد حدث مثل ذلك بالنسبة لتنظيم النسل. كما أن أغلبية الدول المسلمة شاركت بقية دول العالم في تحدد سن أدنى للزواج..
أما بالنسبة للاستناد على زواج نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام من السيدة عائشة فإن من نافلة القول أن هناك رخصا تميز بها المصطفى الأمين مثل عدد الزوجات لا يحق لبقية المسلمين المطالبة بمثلها، وأين نحن من خير بني آدم؟ علما بأن ظروف زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة لم تكن شيئا استثنائيا أو مستغربا في ذلك الحين بل كان أمرا عاديا وشائعا.
حماية شريحة ضعيفة من مجتمعنا، هي البنات القاصرات، من الاستغلال والعنف والتعسف، هو عمل إنساني مطلوب حان وقته، ويجب ألا يؤجل أو ينحى لأسباب يعدها البعض ملزمة بينما قد يكون الأمر غير ذلك، والأولى الاجتهاد في دفع الضرر الواضح وتفعيل ما يتقبله الرأي العام في بلادنا وغيرها من الدول الإسلامية والعالم أجمع.